شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تنامي ظاهرة الجرائم البشعة كابوس يؤرّق التونسيين

تنامي ظاهرة الجرائم البشعة كابوس يؤرّق التونسيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 30 نوفمبر 202102:32 م

أمٌّ تذبح طفليها بسكينٍ، وتلقي بنفسها من الطابق الثالث، بسبب خلافٍ بسيطٍ مع زوجها. زوجٌ يضرم النار في جسد زوجته، لرفضه حصولها على رخصة قيادة سيارة. تلميذٌ يطعن أستاذه بالسكين، و"الساطور"، بعد أن منعه من اجتياز امتحانٍ. ابنٌ يقتل أمه وأباه وشقيقه الأصغر، طعناً، ثم ينتحر، والسبب خلاف مع والده. فتاةٌ تُغتصَب، ثم يلقى بها جثةً هامدةً على قارعة الطريق، خلال عودتها من عملها. أبٌ يغتصب طفليه اللذين يبلغان 3 و5 سنوات... هي أخبار عن جرائم بشعة، وفواجع ترتكب في تونس بشكل شبه يومي، وأصبحت بمثابة الكابوس الذي يؤرّق المواطن، ويفقده الإحساس بالأمان، في ظل تنامي ظاهرة الجريمة البشعة التي تفتك حتى بأفراد الأسرة الواحدة.

يثير الارتفاع في منسوب الجريمة في تونس، في الفترة الأخيرة، بشكلٍ لافت، العديد من التساؤلات حول أسبابه ودوافعه. فلا يكاد يمرّ يوم واحد من دون حدوث جريمة بشعة تهز الرأي العام، وتدق ناقوس الخطر حول تنامي ظاهرة العنف، وتصاعد وتيرة الجرائم البشعة، وتوسّع عالم الجريمة، ليطال حتى الوسطين العائلي والمدرسي، في ظل غياب إستراتيجية واضحة لمواجهته.

أرقام مخيفة

يؤكد تقرير منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتعلق بالعنف، أن شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي شهد تطوراً ملحوظاً في منسوب العنف، واتّخذ أشكالاً أكثر تطرفاً في الفضاء العائلي، وبين الأزواج، وانتهى في أكثر من مرةٍ بقتل الزوجة، وقد بلغت نسبته 21.2 في المئة، أي ربع العنف المرصود، فيما بلغ العنف في الفضاء العام، من "نشلٍ وسرقة وعنف إجرامي" 77.3 في المئة، محتلاً بذلك المرتبة الأولى.

امرأةٌ تقتل أبناءها وتنتحر. رجلٌ يعتدي على أبنائه جنسياً. تلميذٌ يطعن أستاذه؛ تعددت الجرائم وأسبابها في تونس، والعنف واحد

وترى منسقة المرصد الاجتماعي التونسي، نجلاء بن عرفة، أن العنف أصبح آلية تعامل في المجتمع، وسط غياب إستراتيجية وطنية عميقة تأخذ بعين الاعتبار تنامي الظاهرة، وتعالجها، واعتماد حلول كلاسيكية تتمثل في العقوبات السجنية، بدلاً من الإصلاح.

وتعزو بن عرفة، في حديثها إلى رصيف22، تفاقم الجريمة، إلى العديد من الأسباب، أبرزها ظاهرة الإفلات من العقاب، ولجوء الطبقة السياسية بمن فيهم أعضاء البرلمان المجمَّد، إلى العنف المادي واللفظي والجندري، عوض أن يكونوا مثالاً يحتذى به في احترام القانون الذي يشرّعونه، بالإضافة إلى التطبيع مع العنف، وعدم ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، مما يدفعه لاستعمال العنف كوسيلة تعامل.

ولاحظت المتحدثة أن العنف تطور ليضل إلى استعمال السلاحين الأبيض والناري، وفي بعض الأحيان أصبح العنف الشديد الحل الأول لفض الإشكالات، ووسيلةً لإدارة الخلافات في العائلة، وفي الشارع، مذكرةً بأن المنتدى كان قد حذّر في أكثر من مرةٍ، من مغبة التهاون في معالجة ظاهرة العنف من قبل الحكومات المتعاقبة. كما رأت أن ما يحدث اليوم، هو نتيجة حتمية لتهميش المعطى الاجتماعي، والانشغال بالوضع الاقتصادي، من دون تحقيق نتائج إيجابية تُذكر. كما بيّنت أن الإحصاءات تشير إلى "جندرة العنف"؛ فبعد أن كانت المرأة ضحيةً للعنف طوال سنوات، أصبحت اليوم تستعمل العنف لفرض نفسها، واسترجاع حقّها، أو للدفاع عن نفسها، كما انخرطت في جرائم عنفٍ، وسلبٍ، واستعمالٍ للسلاح، وتزعّمت عصابات.

وأبدت نائلة بن عرفة، استياءها من انخراط أطفالٍ، منذ عمرٍ مبكر جداً، بعضهم في سن التاسعة، في الجرائم، والنشل، وحمل السلاح، عادّةً أن غياب الرقابة عن هذه الفئة، وانقطاع أكثر من مئة ألف طفل عن الدراسة سنوياً، عوامل أدّت إلى هذه الظواهر، كما بيّنت أن الأطفال هم أكثر فئة مهمشة، نظراً لغياب مؤسسات ثقافية ورياضية تؤطّرهم.

تغيّرات جذريّة

توالت في الأشهر الأخيرة حوادث عنفٍ وحشيٍّ في العديد من محافظات البلاد. فقد شهد معهد ابن رشيق، في محافظة بن عروس، حادثة اعتداء تلميذ على أستاذه باستعمال ساطور، مما استوجب نقله على جناح السرعة، لتلقي الإسعافات اللازمة، وخضع لسبع عمليات لإنقاذ حياته. إمام مسجد لم يسلم بدوره، وتعرّض لعملية طعنٍ بالسكين، جرّاء خلافٍ عقاري بينه وبين المعتدي.

جرائم بشعة تُرتكَب لمجرد خلافٍ بسيطٍ في العائلة، أو مع الجوار، ويمكن أن تُحلّ بطرقٍ سلميّة، وهو ما يدلّ على حالة التفكك الأسري، والمجتمعي، واضطراب للقيم، وغياب لأسس الحوار. وإن كانت الجرائم تُرتكَب بهذه البشاعة بين أفراد العائلة الواحدة، فما بالك بتلك التي تُرتكَب في عالم الجريمة

يؤكد الأستاذ في علم الاجتماع، سامي نصر، وجود ارتفاعٍ على مستوى نسبة الجريمة، وسط تناقضٍ بين النسب الوطنية، والتقارير الدولية المعلن عنها، وما يتم معاينته من ارتفاعٍ فظيعٍ للجريمة، أي أن الإحصاءات قد تكون مغلوطةً، ولا تترجم الواقع.

كما أوضح أن نسبة نمو الجرائم العنيفة لم ترتفع على المستوى الكمي كثيراً، لكن على المستوى الكيفي. هناك تغيّر كبير، فقبل الثورة كانت 80 في المئة من القضايا السجنية تدخل في إطار الجُنح. أما حالياً، فإن أغلب الجرائم من النوع الخطير الجنائي، وذلك يترجم العنف الذي استشرى في أوساط الجانحين الذين أصبحوا لا يترددون في ارتكاب جرائم جنائية.

وعزا المتحدث ارتفاع نسب الجريمة الخطرة إلى سببين: الأول هو تفشّي ظاهرة استهلاك المخدرات، التي تُرتكَب تحت تأثيرها أنواع خطيرة من الجرائم. أما السبب الثاني، فهو أنّ كل تونسي له شحنة مكبوتة من العنف، قادرة على الخروج لأبسط الأسباب، أي أنّ إشكالاً بسيطاً يتحول إلى جريمة قتلٍ، أو محاولة قتل.

كما أبرز أن المجتمع التونسي تهيمن عليه الثقافة العنيفة في شتى المجالات؛ السينمائية، والإعلامية، والدرامية، والتربوية، فما بالك بالواقع اليومي للإجرام؟ وأضاف: "كل مجتمع له قدرة على استيعاب جرائمة، لكن هناك فترات معينة تمرّ بها المجتمعات، تصبح معها غير قادرٍ على الاستيعاب، على غرار ما تعيشه تونس اليوم".

أصبحت المرأة تستعمل العنف لفرض نفسها، واسترجاع حقّها، كما انخرطت في جرائم سلبٍ، واستعمالٍ للسلاح، وتزعمت عصابات. تونس في مواجهة دوامة العنف

ويرى أستاذ علم الاجتماع، أن المجتمع التونسي يحتاج إلى ما يُسمّى بالمناعة الجماعية التي ذكرها عالم الاجتماع إميل دوركايم، في كتابه "الانتحار"، مبيناً أنها تتلخص في مجموعة من القيم. وتابع: "هناك أزمة قِيم في تونس، وآلية الضبط الاجتماعي المتمثلة في الولي، والمربّي، والأمني، والدولة، تُهمَّش، كما فقد المجتمع آليات حمايته، وأصبح فاقداً للمناعة الجماعية لاستيعاب الجرائم. أي أن آليات إنتاج العنف والجريمة متوفرة، وفقدنا آليات محاربتها".

ورأى نصر أن تونس في حاجة إلى إستراتيجية وطنية لمقاومة العنف الذي أصبح ثقافةً تحتاج إلى علاج يتم من خلاله تحديد الحلول القريبة والبعيدة والمتوسطة المدى، إلى جانب تنظيم مؤتمر وطني يتكون من ورشات عمل للعديد من القطاعات، سواء الأمن، أو الإعلام، أو القضاء، وكذلك مؤسسات السجون والمربّين، تنتج عنها توصيات كحلول عاجلة، وقريبة، وبعيدة المدى.

عنف مدرسي مزدوج

سحب العنف المجرسي بساط الاهتمام الإعلامي عن العنف الأسري، والمرتكب ضد المرأة، فقد مثّلت حادثة الاعتداء على أستاذٍ، النقطة التي أفاضت الكأس، في ظل ارتفاع وتيرة الاعتداء على الأساتذة من قبل الأولياء والتلاميذ، والتي تفاقمت في الآونة الأخيرة. وقد قرر العاملون في التعليم الدخول في سلسلةٍ من التحركات الاحتجاجية، للحدّ من اتّساع رقعة العنف، ودفع الجهات المعنية لإيجاد حلول ناجعة.

في المقابل، يتعرض التلاميذ بدورهم إلى عنفٍ لفظي ومعنوي، وأحياناً جسدي من قبل بعض المربّين، وتم في أكثر من مناسبة نشر صور ومقاطع فيديو توثّق هذه الاعتداءات.

وفي عام 2019، أُوقِف معلمٌ اعتدى جنسياً على 20 تلميذاً (17 من الإناث وثلاثة من الذكور)، كما تعرّضت تلميذة لاعتداء بالعنف من قبل أستاذها في قاعة الدرس.

وأكد رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ، رضا الزهروني، أن العوامل الخارجية تنمّي العنف المدرسي الذي يتأثّر بالعنف في العائلة، والمجتمع، وفي مجالات الإعلام والسياسة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، والألعاب الإلكترونية، مضيفاً أن المنظومة التربوية في أدائها الحالي، ساهمت في نشر العنف.

ويرى محدّث رصيف22، أن فئة الـ15 سنةً هم من المراهقين الذين يصعب التحكّم فيهم، حتى في الوسط العائلي، خاصةً وأن العديد من التغيرات قد طرأت على المجتمع الذي ارتفعت فيه نسبة الحرية، وانشغل الأولياء عن تربية أبنائهم، كما تغذّت النقمة لدى الأطفال الذين يرون أفق النجاح والتفاؤل مسدودةً، فيتوجهون نحو مقاعد الدراسة محبطين، ومهمّشين، ويلجأ بعضهم إلى العنف، في ظل غياب إستراتيجية حقيقية للوقاية منه، ومعالجته.

كما رأى الزهروني، أن الإضراب الذي دخل فيه المربّون، بعد حادثة العنف التي تعرّض لها الأستاذ من قبل تلميذه، يُعدّ عنفاً مسلّطاً على معنويات الطفل، ودخلنا بذلك في دوامة البحث عن المسؤول الرئيسي عن العنف المدرسي، وهل هو المجتمع، أم الأولياء، أم المدرسة؟

واستنكر رضا الزهروني التعامل مع العنف بصفٍة ظرفيةٍ، من قبل المجتمع والإعلام، عادّاً أن انعدام الفكر الإستراتيجي، والتصرّف اليومي، هما اللذان أدّيا إلى المشكلة التي نعيشها اليوم، وتالياً وجب التعرف على مصدر العنف لمقاومته. كما أكد أن القضاء على العنف لا يتم من خلال سن قوانين تجرّمه، بل عبر وضع إستراتيجيات ميدانيّة بامتياز، أي معالجته وسط المؤسسة التربوية، ليختم قائلاً: "هناك مؤسسات تشكو من نسبة عنف كبيرة، وكلُّ لها نوع خاص، إما لفظي، أو جنسي، أو سياسي، أو أيديولوجي. لذا، من الأجدر تقصّي نوعية العنف، والتعرف إلى الأطراف المساهمة فيه، لخلق خطط ميدانية تحدد الجهات المعنية، والمسؤوليات، والخروج بأهداف مضبوطة في المكان والزمان، والتركيز على الحوار، وضبط النفس".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard