في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2010، أقدم الشاب التونسي ابن محافظة سيدي بوزيد، محمد البوعزيزي، على حرق نفسه أمام مقر المحافظة، احتجاجاً على مصادرة عناصر الشرطة البلدية عربته "البرويطة"، التي كان يعمل عليها كبائع متجول يبيع الخضار والغلال، بزعم العمل في مكان ممنوع.
أشعلت حادثة البوعزيزي البلاد، من شمالها إلى جنوبها، وكانت شرارة الثورة التونسية، وما يُعرف بالربيع العربي، وأصبحت عربة البوعزيزي رمزاً لثورة الطبقة الكادحة ضد النظام وإجراءاته، واليوم يقبع مجسّم "برويطة" البوعزيزي على بعد أمتارٍ من مكان الحادثة، ليذكّر بعلاقة القطيعة المستمرة بين السلطة، وأصحاب هذه العربات.
"كما تعلمين، تتصدر محافظة القيروان (وسط غربي)، نسب الفقر والبطالة والتوقف المبكّر عن التعليم في تونس. وكغالب الأسر، تعيش أسرتي أوضاعاً اجتماعيةً واقتصاديةً مزرية، ما دفع بوالدي إلى الانتقال إلى تونس العاصمة، لإيجاد مورد رزق يساعدنا على تحسين أوضاعنا"، يقول فؤاد (اسم مستعار)، لرصيف22.
يعيش فؤاد وعائلته في أحد أحياء العاصمة الشعبية، حيث أسعار إيجار المنازل منخفضة مقارنةً ببقية الأماكن، واقتنى والده "برويطة" صغيرة حتى يسترزق منها، واختار إعداد "الكاكاوية الملبسة" (حلوى مصنوعة من الفول السوداني)، وبيعها على هذه العربة.
مع تقدّمه في السن، وتدهور حالته الصحية، منح الأب "البرويطة" لفؤاد البالغ 18 سنة، حتى يعمل عليها بعد انقطاعه عن الدراسة، لمساعدة والده على إعالة أسرتهما، "فلم يكن أمامه خيار آخر سوى التضحية، وتحمّل المسؤولية"، يضيف.
التقينا بفؤاد في شارع باريس، في تونس العاصمة، وهو أحد الشوارع المكتظة بالمتجولين، وخاصةً من الطلبة والتلاميذ، وهو يعدّ الكاكاوية الملبّسة الساخنة، ويضعها في أكياس بلاستيكية صغيرة استعداداً لبيعها في هذا الطقس البارد والممطر.
ظاهرة قديمة
يوضح أستاذ علم الاجتماع، محمد نجيب بوطالب، أن ظاهرة العمل على "البرويطة" ضاربة في القدم، وتنتشر في صفوف ضعاف الحال، والبسطاء الذين يبيعون منتجاتٍ متنوعة من خضار، وغلال، وحلويات، وملابس داخلية، وألعاب للأطفال، وجوارب.
ويقول لرصيف22، إن هذه الفئات الاجتماعية الضعيفة، تكوّن مشاريع تجارية صغرى خاصةً بها على هذه العربات، وهي عبارة عن دكاكين متنقلة تتغير منتجاتها بتغيّر الفصول.
وأشار إلى ظاهرة "الشلاق" التي تنتشر خاصةً في الأرياف التونسية، وهي عبارة عن شابٍ يحمل مجموعةً من الحاجيات النسائية على عربته، ويتنقل بين المساكن، ويمدّ النساء اللواتي لا يتمكّنّ من الذهاب إلى الأسواق بحاجياتهن الخاصة، بالإضافة إلى العربات المجرورة لنقل الحرفيين، وبضائع التجار المنتشرة قديماً في محطات القطارات، والموانئ.
كل صباح، يختار فؤاد مكاناً له في أحد الشوارع المكتظة، وعليه ألّا يعود إلى البيت إلّا وقد بيعت جلّ بضاعته، أو على الأقل أكثر من نصفها، فعليه أن يوفّر كل شهرٍ مصاريف إيجار المنزل، وفواتير الكهرباء، والماء، والأكل، والشرب.
يختلف تعامل المواطنين مع فؤاد، حسب شخصية كل زبون، فهناك من ينظر إليه "بعين كبيرة، ويحترم شقاءه وعمله على البرويطة بشرف، ويشتري منه الحلوى والابتسامة تعلو محياه، فيما ينظر إليه آخر باحتقار وازدراء على أنه مجرّد ‘براوْطِي’ دخيل على العاصمة"، وفق تعبيره.
كرّ وفر
أما معضلة فؤاد، فهي أيام الكرّ والفر مع عناصر الشرطة البلدية التي تلاحقه، وعشرات العمال على "البرويطة"، فتحتجز سلعهم، وتفرض عليهم غرامات مالية بدعوى عملهم الفوضوي وغير القانوني في المكان، كما يؤكد الشاب. وأضاف: "لا يراعون أوضاعنا الاجتماعية، ولا ضيق حالنا، ويعاملوننا باحتقار خلال حجز بضاعتنا، فهم يعتقدون أننا نحقق أرباحاً طائلةً من وراء هذه البرويطة، ونحن لا حول لنا ولا قوة، يعني لا توفر لنا الدولة عملاً، ولا تتركنا نعمل بمجهوداتنا الخاصة"، يختم.
منذ الثورة أصبحت البرويطة في تونس رمزا لمن قلبوا النظام. اليوم يعيش آلاف التونسيين بفضلها ويعانون مثل ما عاناه بوعزيزي
في مدخل المدينة العربي في محافظة سوسة على الساحل التونسي، تجذبك صفوف "البرويطة" المنتشرة، وعليها أصناف متنوعة من البضائع والسلع المعروضة على المواطنين.
رحّب بنا مكرم يوسفي (30 سنة)، ابن محافظة سيدي بوزيد، ولم يجد حرجاً في التحدث إلينا، وكشف هويته الأصلية.
مكرم عاشِر أبناء أسرته، ورابع الأشقاء الذين يحملون إعاقات جسدية. ترك مقاعد الدراسة كبقية أشقّائه مبكّراً، بسبب ضيق حال أسرته التي انتقلت للعيش والعمل في سوسة.
يعمل مكرم منذ سنة 2008 على "برويطته"، في بيع ملابس الأطفال، مورد رزقه الوحيد، لإعالة أسرته الصغيرة، فهو متزوج حديثاً بعد إعالته أسرته الكبيرة لسنوات.
أمامَ مكرم مسؤوليات عدة، عليه الوفاء بها، وأولها دفع إيجار السكن: "فلا يمكننا امتلاك منزل في تونس، نظراً إلى غلاء أسعار شراء المنازل"، يعلّق ضاحكاً، إلى جانب دفع فواتير الكهرباء، والماء، وتوفير مصاريف المنزل، من أكل وشرب وملابس.
إقصاء
تُعدّ ظاهرة الباعة المتجولين في شوارع تونس قديمةً، لجأت إليها الفئات الهشة التي أقصتها المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الرسمية، كشكل من أشكال العمل الموازي، واكتسبت زخماً بعد الثورة، خاصةً مع رمزية حادثة البوعزيزي، واكتسحت شوارع المدن الكبرى كافة، يوضح الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر.
وتأسس المنتدى المذكور سنة 2011، وهو منظمة غير حكومية مستقلة تُعنى بالدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على المستوى القومي والدولي.
وتشمل هذه الظاهرة الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشةً التي تفتقر إلى موارد رزق قانونية، وتأتي من المناطق الداخلية التونسية (الجنوب والوسط والشمال الغربي)، وبما أن إحداث مشروع تجاري منظّم في متاجر، يتطلب كلفةً ماديةً تعجز عن توفيرها، فهي تنتشر خاصةً في الشوارع الكبرى للعاصمة تونس، وتُسمّى أيضاً بظاهرة "الجلامة وجماعة سبيبة"، يضيف بن عمر، لرصيف22.
كما تتحدر أغلب هذه الفئات من أكثر المناطق فقراً، وتصدراً لنسب البطالة والتوقف عن الدراسة مبكراً، وغير المندمجة في الاقتصاد الوطني الرسمي، وفق المصدر ذاته.
ظاهرة"البرويطة" في شوارع تونس قديمةً، لجأت إليها الفئات الهشة التي أقصتها المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الرسمية، كشكل من أشكال العمل الموازي، واكتسبت زخماً بعد الثورة.
عند الساعة الثامنة من صباح كل يوم، يأخذ يوسفي مكانه وسط زملائه، ولا يعود أدراجه إلّا مع قرب غروب الشمس، وهو مجبر على توفير 15 ديناراً (5 دولارات)، لقاء عمل كل نهار، وإلّا لن يستطيع الوفاء بمسؤولياته، "ولكن المردود تراجع كثيراً خلال السنوات الأربع الأخيرة"، يوضح لرصيف22.
حسب مكرم، تربط أصحاب العربات المجرورة بالمواطنين والحرفاء علاقة جيدة، فكثيرون منهم عبّروا له عن امتعاضهم، بعدما منعتهم السلطة من العمل خلال فترة انتشار كورونا في البلاد، "لأننا نضفي حركية وأجواء على المدينة العتيقة".
سوق سوداء
في المقابل، يشكو مكرم من عدم سماح سلطات البلدية لهم بالعمل، "لأننا في نظرها سوق سوداء موازية فوضوية، فتحجز لنا سلعنا، وتفرض علينا غرامات مالية تفوق أرباحنا، ونعجز عن سدادها. إن كنا كذلك، فعليها أن تجد لنا حلولاً واقعيةً ملموسةً بدل الوعود الزائفة"، يقول.
ويضيف أن سلطات البلدية وعدتهم بتوفير أماكن للعمل فيها بصورة قانونية، ولكنها لم تفعّل قرارها، بينما "لا تعاقب، ولا تستهدف بحملاتها وإجراءاتها إلا أصحاب العربات، أي الفئة الضعيفة"، حسب تعبيره.
وينتقد بشدّة وصم الدولة لهم بممثلي ما يُسمى في تونس بـ"الانتصاب الفوضوي"، لكنها بحسبه "تتغاضى عن بارونات الفساد الكبار الذين يُدخِلون السلع الموازية عبر الحدود، من دون مراقبة ومحاسبة".
ويشدد على أن وضع أصحاب العربات المجرورة "تدهور أكثر بعد الثورة، إذ كانوا يعامَلون باحترام قبلها"، ويضيف: "بصراحة في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي لم أتعرض بتاتاً إلى احتجاز بضاعتي، ونحن لا نطلب شيئاً إلا العمل لنعيش".
غير بعيد عن مكرم، يقف ماهر (اسم مستعار)، خلف "برويطته" الصغيرة المليئة بمستلزمات الفتيات الصغيرات، من ربطات الشعر وأشرطته وإكسسواراته، إلى مختلف أنواع المساحيق، ينتظر زبوناً ليقتني منه ما تيسّر من الحاجيات.
درس ماهر (35 سنة)، ابن محافظة جندوبة، إلى حدود السنة التاسعة أساسي (الإعدادية)، وانقطع عن الدراسة بسبب ظروف عائلته الصعبة. وهو يعمل منذ عشرين سنة على "البرويطة"، مذ كان يبلغ من العمر 15 سنةً، "تقريباً مرّ عمري كله في هذا العمل، ونسيت كيف أخصص الوقت لنفسي، للاستمتاع كالآخرين"، يقول لرصيف22.
بدوره، يعمل ماهر يومياً من شروق الشمس حتى غروبها، ويسرق بعض الدقائق، كما شاهدناه، ليأكل ما تيسّر من طعام الغداء خلف عربته، وهو حال أغلب أصحاب العربات المجرورة.
توفيت والدة ماهر، فتحمّل باكراً مسؤولية أشقائه الأربعة، وتوفير حاجياتهم الأساسية كلها، وهو "راضٍ بقدري، فيوم أربح ويوم أخسر".
وفق ماهر، تختلف نظرة المواطنين إلى أصحاب العربات المجرورة من شخص إلى آخر، ومن عقلية إلى أخرى، "فهنالك من يحترمنا ويقدّر تعبنا، ويشتري من عندنا، وهنالك من يزدرينا ويقلل من شأننا، ومن قيمة سلعنا، ويحتقرنا"، يقول.
أما عن تعاطي السلطات الأمنية معهم، فأبدى ماهر الكثير من التحفّظ، قائلاً: "نتعرّض للمضايقات عندما تكون هناك أوامر عليا صادرة حسب المزاج والوقت"، قبل أن يؤكد أن "الدولة لا توفر لنا مصادر رزق، ولا تتركنا نعمل بحرية باجتهادنا الخاص".
برويطة المقاومة
يعزو المتحدث الرسمي باسم "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، انتشار العمل على "البرويطة" في تونس، إلى تحوله إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية للاقتصاد الرسمي الذي يقصي هذه الفئات الهشّة، وإلى القوانين التي تجرّم هذا العمل، وإلى ممارسات أعوان الشرطة البلدية وهياكل التجارة، "فالعربات المجرورة هي وسيلة لمحاولة الإفلات من أشكال الرقابة كلها".
ويجرّم القانون التونسي الظاهرة، إذ اتخذت وزارات عدة، قرارات منذ سنة 2011 لمقاومتها، "شاهدنا حملات استعراضية عدة لأنها تستهدف الفئات التي تمثّل الحلقة الأخيرة في مقاومة هذه الظاهرة فحسب"، يضيف بن عمر، لرصيف22.
وعلى سبيل المثال، أقرّت محافظة صفاقس (الجنوب)، في أيار/ مايو 2020، جملةً من الإجراءات لمقاومة ظاهرة العربات المنتشرة في شوارع المنطقة، من بينها التثبت من الوضعية الاجتماعية لجميع التجار المنتشرين "فوضوياً"، والحصول على نسخ من هوياتهم، وإحالتها على لجانٍ محلية وجهوية، لمعرفة مقرّات سكنهم الأصلية، ووضعياتهم الاجتماعية الحقيقية.
وفي محافظة أريانة (شمال غرب العاصمة)، نفّذت عناصر الشرطة البلدية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، حملاتٍ أزالت خلالها قرابة 120 سوقاً عشوائية، وحجزت نحو 40 طنّاً من الملابس والأحذية والحقائب اليدوية المستعملة، في محيط السوق البلدي وسط مدينة أريانة.
ووفق بن عمر، فإن معالجة هذه الظاهرة تستوجب العمل على إدماج هذه الفئات الاجتماعية في الدورة الاقتصادية القانونية الرسمية، في أسواق وفضاءات منظّمة، مع ضرورة توفير شرط سهولة ولوج المواطنين إلى هذه الفضاءات.
وشدد على ضرورة اعتماد مسار متكامل لإعادة إدماجهم، وليس عبر حلول ظرفية ترقيعية، للحد كذلك من البضائع المستوردة بطرق غير قانونية التي تغرق السوق التونسية، ولتشجيع المنتجات التونسية بكل أصنافها.
بدوره، يرى أستاذ علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب، أن اعتماد سلطات البلدية على إجراءات حجز بضائع الباعة المتجولين، وفرض غرامات مالية عليهم، يُعدّ "حلّاً أمنياً واجتماعياً ظرفياً لأنه بمنع مورد رزقهم الوحيد، وتساهم الدولة بطريقة غير مباشرة في انحراف هذه الفئات"، يقول.
ويضيف أن عمال العربات المجرورة (البرويطة)، يواجهون من جهةٍ ثانية ضغوطاً من التجار أصحاب الدكاكين الذين يرفضون أن يعملوا أمام محلاتهم، لأنهم "يبيعون سلعهم بطرق قانونية، ويدفعون الضرائب، ويعدّون أصحاب هذه العربات مصدر تهديد لعملهم".
يُذكر أن الغرفة النقابية الوطنية لتجّار الأقمشة والملابس الجاهزة بالتفصيل، كانت قد طالبت في بيان لها في حزيران/ يونيو 2021، كافة السلطات المعنية "بتطبيق القانون في إطار إستراتيجيّة متكاملة للقضاء على ظاهرة ‘الانتصاب الفوضوي’".
وأكدت: "الحق الشرعي للتجّار في ممارسة كافّة الأشكال الاحتجاجيّة التّي يرونها مناسبةً، للحفاظ على موارد رزقهم، واستمرار نشاطهم، وتحقيق مطالبهم".
ويرى بوطالب أن هذه الظاهرة "مشكلة ستبقى موجودة دائماً، وأن الحل هو بالقضاء على البطالة، وتوفير مواطن عمل للفئات الضعيفة والمهمشة، وتمكين أصحاب هذه العربات من فضاءات قانونية يعرضون فيها بضاعتهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...