"بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كانت لنا يد في صنع الانهيار. لكن بإمكاننا أن نفهمه وأن نجد سبلاً للتعامل معه. نستيقظ، فنرى قيمة سعر صرف الدولار مقارنة بالليرة اللبنانية ونعيش بحسب حدود قدرتنا الشرائية. لكن ما ذنب الحيوانات؟ هذه الأرواح التى لا ملاجئ كافية لها في لبنان يتم التخلّي عنها أو تركها للموت بين عجلات السيارات لأن أصحابها قرّروا أن يضحّوا بها كي ينجوا هم". بهذه الكلمات تصف هند قدّورة (39 عاماً) تأثير الانهيار الاقتصادي على الحيوانات في لبنان.
كل مساء، الساعة 5:30 تعود هند إلى منزلها في منطقة رأس النبع لتجد قطط الحي في انتظارها. تشرح أنها منذ سنوات وهي تطعم القطط الشاردة في مكان سكنها، وأنها ليست الوحيدة التي تقوم بهذا الفعل في بيروت ومختلف المناطق اللبنانية. تقول: "بدأت بإطعام قطّة واحدة قبل سنوات. واليوم، تقصدني كل قطط الحي. أينما عشت أقدّم الطعام للحيوانات في الشوارع والأحياء، وفي كل مرّة أحظى بالنتيجة نفسها".
لبنان شهد موجتين من التخلّي عن الحيوانات الأليفة. الأولى مع تفشي وباء كورونا. والثانية حين وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 20 ألفاً.
قبل الانهيار الاقتصادي كانت هند تبتاع طعام القطط من الدكاكين بـ 30 ألف ليرة لبنانية (20 دولاراً أمريكياً). ومع بلوغ سعر كيس الطعام الواحد نحو 200 ألف صارت تعتمد على بقايا الطعام. تفسّر: "الانهيار هزّ حياتي ولم يعد بإمكاني إطعام الحيوانات كما كنت أفعل، لكنّي أحاول يومياً أن لا أدع القطط تموت من الجوع. أحياناً الأطفال يساعدون ودائماً يكونون الألطف وأحياناً يسهم أهالي الحي أيضاً. علينا أن نكون رحماء مع هذه المخلوقات".
يذكر الطبيب البيطري ديب غوش لرصيف22 أن الانهيار الاقتصادي طال الحيوانات كما طال البشر، وأن عمله في العيادة تأثّر بسببه، فالناس لا يتمكّنون من شراء أنواع الأطعمة أو حتّى الأدوية التي يتم تسعيرها بالدولار، فكيف ينفقون على الحيوانات. يقول: "الأسعار هي نفسها لكنّها بالدولار الأمريكي. الذين يتلقّون رواتبهم بالليرة اللبنانية تصبح الأسعار أعلى من قدرتهم الشرائية".
ويفيد أنه شهد في عيادته الواقعة على الأوتوستراد الشرقي في منطقة صيدا، حالات تخلٍ عن الحيوانات الأليفة إذ تعترف العائلات بأنها لم تعد قادرة على الاهتمام بالقطط والكلاب. لكنّه يؤكّد أن "الحالات ليست منتشرة بكثرة".
من المنزل إلى الحديقة
في بداية العام 2021، فتحت ربى (اسم مستعار) باب منزلها وسمحت لقطّتها "سنووي" البالغة من العمر ثلاثة أعوام بالخروج إلى الحديقة المجاورة.
اتّخذت ربى هذا القرار حين اكتشفت أن لا قدرة لها على شراء الطعام والرمل. تقول: "أكياس الرمل الصغيرة والرخيصة يبلغ سعرها 70 ألفاً (ثلاثة دولارات بحسب سعر الصرف الحالي)، أي أضعاف ما كانت عليه قبل الانهيار. لذلك، رأيت أنه من الأفضل أن تخرج "سنووي" وتقضي حاجاتها في الحديقة بدلاً من بقائها في المنزل".
وفي العام 2019، خسرت ربى عملها، وعادت إلى منزلها الزوجي للاهتمام بعائلتها. تروي أن عدم إبقاء "سنووي" في المنزل شكّل أزمة لدى أطفالها الذين كانوا قد اعتادوا وجودها. لكنّ شحّ المال جعلها تتّخد العديد من القرارات الصعبة، مثل نقل أولادها الثلاثة من مدرسة خاصّة إلى أخرى رسمية، والاستغناء عن بعض المواد الأساسية. وبعد أن أجرت حساباتها، سمحت للقطّة بالتجوال في الخارج ووجبة واحدة في اليوم بهدف توفير نحو 250 ألفاً (12 دولاراً) في الشهر الواحد. تشرح: "تعيش قطّتنا وأطفالها في الحديقة وهي جزء من عائلتنا. لكن فعلاً، لم يعد لنا قدرة على الاهتمام بها، لأن لا قدرة لنا على الاهتمام بأطفالنا كما يجب. ولأننا لا نريد التخلّي عنها، قرّرنا أن نعتمد هذه الصيغة حتى تعتاد الحياة خارج المنزل. كما لكننا نحرص أن تبيت في المنزل في ليالي الشتاء الممطرة".
سبب ارتفاع نسبة الإصابات بين الحيوانات، هو أن الأخيرة ولدت في منازل. وتالياً، حين تُرمى في الشارع لن تعرف التصرّف وإطعام نفسها فتصير أكثر عرضة للحوادث. وفي نهاية المطاف تموت.
تحكي ربى أنه في الحديقة المجاورة للمنزل بستان كبير يضم منازل خشبية صغيرة تؤوي القطط، كان قد أعدّها جارها الذي يهتم بحيوانات المنطقة، وأن "سنووي" تقسّم حياتها بين هذه المنازل ومنزل العائلة. وتختم: "أشعر بالذنب حين أنظر إليها فهي موجودة معنا منذ أن ولدت. لكنّي أحاول أن أوفّق بين إطعامها وبين إطعام أطفالي. حتّى اللحظة لا يمكنني بسبب الوضع الاقتصادي أن أعيدها إلى الداخل كما في السابق".
التخلّي عن الحيوانات الأليفة
على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، تحديداً تلك المعنية بحقوق الحيوان، تظهر صور القطط والكلاب والحيوانات التي تعمل في المزارع وهي مصابة أو مرمية على أرصفة الشوارع أو في الحقول. فمنذ تفشّي وباء كورونا في العام 2019 وانتشار أخبار كاذبة عن إمكان انتقال العدوى من الحيوانات إلى الإنسان. تخلّى عدد كبير من اللبنانيين عن حيواناتهم الأليفة.
تشرح ريجينا سمعان، وهي عاملة في مجال الدفاع عن حقوق الحيوانات في منظّمة Animals Lebanon ، أن لبنان شهد موجتين من التخلّي عن الحيوانات الأليفة. الأولى مع تفشي وباء كورونا. والثانية حين وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 20 ألفاً. ولم يعد بإمكان أصحاب الحيوانات الأليفة شراء الأطعمة أو اصطحابها إلى العيادات. تقول: "وصلنا إلى الذروة منذ آب/أغسطس الماضي حتى اليوم. يصلنا في اليوم الواحد بين 20 و35 استمارة عن حيوانات مصابة أو تمّ التخلّي عنها، كما توضع القطط بكراتين أمام مكتبنا".
وتؤكّد ريجينا أن سبب ارتفاع نسبة الإصابات بين الحيوانات، هو أن الأخيرة ولدت في منازل. وتالياً، حين تُرمى في الشارع لن تعرف التصرّف وإطعام نفسها فتصير أكثر عرضة للحوادث. وفي نهاية المطاف تموت لأنها لم تتعلّم أن تصطاد أو أن تعيش في الخارج.
وعن كيفية التعامل مع الحيوانات التي تصلهم، تقول إنها توصع في أماكن معينة وتُدفع مليون ونصف ليرة لإيواء الكلاب شهراً. أما القطط فبدل الليلة الواحدة يوازي 150 ألفاً. وتُعرض للتبني أو للرعاية، لكن بسبب الانهيار والغلاء المعيشي، انخفضت نسبة التبني من عشر حالات في الشهر إلى ثلاث. وتضيف: "مشروع التبني يتطلّب الكثير من التفكير. بالإضافة إلى ظهور أزمة جديدة مرتبطة بهجرة الناس من لبنان وترك حيواناتهم الأليفة لأسباب مادية أو لأنهم ليسوا مستقرّين في الخارج".
وتتابع: "الحل هو التواصل معنا قبل التخلّي عن الحيوان الأليف. بهذه الطريقة قد نتمكّن من المساعدة عبر تأمين الطعام أو تجهيز أوراق السفر أو عرض الحيوان للتبنّي عبر موقعنا. أي اللجوء إلى أي وسيلة تجنّب رمي الحيوان في الشارع. لأنه حين يتم اتّخاذ هذه الخطوة، يموت الحيوان الأليف إن لم يتلقَّ المساعدة اللازمة".
"أشعر بالذنب حين أنظر إليها فهي موجودة معنا منذ أن ولدت. لكنّي أحاول أن أوفّق بين إطعامها وبين إطعام أطفالي. حتّى اللحظة لا يمكنني بسبب الوضع الاقتصادي أن أعيدها إلى الداخل كما في السابق"
يصرّح جايسون ميير، وهو مدير منظّمة Animals Lebanon أنّه منذ انفجار الرابع من آب/أغسطس تم توزيع أكثر من ثمانية عشر ألف كيلوغرام من طعام القطط، وأنه يوجد نحو مئة ألف قطّة وقط مشرّدة لا يمكن للمنظّمة أن تعتني بها جميعاً. يقول: "خسرنا الكثير من المتبرّعين بسبب المشاكل الحاصلة في المصارف. كما أن المنظّمة تعاني مثلها مثل الجميع. فمع انهيار قيمة الليرة ازداد العبء علينا. نحاول أن نبني عملنا من جديد اعتماداً على كل ما صنعناه في السابق. لا نزال نتلقّى المساعدات والتبرّعات، لكنّها لا تغطّي جميع الحالات التي تصلنا".
وعن مساعي المنظّمة والخطوات التي يتم اتّباعها، يشرح: "لا نسعى إلى إخراج كل القطط والحيوانات من الشارع لأن هذا الأمر مستحيل. هدفنا مرتبط بخلق حالة وعي لدى الناس تجعلهم يبادرون ويهتمّون بالحيوانات الأليفة والمشرّدة بدلاً من رميها أو التعرّض لها. ومن خلال ترسيخ هذه المبادئ نصل إلى أهدافنا وإلى حماية كل الحيوانات". ويختم: "هذه الخطوات نعتمدها بالتعاون مع أفراد ومنظّمات وبعض البلديات التي تتعاون معنا. كما أننا مدركون أنّه علينا أن نعمل لسنوات عديدة كي تترسّخ ثقافة احترام الحيوان. لكنّنا نشهد تغييرات عديدة منذ أعوام ونأمل أن نصل في المستقبل إلى حميع أهدافنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...