في رواية "أمام العرش" للروائي المصري نجيب محفوظ، تنعقد محكمة الآلهة بكامل هيئتها المقدسة لمحاكمة تاريخ مصر السياسي منذ أقدم العصور، ويجلس أوزوريس (أوزيريس) على عرشه الذهبي وإلى يمينه إيزيس وعلى يساره حورس. أمام المحكمة المتخيّلة يوجه الثوري المتطرف "أبنوم" إلى الزعيم الوطني التاريخي محمد فريد (1868–1919) أقسى اتهام يمكن أن يوجَّه إلى زعيم أمة.
يسأله: "خبرني كيف يترك زعيم أمته في محنة ليجاهد في الخارج؟"، ويقول له: "المسألة أنكم من الأعيان... إنكم تحبون الزعامة ما ضمنت لكم الجاه والاحترام، ولكن لا قِبَلَ لك بالكفاح الصادق وما يسوق إليه من سجن أو تعذيب أو موت، لذلك تخليت عن الأمانة في اللحظة الحرجة".
ويواصل: "لا أنكر وطنيتك، ولكنك أحببت مصر على حين انطويت في صميمك على احتقار المصريين، ولم يكن مفرّ من أن تنقلب حياتك إلى مأساه لأنه لا يمكن أن يتبوأ زعامة شعب إلا رجل من الشعب، ويتميز بالعظمة الإنسانية لا العظمة الأرستقراطية".
بعد كل هذا الهجوم القاسي، توجه إيزيس كلمتها النهائية: "أما أنا فاعتبره من خير أبنائي خلقاً وإخلاصاً ووطنية، ولم يكن في وسعه أن يفعل خيراً مما فعل مع مراعاة ظروف مولده ونشأته".
بهذه الكلمات، جسّد محفوظ القسوة التي تعرّض لها فريد خلال مسيرته الوطنية الجهادية الطويلة. كانت قسوة من كل اتجاه تقريباً، قسوة عنف الإنكليز المحتلين ضده بسبب مطالبته بالجلاء الفوري والاستقلال التام لمصر، وقسوة حصار الباب العالي العثماني له رداً على شعاره الوطني الصلب "مصر للمصريين"، وقسوة تآمر الخديوي عليه لأنه لم يتنازل طرفة عين عن مطلب الدستور والحكم النيابي، أي حكم الشعب.
لكن القسوة تمتد إلى أبعد حتى تشمل أعضاء حزبه أنفسهم، بعد أن تخلى عنه كثيرون منهم في لحظات حرجة تبلغ ذروتها مع تجاهله وهو على قيد الحياه عند اشتعال ثورة المصريين ضد الاحتلال في آذار/ مارس 1919، ليرحل وحيداً في منفاه، في برلين، في أيلول/ سبتمبر من نفس العام، بعد أن أوصى وهو يحتضر: "إني أنا وأولادي وكل عزيز لديّ فداء لمصر، لقد قضيت بعيداً عن مصر سبع سنوات فإنْ متّ فضعوني في صندوق واحفظوني في مكان أمين حتى تتاح الفرصة لنقله إلى وطني العزيز الذي أفارقه وكنت أود أن أراه".
السُبات المصري
"السُبات المصري". هكذا سمّى فريد الحالة في مصر خلال الفترة التي أعقبت انكسار الثورة العرابية سنة 1882 وبداية الاحتلال الإنكليزي لمصر. كان المجتمع في حالة إحساس بالضعف البالغ وقلة الحيلة أمام جيش احتلال امبراطوري مسلح.
يأسٌ قاتل من زوال "الحماية البريطانية" جعل الاستسلام، بل والإغماء استسلاماً، هو الوضع السائد. واحد من أبناء ثورة عرابي المهزومين هو سعد زغلول، كتب إلى الإمام محمد عبده في منفاه: "الحالة العمومية على ما تركتها، غير أن الناس أخذوا في نسيان ما فات من الحوادث وأهوالها، وقلت قالتهم فيها، وخفت شماتة الشامتين منهم، وأصبح المادحون للإنكليز من القادمين فيهم والعكس".
في تلك الأجواء القاتمة، بدأ مصطفى كامل كفاحه الوطني كثائر على اليأس، ثائراً على الاحتلال، وتوطدت الصداقة بينه وبين محمد فريد خلال لقاء جمعهما في باريس، عام 1895. تعاهدا معاً على خدمة الوطن حتى الممات، وأثمر كفاحهما ليصل إلى اللحظة التي وقف فيها مصطفى كامل في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1907 على مسرح "زيزينيا" في الإسكندرية، وهو يعاني من مرض خطير وسط حشد من ستة آلاف مصري يهتفون: "تحيا مصر"، ليترنم بعبارته التاريخية: "بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر"، معلناً قيام الحزب الوطني وموصياً قبل رحيله في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1907 بأن يخلفه محمد فريد.
ورث فريد مع رئاسة الحزب السياسية يأس الوطنيين من مساعدة فرنسا في الخلاص من الاحتلال الإنكليزي، بعد الوفاق بين الإمبراطوريتين الاستعماريتين، كماورث عداء الخديوي الذي بدأت دسائسه بوفاة مصطفى كامل لانتخاب رئيس للحزب "يكون طوع أمره ليستعمله في أموره الشخصية".
كان الدرس الأهم في هزيمة عرابي، في نظر الوطنيين المصريين، هو ألا يسمحوا للاحتلال بأن يستغل الخلاف بين الزعماء الوطنيين والخديوي. لكن مصلحة الوطن كانت تفترق بالفعل عن مصلحة الجالس على عرش مصر.
كتب فريد في جريدة "الشعب" مهاجماً الخديوي: "يقولون إن الجناب العالي كان يظهر ارتياحه للحركة الوطنية وللقائمين بها، ويشجعهم أيضاً على تكوين الأحزاب والأندية السياسية لتنظيم الحركة وتوحيد الكلمة ليكون للمطالبة تأثير فعلي. إلا أنهم يقولون إن قصد سموه من ذلك كان محاربة اللورد كرومر شخصياً لا محاربة الاحتلال ولا تأمين مطالب المصريين، وأن سموه، حفظه الله، كان يقصد إخراج كرومر من مصر فاستعمل رجال الوطنية لهذا الغرض".
المأساة المؤلمة في سيرة الزعيم المصري محمد فريد: جهّز المصريين لثورة لم يجدوا مناصاً من استبعاد اسمه من بين قادتها
بعد اليأس من فرنسا والخديوي، سلّم الكل باستحالة تحقيق حلم الاستقلال المصري ما عدا قلة بينهم مصطفى كامل صاحب عبارة: "لا يأس مع الحياه". وبعد أقل من عشر سنوات على رحيله، انضاف إلى ذلك اليأس من الباب العالي والخلافة التركية.
في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1914، أعلنت الحماية البريطانية على مصر وزالت السيادة التركية الاسمية عنها، عقاباً على خوض تركيا الحرب العالمية الأولى، في صف ألمانيا ضد إنكلترا وفرنسا وروسيا. أعلن البريطانيون الأحكام العرفية وبدأوا عهداً من الإرهاب واضطهاد الحزب الوطني ومطاردة أعضائه واعتقال الكثيرين منه، وألقيت شبهة الإرهاب على الشيخ عبد العزيز جاويش، ممثل القيادة المتطرفة في الحزب الوطني، ومعه محمد فريد، وكان كلاهما في المنفى.
أصابت شبهة الإرهاب من الزعيم الوطني مقتلاً وأثارت ضده في الداخل والخارج الاحتلال والخديوي والأوروبيين جميعاً، فلم يبقَ أمامه هو ورفاقه غير التعويل على انتصار تركيا وألمانيا في الحرب ضد إنكلترا وحلفائها. لكن ذلك لم يحدث، وقبل ذلك اكتشف فريد أنه سيان حدوثه من عدمه بعد أن تكشفت له نوايا الأتراك ووعودهم الكاذبة باستقلال مصر. وكتب في مذكراته: "الأتراك لا يهتمون بالمسألة المصرية بل قال بعضهم إنه يفضل أن تكون مصر إنكليزية من أن تكون مستقلة لأنها لو استقلت تصبح خطراً على الدولة (الخلافة) لاستعداد أهلها ونباهتهم وذكائهم".
الزعيم أرستقراطي وطائفي وإرهابي
لاحقت الزعيم فريد اتهامات بأنه أرستقراطي وطائفي وإرهابي قبل وبعد خروجه من مصر سنة 1912، هرباً من السجن إلى منفاه. اتهامه بالطبع الأرستقراطي يجمله المفكر فتحي رضوان، عضو الحزب الوطني بوصفه بأنه كان: "عصبي المزاج، عنيفاً إذا غضب، وهو لا يعرف من أنصاف الأمور، ولا أشباه الحلول، ولا يتوسط في الحكم على الأشياء والأشخاص، فالناس عنده والأحداث إما بيضاء ناصعة وإما سوداء حالكة السواد".
لكن هذه "الطباع المتطرفة" كانت متطرفة في وطنيتها، ما جعل من فريد رجل مرحلته ومطلب ظرفه التاريخي، أو، بالتعبير الذي ظهر في ما بعد، زعيم الضرورة.
السؤال المهم هو إنْ كانت أرستقراطية فريد قد انطوت على أقل قدر من الترفع والتعالي على شعبه. سؤال يجد إجابته في عبارة كتبها في الصفحة الأولى من مذكراته قال فيها: "إن الوحدة الجنسية آخذة في النمو بين الأفراد وكذلك الشعائر الوطنية في ازدياد يوماً بعد يوم حتى لم يعد المصري يأنف من كونه مصرياً وينتحل له جنسية أجنبية كأن يدعي أنه تركي مثلاً".
كان فريد من أصول تركية، ورث عن أبيه "أحمد فريد باشا" ناظر الدائرة السنية، 300 فداناً، بالإضافة إلى قصر مساحته خمسة أفدنة، لكنه أنفق كل ما ورثه عن أسرته الأرستقراطية، بالإضافة إلى عمارتين ضخمتين من نتاج عمله في المحاماة، على نضاله ونضال حزبه الوطني من أجل استقلال مصر.
لم يبقَ أمامه هو ورفاقه غير التعويل على انتصار تركيا وألمانيا في الحرب ضد إنكلترا وحلفائها. لكن ذلك لم يحدث... سيرة الزعيم المصري محمد فريد
أما معركته مع الطائفية والانحياز إلى الخلافة الإسلامية على حساب قضية الجلاء والاستقلال الوطني المقدسة، فكان موضوع صراعه المرير الطويل مع الشيخ عبد العزيز جاويش الذي رفع شعار "لا وطنية في الإسلام"، وحاول باستمرار عزل فريد بشعاره الخالد "مصر للمصريين" عن قيادة الحزب الوطني. يكتب فريد في مذكراته: "ليس من الغريب أن جاويش يسعى في أن يكون العمل بغير اسم الحزب الوطني، بل يكون باسم آخر جديد، فإنه يرمي بذلك لإزالة صفة الرئاسة ولأن ينتخب هو رئيساً لهيئة جديدة يريد تشكيلها".
تبقى تهمة الإرهاب التي لا تجد لها سنداً من مواقف فريد الوطنية أكثر من وصمه لكل مَن عمل تحت إمرة الاحتلال بالخيانة، وبلغ من حسمه في هذه النقطة الحساسة حدّ الاستقالة من وظيفته الحكومية في ظل الاحتلال لأنه اعتبرها ماسة بعواطفه و"إحساساته الوطنية"، ثم كتب بعدها: "بذلك تخلصت من خدمة الحكومة التي لا تقبل إلا كل خاضع لأوامر الإنكليز ميت الإحساس غير شريف العواطف". هذا الموقف الحاسم جعله في ما بعد في منأى عن التبرؤ من صلته بشباب الحزب الوطني الثائر، ومن بينهم هؤلاء الذين قادهم تطرفهم الوطني وتهورهم باتجاه عمليات اغتيال فردية لبعض رموز المتعاونين مع الاحتلال ممَّن حظوا بسخط واحتقار المصريين لهم.
ولعل أكثر ما سوّق تهمة الإرهاب ضد الزعيم الوطني كان اتجاهه خلال الحرب العالمية الأولى إلى فكرة الكفاح المسلح ضد الإنكليز، وقد تحدّث في مذكراته عن مفاوضاته مع الحكومة الألمانية حول تسليح أعضاء الحزب الوطني داخل مصر خلال سنوات الحرب، وأورد مخاطبته لهم بهذا الشأن عبر مراسلاته السرية معهم، وهذه الخطوة لم تتم.
لكن ما حدث بعد انتهاء الحرب العالمية، مع استسلام الأتراك والألمان، كان الشيء الذي لم يتوقعه فريد، رغم أنه استغرق كفاح عمره كله في التحضير له. وكان الحلم الذي عاش من أجله وإنْ لم يصدّق أنه قريب التحقيق هو ثورة المصريين في سنة 1919.
ثورة تجهزت
عندما كان فريد يُسأل عمّا يحدث لو انهزم الأتراك في الحرب أمام الإنكليز كان يجيب بجملة واحدة حاسمة: "عندئذ نقوم بتجهيز المصريين للثورة". ولم يفطن الزعيم الثوري إلى أن نضال حزبه الوطني برئاسته ورئاسة رفيق كفاحه مصطفى كامل، بالإضافة إلى تقلبات الحرب الأولى، تولّت بالفعل التجهيز المطلوب للثورة.
كتب فريد في مذكراته بعد تفجر الثورة الشعبية عام 1919: "من الأمور التي كانت غير منتظرة ما حصل بمصر في شهري مارث (مارس) وأبريل وهو قيام ثورة عارمة اشتركت فيها الأمة بجميع طبقاتها واتحد فيها الأقباط والمسلمون مطالبين باستقلال مصر التام".
تفتحت زهرة الاستقلال التي أفنى الزعيم الوطني عمره من أجل تفتحها ففاجأته، رغم أنه أنجز "بروفاتها" الأولى بنفسه عبر كفاحه العنيد. كان هو أوّل مَن فكّر بعرائض التفويض الشعبي لزعماء الأمة (سعد ورفاقه في ثورة 19) من أجل قضية الاستقلال، وقام قبل ذلك بعشر سنوات بجمع 75 ألف توقيع من المصريين ووجّه عريضة إلى الخديوي عباس لمطالبته بالتباحث مع الإنكليز من أجل الاستقلال. وكان أول مَن اهتم بإنشاء النقابات والروابط العمالية والفلاحية وتثقيف العمال والفلاحين بثقافة وطنية وثورية تحولهم إلى ثوار وطنيين.
لذلك، لا مفر من أن يستبعد أي باحث في سيرة حياة محمد فريد فكرة أن الغيرة من زعامته كانت الدافع الذي حرّك زعيم ثورة 19 سعد زغلول باتجاه تعمد تجاهله. ولو كان هذا الدافع موجوداً لدى زغلول لاستغل وفاة فريد ليؤكد وراثته لمسيرة زعامته الوطنية، ولما نأى عن الربط بين زعامة محمد فريد وزعامته لثورة 19، خصوصاً وأن عدداً وافراً من زعماء وقيادي الثورة كانوا ينتمون سابقاً إلى الحزب الوطني ويدينون بزعامة فريد، ومن بينهم خليفة زغلول في زعامة الوفد، مصطفى النحاس، الذي تخرّج شاباً من مدرسة الحزب الوطني وانضم إلى الوفد.
موقف سعد زغلول لا يغدو مفهوماً إلا في ضوء حساب المكسب والخسارة التي يمكن أن تحققهما الثورة الوطنية الوليدة من جراء ارتباطها بسيرة محمد فريد، خصوصا لو وضع هذا الارتباط في ضوء نهج الثورة السلمي غير المسلح الذي دفع زغلول إلى رفض عرض تسليح الثوار المصريين، وهو العرض الذي قدمه "فلاديمير لينين" زعيم ثورة 1917 في روسيا. وكان لينين وحزبه من جملة الأحزاب الاشتراكية التي سعى فريد إلى الحصول على تأييدها لمطلب الاستقلال المصري.
بلا شك أن قيادة ثورة 19 رأت في الحساب العملي السياسي أنها ستوّحد خصوماً متفرقين لو أعلنت ارتباطها بمسيرة فريد، وهنا تحديداً تكمن المأساة المؤلمة في سيرته: لقد جهز الزعيم المصريين لثورة لم يجدوا مناصاً من استبعاد اسمه من بين قادتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...