شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لماذا لا يمكن لطالبة لجوء في فرنسا أن تملك قطّةً؟

لماذا لا يمكن لطالبة لجوء في فرنسا أن تملك قطّةً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 29 أكتوبر 202109:09 ص

لا توجد قوانين في فرنسا تحدد هوية الناس الذين يحق لهم تربية الحيوانات الأليفة، أو شكلهم؛ لكن طالبي اللجوء الذين يعيشون في ما يُعرف بسكن "الكادا"، سيُجبَرون على التخلي عن رغبتهم بامتلاك رفيق من غير البشر، بسبب لوائح القوانين الداخلية التي يفرضها المشرفون على السكن، والتي يتم تطبيقها بطريقة لا تخلو من العنصرية.

ما نقصده بالـ"كادا"، هو السكن الاجتماعي المخصص للمشرّدين، والذي يتم تحويل طالبي اللجوء إليه، فور وصولهم إلى فرنسا، ولا يتمكنون من الخروج منه، إلا بعد الخضوع لمجموعة من الإجراءات الروتينية التي تستغرق مدةً قد تتجاوز السنتَين، فتبدأ بمقابلات "الأوفبرا"، للحصول على حق اللجوء، وتمر خلالها دورات الاندماج العديمة الجدوى.

إن طالب اللجوء مجبَرٌ على المكوث في هذا السجن المفتوح، وفقاً للقوانين الملتوية التي تطبّقها الحكومة الفرنسية.

في هذا المكان، يفقد الإنسان خصوصيته بشكل كامل، إذ تفرض بعض المراكز قوانين داخلية تمنع سكانها من الخروج والدخول إليها، بعد الساعة الثامنة مساءً، والبعض الآخر يمنع السكان من استقبال الضيوف، إلا في حالات استثنائية، ولساعات معينة، كما أن غالبية مراكز "الكادا"، تمنع سكانها من تغيير ديكور غرفهم، أو جلب أثاث جديد؛ فهم يرتأون أن طالب اللجوء لا يحق له أن يصمم المكان الذي يعيش فيه، بشكل يريحه، ومن الواجب عليه أن يتقبل الأثاث المهترئ الذي يمنحونه إياه، من دون أي إضافة، أو تغيير؛ لتكون بذلك جميع الغرف في المسكن موحدة الشكل، بطريقة توحي للزائر بأنه يدخل إلى سجن. ربما لو استطاعوا فرض لباس موحَّد على النزلاء، لفعلوا ذلك.

فعلياً، لا توجد قوانين صريحة تلزم طالبي اللجوء بالمكوث في "الكادا"، رغماً عنهم، لكن الأوراق التي تخوّل الفرد استئجار منزلٍ مستقلٍ في فرنسا، يستحيل على طالب اللجوء تحصيلها، كورقة الدخل الشهري (Fiche de paie)، وورقة الضرائب، وبطاقة الإقامة الطويلة الأمد؛ فطالب اللجوء يُمنح إقامة قصيرة المدى، لا تتجاوز مدتها التسعة أشهر، وهو محروم من العمل بشكل نظامي على الأراضي الفرنسية، بموجب البطاقة التي يحملها. ذلك يعني أن طالب اللجوء مجبَرٌ على المكوث في هذا السجن المفتوح، وفقاً للقوانين الملتوية التي تطبّقها الحكومة الفرنسية.

قد يرى البعض أن امتلاك حيوان أليف في هذا الظرف، أو عدمه، هو أمر لن يشغل بال أحد؛ لكن الفراغ والوحدة اللتين يعيشهما الناس هناك، ستجعل الكثيرين يفكرون في الأمر؛ لا سيما إن كانوا مثلي، من عشاق القطط. عندما بدأ انتظاري للأوراق الرسمية يطول، وتخطّى حاجز الستة أشهر، سألت المسؤول الاجتماعي في "الكادا"، عن الآلية المتّبعة لتبنّي قطة في فرنسا، ليبدأ بإلقاء محاضرة عليّ، يعلمني من خلالها ثقافة تربية الحيوانات في بلده.

لم أستسلم بسرعة. حاولت أن أجادله، وأشرح له عن خبرتي في التعامل مع القطط، وتربيتها، وأنها ستساعدني على تجاوز الحالة النفسية التي أعيشها، لينهي النقاش بابتسامة تختزل إحساسه بالتفوق الحضاري، وهو يقول: "سأسمح لك بتربية سمكة حمراء صغيرة، بدلاً من القطط"

أشار في البداية إلى أن تربية الحيوانات الأليفة ممنوعة بشكل قطعي، وأنني إذا تجاوزت قوانين "الكادا" الداخلية، سيلقون بي وبقطّتي إلى الشارع. تحدّث حينها بإسهاب عن حقوق الحيوان، وذكر أن الحيوانات الأليفة تحظى بمكانة مهمة في المجتمع الفرنسي، وهي جزء لا يتجزأ من العائلة، وأشار أيضاً إلى أنني غير مؤهلة لتربية قطة في الظرف الذي أعيشه، ليكون حديثه هذا مدخلاً إلى جملة من الاتهامات التي أظهرتني كإنسانة لا حضارية، تفكّر في تربية قطّة في المساحة الصغيرة التي أعيش فيها، والتي لا يجد نفسه ينتهك حقوق الإنسان عندما يجبرني على الإقامة فيها!

لم أستسلم بسرعة. حاولت أن أجادله، وأشرح له عن خبرتي في التعامل مع القطط، وتربيتها، وأنها ستساعدني على تجاوز الحالة النفسية التي أعيشها، لينهي النقاش بابتسامة تختزل إحساسه بالتفوق الحضاري، وهو يقول: "سأسمح لك بتربية سمكة حمراء صغيرة، بدلاً من القطط". ولم ينسى بالطبع أن يُذكّرني بأنه يقدّم لي استثناءاتٍ لا يقدمها لأحد، وأنهى الجلسة مع جملة من النصائح الأبوية التي تلاها، وهو يشعر بأنه في مرتبة أعلى مني، تتيح له رؤية الأفضل لحياتي، وتؤهله لاتخاذ القرارات عني.

خلال فترة الحجر الصحي، تحوّل "الكادا" إلى سجنٍ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بسبب سياسات الإغلاق العامة التي أجبرتنا على إمضاء معظم الوقت في الداخل.

إن الحجج التي يرددها موظفو "الكادا"، لمنع تربية الحيوانات لديهم، غير منطقية على الإطلاق، ليس لأنها تضع طالبي اللجوء في مكانة أدنى من الحيوانات، حين لا تبالي بوضع الناس في غرف صغيرة غير صالحة للحيوانات فحسب، بل لأن الحيوانات الأليفة في فرنسا، لا تعيش بشكل مثالي، كما يدّعون أيضاً؛ فعدد كبير من القطط تعيش في الشوارع، وفي الأقفاص الصغيرة المرصوصة في الملاجئ، ومحلات بيع الحيوانات. قد تكون الحجة الوحيدة التي يذكرونها، وتستحق الوقوف عندها، هي تلك المتعلقة بهيكلة مساكن "الكادا" ذات المرافق المشتركة، والتنويه بأن بعض النزلاء يخافون من القطط، ولا يفضّلون أن تعيش بالقرب منهم؛ لكن هذه الحجة شكلية أيضاً، إذ قامت فتاة سورية عشرينية تدعى رنا، بالحصول على موافقة جيرانها الذين يشاركونها المطبخ والحمامات، بعد أن تحججوا بجيرانها ليمنعوها من اقتناء قطّة. لكن موافقة الجيران لم تغيّر من الأمر شيئاً؛ فكل ما يقولونه لنا، ليس سوى حجج شكلية يرددونها كالببغاوات، للمحافظة على أنظمة القوانين الداخلية التي يحافظون عليها، حتى ولو كانت على حساب رغبات طالبي اللجوء، وصحتهم النفسية.

خلال فترة الحجر الصحي، تحوّل "الكادا" إلى سجنٍ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بسبب سياسات الإغلاق العامة التي أجبرتنا على إمضاء معظم الوقت في الداخل. وفي الجولات القصيرة التي كنت أمضي بها وقتي في المنطقة، عثرت على مجموعة من القطط الصغيرة، فواظبت على إطعامها، مما جعلها تقترب من "الكادا"، الذي سرعان ما تحوّل فناؤه إلى مأوى يجمع القطط الشاردة.

كان المسؤول الاجتماعي يمر بجانبي، وأنا أمارس هوايتي الجديدة برعاية قطط الشارع، يلقي التحية ويبتسم، وكأنه يشجعني على مواصلة ما أقوم به، لكنه لم يفكّر ولو لمرة واحدة، في أن يقوم هو بإطعامهم، على الرغم من محاضراته كلها عن حقوقهم، أو أن يتصل بجمعية متخصصة برعاية الحيوانات، لتنقذهم من برد آذار/ مارس القارس.

وفي إحدى المرات، لاحظت أن إحدى القطط ساقها مكسورة، فاتجهت إلى مكتبه، وطلبت منه أن يتصل بجمعية لتنقذها، فرد عليّ ببرودة، أن القطط في الحياة الطبيعية تصاب وتتعافي لوحدها، ولا داعي لأخذها إلى الطبيب، ليقوده ذلك إلى إلقاء محاضرة جديدة، نصحني فيها بأن أتوقف عن إطعام القطط، حتى يمارسوا حياتهم الطبيعية، ويصطادوا بدلاً من الاعتماد علي، لأن القطط لن تجد من يطعمها في حال غادرت المركز.

إن الحجج التي يرددها موظفو "الكادا"، لمنع تربية الحيوانات لديهم، غير منطقية على الإطلاق، ليس لأنها تضع طالبي اللجوء في مكانة أدنى من الحيوانات، حين لا تبالي بوضع الناس في غرف صغيرة غير صالحة للحيوانات فحسب، بل لأن الحيوانات الأليفة في فرنسا، لا تعيش بشكل مثالي

اليوم، وبعد مرور ثلاثة سنوات على وجودي في باريس، أتذكّر انطباعاتي الأولى عن المدينة. ففي أول يوم تجولت خلاله فيها، شاهدت متسولاً مستلقياً على قارعة الطريق، وبجانبه كلب، يضع قبعةً مقلوبةً على الأرض، ليحصل على النقود. استأتُ من المشهد، وظننت حينها أن هذا المتسوّل يستغل حيوانه الأليف، ليستدرّ عطف الناس. لم أكن أدرك حينها، أن ذلك الرجل فضّل أن يعيش في الطريق حراً، برفقة كلبه، على الخدمات الاجتماعية المشروطة التي تقدّمها الحكومة الفرنسية. أنا أحترمه اليوم، وأصبحت قادرةً على فهم هؤلاء المشردين كلهم، الذين ينامون في الطرقات، ومحطات المترو؛ فهم في الغالب فضّلوا أن يختاروا حريتهم، وعلاقاتهم الإنسانية، على احتياجاتهم الأساسية، بما فيها المسكن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image