منذ منتصف عشرينيات القرن العشرين، وطوال فترة الثلاثينيات منه، وحتى 15 أيار/ مايو 1945، وهو تاريخ الإعلان الرسمي عن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، تحوّلت ألمانيا إلى قِبلة آمال كثيرين من المصريين والعرب المتطلعين إلى الخلاص من احتلال إنكلترا وفرنسا لبلدانهم، وأنظارهم.
كان صعود النازية، بقيادة أدولف هتلر، في ألمانيا، وعداؤها للبلدان الاستعمارية في غرب أوروبا، وعلى رأسها إنكلترا وفرنسا، ثم الحرب التي نشبت بين دول المحور بقيادة ألمانيا، ودول الحلفاء بقيادة بريطانيا ثم أمريكا، يمثل في نظرهم حلحلةً للوضع الاستعماري الإنكليزي المستقرّ في مصر والعراق، والاستعمار الفرنسي المستقرّ في بلدان المغرب والمشرق العربي، كما كان يمثّل أملاً كبيراً بأن تُقتلَع جذور الصهيونية من فلسطين، لتعود إلى أهلها.
وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بتنامي الحركات النازية والفاشية المتطرفة، مع ازدهار الراديكالية والعنف السياسي، التحق بصفوف أنصار النازية واحدٌ من كبار المفكرين المصريين، هو رجل وصفه طه حسين، في مناقشته لرسالته للماجستير، بقوله: "لأول مرة نشاهد فيلسوفاً مصرياً". كان هذا الرجل هو الفيلسوف الوجودي، عبد الرحمن بدوي.
انبهار مبكر بالثقافة الألمانية
تعود علاقة عبد الرحمن بدوي مع مخرجات الثقافة الألمانية، إلى سنة 1932، حين كان عمره 15 عاماً. كانت في بدايتها مجرد انبهار ببعض أعلام الثقافة الألمانية، مثل الأديب الألماني غوته الذي يقول عنه بدوي في مذكراته المعنونة بـ"سيرة حياتي": "لم تسعفني ترجماته، بل حملتني على أمرين: الأول البدء بتعلّم الألمانية، وهو ما فعلته بدءاً من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1932، في مدرسة راهبات القديس ‘شارل بورومييه’ في باب اللوق... وقد التحقت أنا بدروسٍ ليلية كانت تُلقى مرتين في الأسبوع، الثلاثاء والخميس، لمدة ساعتين في كل مرة". أما الأمر الثاني، فكان اطّلاعه على الثقافة الألمانية، عن طريق الترجمات الإنكليزية.
يحكي بدوي بعاطفيةٍ شديدة، عن "هر (السيد) فرانك"، المدرّس الذي كان له فضلٌ عظيمٌ عليه في تعلّم اللغة الألمانية، عندما كان طالباً داخلياً في مدرسة "السعيدية" الثانوية. أطبق عليه حزنٌ عميق عندما بلغه نبأ مقتل هذا الأستاذ، عقب التحاقه جندياً بجيش النازيين، إبان الغزو الألماني لبلجيكا وهولندا، سنة 1940.
في الفترة نفسها، اطّلع بدوي على 14 مجلداً أصدرتها "مكتبة بون"، بين عامي 1846 و1890، واشتراها من مكتبة "فنك"، وكانت تقع عند تقاطع شارع فؤاد، وشارع عماد الدين، في القاهرة.
وللتقارب مع ألمانيا تاريخ طويل في العالم العربي، يسبق نشوء النازية، ويعود إلى بدايات القرن العشرين. عن ذلك يكتب بدوي في مذكراته: "نشأت في وسطٍ شديد الإعجاب بألمانيا، وكان يتمنى لها الانتصار في الحرب العالمية الأولى، ويتغنّى بانتصاراتها في السنوات الثلاث الأولى من هذه الحرب، وكان في قريتنا كتّاب صاحبه يُدعى الشيخ ‘سيد رزق’، وكان يقرض الشعر، وقد نظم قصيدةً في تمجيد بطولات الألمان في الحرب العالمية الأولى، أذكر الآن مطلعها، وهو يوجهها إلى الإمبراطور غليوم الثاني: إليك غليوم ألمانيا وبهجتها/ منّي ثناء بختم المسك أهديه".
ويروي أن له أخاً يكبره بـ16 عاماً، "كان يحفظ هذه القصيدة كلها، وهي لا تقلّ عن ثلاثين بيتاً، ويرددها على مسامعنا بحماسةٍ في الإلقاء مشبوبة، ونحن صغار في الخامسة، وما بعدها".
نحو النازية
كان بدوي مراهقاً ثائراً على وضع الاحتلال في مصر. فثورة 1919 لم تحقق وعد جلاء القوات الأجنبية، وحزب الوفد لم يعد مرضياً في نظر الشباب الغاضب، والحزب الوطني القديم الذي شعر بدوي بتقارب معه، كان يعيش في حالة فراغٍ منذ وفاة زعيمه محمد فريد.
لذلك، تأثّر المراهق الغاضب بالدويّ الهائل الذي أثاره في أنحاء العالم، صعود أدولف هتلر إلى منصب المستشارية (الرئاسة)، في ألمانيا، في 30 كانون الثاني/ يناير 1933، ما جعله يتطلّع إلى قراءة كل شيء عنه في الصحف العربية والإنكليزية، بل قرر أن يكتب بنفسه للصحف عن مبادئ "الحزب الوطني الاشتراكي الألماني"، ولخّص فصولاً من الترجمة الإنكليزية لكتاب هتلر "كفاحي"، ونشرها في صحيفة "مصر الفتاة"، سنة 1938.
كتب عبد الرحمن بدوي للصحف عن مبادئ "الحزب الوطني الاشتراكي الألماني"، ولخّص فصولاً من الترجمة الإنكليزية لكتاب هتلر "كفاحي"، ونشرها في صحيفة "مصر الفتاة"، سنة 1938
أكثر ما لفت بدوي في النازية أنها كانت تدعو إلى تحرير ألمانيا من قيود معاهدة فرساي التي فُرضت عليها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، مخضعةً أجزاء منها للاحتلال الفرنسي، بالإضافة إلى تجريدها من السلاح ومن مستعمراتها في إفريقيا.
هناك سبب آخر يذكره بدوي، ضمن أسباب انبهاره بالنازية، هو "أنها تقوم على أساس التربية العسكرية للشباب، وتأهيله لخوض غمار الحرب التي ستردّ إلى ألمانيا مكانتها".
يقول: "كنت أنا أرى في ذلك الحين أن هذه هي السبيل الوحيد لطرد المستعمر البريطاني من مصر، ولتكوين دولة قوية ذات مستوى حضاري رفيع يعيد إلى مصر مكانتها الأولى في عهد الفراعنة، ولم تكن الأحزاب القائمة آنذاك قادرةً على تولّي المهمة، بل كانت غايتها الوحيدة تولّي الحكم، لتحقيق مآربها الشخصية. وكان الجيش المصري آنذاك غير مؤهل للقتال، بل اقتصرت مهمته على الاحتفالات الاستعراضية، وقمع الشغب، حين تعجز الشرطة. ومن الخيانة أن يدعو المرء إلى السلم، ووطنه يحتلّه غاصبٌ يسومه أشد أنواع الذلّ والهوان".
الكلمات الانفعالية السابقة، تساعد على اكتشاف الصلة الفلسفية الدفينة بين الفكر والسياسة عند بدوي، وهي صلة تحدّث عنها عبده كساب، في كتابه "هيدغر والنازية"، وقد تكون هي ما أدى إلى انبهار الفيلسوف المصري بالنازية، وربما أيضاً انبهار الفيلسوف الألماني هيدغر بها، قبله.
تلك الصلة بين السياسة والفكر تتضح بشكل سلبي في إعلان بدوي في مذكراته عن نفوره من الفاشية، ومن مؤسسها بنديتو موسوليني، لأنه لم يرَ وراء الفاشية مبادئ سامية تصلح لأن تكون نماذج إنسانية تحتذى، وهو قول يثير الدهشة على كل ما بين النازية والفاشية من صلاتٍ فكرية وتنظيمية وسياسية وطيدة. لكن وراء موقف بدوي، تكمن كراهية واضحة لاستعمار إيطاليا لليبيا.
لم يكن بدوي يعتقد أن ألمانيا ستحلّ محل بريطانيا وفرنسا، مما يستبدل استعماراً باستعمار، لكنه كان يعتقد أن ألمانيا ستكتفي بسيطرتها على دول أوروبا، ولن تحتاج إلى غيرها من الدول، إلا للحصول على المواد الأولية، والعلاقات التجارية.
في الوقت نفسه، كان يعترف بأن هذا الاعتقاد ليس غير قفزةٍ في الهواء، وإن كانت مبررةً في نظره: "صحيح أنه من الصعب أن نتنبّأ في التاريخ، لكن من هو العاقل الذي يخشى من مستقبلٍ لم يقع، وهو غير يقيني، ولا يتخلص من كارثة تمسك بخناقه بالفعل؟! إن عليه أن يتخلص أولا مما هو فيه من بلاء، فإن جاء بلاء آخر، فعليه أن يعمل للتخلص منه في حينه، إذا وقع".
لم يخفِ بدوي يوماً إعجابه بالنازية. يقول: "تبلورت أفكاري السياسية حول معانٍ أساسية، هي الوطنية النابعة من صميم الشعور بمصر، ومكانتها في الماضي، وما آمله من استعادة هذه المكانة في المستقبل القريب، وكان النموذج العيني الذي ينبغي استلهامه، هو ما تحاول النازية تحقيقه لوطنها ألمانيا... ولما كانت ألمانيا لم تستعمر مصر، ولا أي بلد عربي أو إسلامي، وكان الإعجاب بألمانيا أصيلاً في الشعب المصري بل وسائر الشعوب العربية والإسلامية، فلم يكن ثمة أي تحرّج في استلهام نموذج ألمانيا".
بدوي في ألمانيا
في حزيران/ يونيو 1937، زار بدوي ألمانيا في بعثة تعليمية، وقضى هناك نحو أربعة أشهر. وبعد نحو سنتين فقط من تلك الرحلة، أصدر كتابه الأول عن الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه. وفي الوقت نفسه تقريباً، اختار "مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية"، ليكون موضوع رسالته للماجستير، لأنه كان يعتقد أن مشكلة الوجود لا يمكن إيضاحها إلا انطلاقاً من واقعة الموت.
في مدينة منشن (ميونيخ)، التي كانت عاصمة الحركة النازية، حضر بدوي الكثير من المحاضرات الجامعية في التاريخ، والفلسفة، والفن، لأساتذة ألمان.
شاهد عبد الرحمن بدوي الزعيم النازي وهو يخطب، وبينهما مسافة لا تزيد عن خمسين متراً. سُحر بأدائه الجليل، وصوته القوي، وضغطه المؤثّر على العبارات التي يريد توكيدها
يصف محاضرات الثقافة الألمانية بالذات بأنها غلب عليها الطابع السياسي، والتوجيه، والدعائية. حضر خمس محاضرات لأوتو كيلرويتر، عن نظام الدولة في مذهب النازية، وست محاضرات عن تاريخ ألمانيا، بعنوان "من الرايخ الأول إلى الرايخ الثالث"، والرايخ يعني الدولة الألمانية، أو الأمة الألمانية، والرايخ الثالث أسسه هتلر، ويتحدث بدوي عمّا في هذه المحاضرات الست من توجيهٍ دخيلٍ على الدراسة العلمية للتاريخ.
غير أن حدثاً مهماً وقع في ميونيخ، خلال زيارته، وهو افتتاح هتلر لـ"دار الفن الألماني" هناك. للمرة الأولى شاهد بدوي الزعيم النازي وهو يخطب، وبينهما مسافة لا تزيد عن خمسين متراً. سُحر بأدائه الجليل، وصوته القوي، وضغطه المؤثر على العبارات التي يريد توكيدها، مع أن موضوع خطبته كان الدعوة إلى استعادة الفن الألماني الأصيل، والتخلّص من الفن "المنحلّ"، وفي خطبته هاجم السريالية قائلاً: "هل شاهد أحد سويّ العقل هذه الصور والأشكال في الطبيعة؟ إن كان هؤلاء الفنانون يزعمون أنهم يرون الناس بهذه الأشكال الممسوخة، فإني أحيل أمرهم إلى وزير الداخلية، ليعالَجوا العلاج المناسب".
كان الميل الهتلري الصارم ضد الفنون السريالية، يتوافق للغاية مع ميول بدوي الفلسفية الوجودية التي يصفها بأنها فلسفة جادّة، وصعبة.
في ميونيخ، قرر الفيلسوف أن يدرس النازية دراسةً عميقةً بلغتها. بدأ بكتاب هتلر "كفاحي"، وكتاب ألفرد روزنبرغ "أسطورة القرن العشرين"، وكتاب "مولد القرن التاسع عشر" لهيوستن تشامبرلين الذي طبّق فيه المقولات العلمية على تطور تاريخ الإنسانية، وانتهى إلى أن الجنس الآري هو المدعو تطورياً لزعامة بني الإنسان، وأن الألمان هم أبرز فروع الجنس الآري، وأصلحها.
بالإضافة إلى ذلك، حمل بدوي في حقيبة عودته إلى مصر، الكثير من منشورات الحزب النازي التي استعان بها في كتابة سلسلة مقالاته عن النازية، في مجلة "مصر الفتاه"، في صيف 1938، وما تلاه.
كراهية اليهود
لم يبقَ من نازية بدوي السياسية في أعقاب دحر النازيين، وهزيمة هتلر سنة 1945، غير أمرَين لازماه بقية حياته: الأول هو ذكرى حبٍّ سريعٍ لفتاة ألمانية اسمها "يوهنا جابلر"، وهو حبّ وصفه بأنه "مثل ضربة الصاعقة". في الشهور الأربعة الأولى من سنة 1945، راح بدوي يناجيها بحرارة: "حينما كنت أسمع، أو أقرأ أنباء الغارات الوحشية التي قامت بها الطائرات الأمريكية على منشن، كنت أتذكّرها، وأناجيها من بعيد: رحماك يا يوهنا جابلر! وكان الله معك في هذه المحنة الرهيبة! إن برابرة هذا العصر، هؤلاء الأمريكيون الذين خلَوا من كل وازعٍ إنساني وخلقي، يصبّون على بلدك الجميل، نار عذابٍ دونه نار الجحيم. وليس في إجرامهم هذا أية شجاعة، لأن الدفاع الجوي عن منشن لم يعد له وجود، وهؤلاء الجبناء قد استغلوا ذلك لتدمير منشن بوصفها عاصمة الحركة النازية، لا لارتباط ذلك بأي نصرٍ عسكري. وبودي لو كنت بجانبك أشاركك بعض هذه المحنة! لكن هيهات، هيهات!".
الأمر الثاني الذي يبدو أنه لم يتغيّر كثيراً بزوال النازية، كان كراهية بدوي لليهود. في مذكراته التي كتبها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ونُشرت سنة 2000، كان لا يزال يدافع عن ممارسات النازيين ضد اليهود الألمان، وينكر المحرقة، لا بل حمّل اليهود عواقب كراهية النازيين لهم، وردد الدعايات النازية نفسها ضدهم، ومنها أنهم كانوا السبب في هزيمة الجيش الألماني الذي ما هُزم لولا خيانة اليهود.
ويبرر بدوي ولادة النازية نفسها بالقول: "إن النازية إنما كانت تجسيداً لشكوى الشعب الألماني من تغلغل نفوذ اليهود في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، في السياسة، والاقتصاد، والفنون، وغيرها من مرافق الحياة".
هذا النفوذ المزعوم، رأى بدوي أنه حوّل ألمانيا إلى مستعمرة يهودية، وجعلها بؤرةً ومكاناً لإعداد الحركات الصهيونية واليهودية العالمية، على الرغم من أنه يؤكد بنفسه أن أعداد اليهود لم تزِد في ألمانيا أبداً عن نصف مليون. نصف مليون فقط في بحر من عشرات الملايين من الألمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون