نجد في بيروت، المدينة المقسومة بين الماضي والحاضر، كل شيء تقريباً. الدكان القديم الذي يحتوي على البضائع المحدودة، والدكان الجديد الذي يملك طابعاً تجارياً. النوع الأخير تمكّن إلى حد ما من التأقلم مع الانهيار الاقتصادي. فعلى الرغم من الخسائر التي يتحمّلها فإن الزبائن يقصدونه بهدف شراء بضائع بإمكانهم تحمّل كلفتها العالية. أما الدكان المتوارث من الجد وصولاً إلى الأحفاد، فيواجه معاناة أخرى مرتبطة بطابعه غير التجاري، واعتماده على سكّان الحيّ وحاجاتهم اليومية. لذلك، منذ بدء الأزمة وانخفاض القدرة الشرائية، تأثّر سلباً أصحاب هذا النوع من الدكاكين.
في جولة على أحياء بيروت، دخلنا الدكاكين الصغيرة واستمعنا إلى قصص أصحابها وزوّارها.
من الجامعة إلى الدكان
تضحك رغدة حجّار (35 عاماً) عند سؤالها عن الوضع العام. يجيب السيد خضر عنها وهو مشغول بالهاتف: "الحياة كلها صعبة مش بس الوضع العام".
قبل عام قرّرت رغدة، وهي أستاذة جامعية، أن تفتح دكّاناً في منطقة النويري في بيروت. والسبب الذي دفعها إلى اتّخاد هذه الخطوة هو أموالها العالقة في المصرف. تقول: "أردت أن أسحب مدّخراتي من المصرف. حين فعلت، استثمرتها في الدكان كي لا أخسرها نهائياً".
ترى رغدة أنها غير قادرة على تطوير مشروعها، لأن غلاء سعر صرف الدولار يتسبب بخسارة رأس المال الذي استثمرته بشراء البضائع ودفع بدل الإيجار.
من داخل دكّان رغدة. تصوير نغم شرف
تفتح دفتر الحسابات الذي تسجّل عليه كل ما يخرج ويدخل من الدكّان وإليه، وتعرض حال الناس: "تأتي الأم في الليل إلى الدكّان وهي تبكي لأنها لا تملك ثمن كيس الحفاضات. في حال اشترت النوع الرخيص، تضطر إلى دفع ما وفّرته عند الطبيب حين يلتهب جلد ابنها. إذاً، لا خيار أمامها سوى شراء البضاعة الأصلية. وهي لا تملك ثمنها، فتدفع النصف".
تحاول رغدة، كما يفعل كثيرون، التفكير في انسانيتها قبل أرباحها. وتجد نفسها في نهاية الشهر غير قادرة هي أيضاً على شراء كل ما يحتاجه الدكان. في دفتر الحسابات، يستدين الناس 14 ألف ليرة. وفي الدكان بضائع مفقودة لأنها غير متوفّرة عند التجّار أو لأن الشركات تبيعها بالدولار. تشرح رغدة: "لا يمكنني أن أبيع الناس بالدولار. ما أفعله هو أنّي أجمع الألف فوق الألف كي أصل إلى دولار واحد وأشتري بضاعتي من التجار الذين يعانون مثلي".
يعود العم خضر إلى القول: "كانت الحياة حلوة بالأول، هلق لا. لعبوا فينا، الله يلعب فيهم".
في دكان رغدة، كما في كل الدكاكين، الكهرباء مقطوعة. وبالتالي الألبان والأجبان وكل المواد التي تحتاج إلى تبريد مفقودة. تقول إنها تدفع أكثر من مليون ليرة شهرياً كي تحظى بساعات قليلة فقط من الكهرباء. لذا لا يمكنها شراء المأكولات التي تتلف مع الوقت. بالإضافة إلى اكتشافها أن الكثير من البضائع التي تجلبها ليست أصلية. تحكي: "يأتي المندوب ويوزّع السلع بسعر أرخص. يكذب ويقول إنّها أصلية. لكنّ الزبائن حالياً لا يهتمون بالنوعية. ما يهمّهم هو شراء السلعة الأرخص".
"تأتي الأم إلى الدكّان وهي تبكي لأنها لا تملك ثمن كيس الحفاضات. في حال اشترت النوع الرخيص، تضطر إلى دفع ما وفّرته عند الطبيب حين يلتهب جلد ابنها. إذاً، لا خيار أمامها سوى شراء البضاعة الأصلية. وهي لا تملك ثمنها، فتدفع النصف".
في نهاية الشارع، قبل الوصول إلى منطقة برج أبي حيدر، يدخل الرجل إلى الدكّان حاملاً بابور الغاز ويطلب أن يتم التأكّد من حسن عمله. يعمل البابور، يفرح الرجل ويعود إلى منزله. يرفع صاحب الدكان يده في الهواء، ويقول إنّها متّسخة لأنه كان يعمل على إصلاح البابور. فجاره حين قصده بهدف شراء قارورة غاز، لم يستطع أن يدفع 260 ألف ليرة (12 دولار)، فاستعان بالبابور القديم ليطعم عائلته.
هذه الدكاكين الصغيرة تعكس حكايا الناس، وحكايا المدينة، وتدلّنا حين ندخلها على طريقة سير اليوميات في بيروت وعلى تاريخ العائلات.
"ورثت الدكان عن أبي"
يحكي أحمد عقيل عيسى عن الدكان الذي كبر فيه بأسلوب جامد، ويفكّر جدياً بإقفاله بعدما أصبح من غير الممكن شراء كافّة أنواع المنتجات الغذائية. هذا الدكان الصغير الذي استطاع أن يعيله هو وعائلته قبل عقود، حين كان ملكاً لوالده، يكابد اليوم خسارة يومية.
أكياس الفاصولياء والعدس قرب الزجاج. على الحائط أعلى المكتب صورة والده الراحل. يقول إنه في السابق كان يضطر إلى وضع العلب المقفلة فوق البراد لأن الدكان ما كان ليتّسع لها كلّها. أما اليوم، فالرفوف شبه خاوية. يشرح: "صباح اليوم، كنت أناقش مع ابني علي احتمال إقفال المحل. كلّنا نعمل ولسنا قادرين على تأمين مصروفنا اليومي. أتنقّل يومياً بكلفة 40 ألف ليرة(2 دولار)، وفي حال أردت تناول الطعام أدفع 20 أخرى. أفكّر بقيمة فنجان القهوة الصغير قبل شرائه. وكل ما أنتجه من الدكان لا يكفي سوى مصروفي الشخصي. يعني، الجلوس في المنزل صار مربحاً أكثر من القدوم إلى هنا".
من داخل دكان أحمد. تصوير نغم شرف
أزمة دكّان أحمد مرتبطة بأزمة الناس. الرجل غير القادر على شراء قنينة الغاز، غير قادر أيضاً على شراء كل الأطعمة. هذه الأزمة ممتدّة إلى جميع البيوت اللبنانية. وهكذا، يجد صاحب الدكان نفسه عالقاً بين مواد غير قادر على تصريفها، وأخرى غير قادر على شرائها من التجار والشركات, ويقبع في حالة جمود بين الليرة اللبنانية وبين الدولار.
يأتي علي، ابن أحمد، وهو طالب جامعي إلى الدكّان كي يعين والده خلال أوقات فراغه. يقول إنه في حال ارتفع بدل الإيجار لن يتمكّنوا من الاحتفاظ بالدكّان الذي تعمل فيه العائلة منذ أكثر من 50 سنة. ويصر على أن أزمتهم الحقيقية نابعة من عدم مقدرتهم على الشراء والاستيراد. يقول: "ما نضعه على الرفوف يتم وضعه كوسيلة للحفاظ على الدكّان، لكن نحن كما الزبائن لا نستفيد".
قبل عام قرّرت رغدة، وهي أستاذة جامعية، أن تفتح دكّاناً في منطقة النويري في بيروت. والسبب الذي دفعها إلى اتّخاد هذه الخطوة هو أموالها العالقة في المصرف.
الدكاكين التي حفظناها في بيروت، تشاهد مطالب الأطفال الذين يحارون ماذا يشترون وقلق الأهل الذين يعدّون الأوراق النقدية. لكل واحد من هذه الدكاكين قصّة خاصّة، بدأت ربّما من جدّ أراد أن يؤسس عمله الخاص، أو ختمت بسبب الانفجار في 4 آب/ أغسطس.
في الجميزة تجلس تيريز شمعون (54 عاماً) في دكانها الذي تملكه منذ أكثر من 10 سنوات، وتحكي لرصيف22 عن وضعها المعيشي الذي انقلب في العام 2019.
دكان شهد الانتفاضة وكسره الانفجار
تسجّل تيريز ما يبتاعه الزبائن على دفتر صغير لأن الكهرباء مقطوعة. تستدير نحو الرفوف لتؤكّد على فراغها وتحكي قصّة دكانها التي تعود إلى الحرب الأهلية. حينذاك، كان والد زوجها يملك المحل ويبيع فيه أدوات خاصّة لصالونات الحلاقة. لكن حين انتهت الحرب، وفُتحت المناطق بعضها على بعض ازدادت المنافسة، وتحوّل المحل إلى متّجر سمانة استلمته تيريز منذ نحو 10 سنوات. يومذاك كان يخدمها الدكّان بشكل جيّد، لكن عن الحاضر تقول:"المنافسة كبيرة جداً في الشارع. وأنا غير قادرة على مجاراتها. عليّ أن أعمل وحدي في الدكان أو أقفله لأنّي غير متمكّنة من دفع راتب شهري لموظّف".
وتضيف: "تخايلي شقفة هالمحل بدّها تعيّش كذا عيلة بنص الانهيار".
من داخل دكان تيريز. تصوير نغم شرف
في العام 2019 حين بدأت الانتفاضة عانت تيريز من إقفال الطرقات، والمناوشات التي كانت تحدث في الساحات وتمتد إلى الأحياء الفرعية والرئيسية في الجميزة، لكّن أزمتها الحقيقية نابعة من انفجار المرفأ.
تتوقّف تيريز عن سرد قصّتها. تتوجّه نحو البرادات وتطفئ بعضها كي لا ينقطع المولد الكهربائي. تَحار. تختار أن تطفئ براد المشروبات الروحية.
يدخل العامل الأجنبي، يسأل عن البطاريات. حين يعلم أن سعرها 17 ألف ليرة يعيدها إلى مكانها. تقول تيريز إنه لولا المحال التجارية القريبة منها والتي تبيعها الماء والخبز والدخان لما كانت ستنجو. وتضيف: "جاء الانفجار. حطّم المنزل والسيارة والدكّان. دفعنا تكلفة تصليح كل شيء من مدخّراتنا الخاصّة. ومنذ ذلك اليوم ونحن ننتظر تغطية الدولة للتكلفة التي تفوق 50 مليون ليرة (2469 دولار). على الرغم من أنّي أملك كل الفواتير، بالدولار والليرة، إلا أن الدولة لا تستجيب".
تسعّر تيريز البضاعة بحسب الزبائن، أنواع الشوكولا أغلبها من تركيا لأن هذا ما يجلبه التجّار. أما الأنواع الأخرى، مثل مارس وتويكس وغالاكسي، فتبتاعها بكميات محدّدة ولزبائن "تقّالة" بإمكانهم دفع سعرها.
وتشرح أن نجاتها لن تتحقّق إلا حين تدفع الدولة ما يتوجّب عليها للمتضرّرين من الانفجار. "حينذاك فقط، سنتمكّن من شراء بضاعة جديدة وملء رفوفنا الفارغة".
"إذا ما لقيتيني بالبيت بتلاقيني بالدكانة"
تحكي مهى زيتون (75 عاماً) عن دكّان السيد حسني الجالسة بداخله في منطقة زقاق البلاط وكأنها تحكي عن حياتها. تقول إنها ربّت حسني وعرفت والده. وإنّ هذا الدكان يجمع كل سكّان المنطقة الذين يقصدونه لشراء حاجاتهم اليومية وللجلوس فيه ومشاركة قصصهم.
هذا الدكان الواقع على زاوية الشارع ورثه حسني عن أبيه وجدّه. يقول إنه يحبّه لأنه مصلحته وإنه حتى اللحظة بإمكانه مجاراة الأحداث اليومية، لكنّ أغلب الأفراد لا يمكنهم ذلك. تقاطعه مهى: "الناس تأثّرت كثيراً بالوضع الزفت. اللي كان يشتري 2 كيلو، اليوم صار يشتري نصف كيلو. بس سكان المنطقة بيجوا لهون لأن الدكانة منيحة وبتحس فيهم".
يقول حسني سعد الملقّب بحسّون إنه لن يقفل دكّانه على الرغم من أن الناس "عايفة حالها" وقدرتها الشرائية شبه معدومة. تقاطعه مهى: "حسّون روح المنطقة ما في يسكّر. كل الناس بتعرفه والدكّان متل بيتنا. إذا ما لقيتيني بالبيت بتلاقيني عنده. حبيبي حسّوني".
يجد صاحب الدكان نفسه عالقاً بين مواد غير قادر على تصريفها، وأخرى غير قادر على شرائها من التجار والشركات, ويقبع في حالة جمود بين الليرة اللبنانية وبين الدولار.
كل دكاكين بيروت القديمة تتحّول إلى أماكن لقاء بين الجيران وسكّان الحي الواحد. من لا يريد البقاء وحيداً في منزله يخرج إلى الدكان، وهناك تلقائياً يصادف وجوهاً يعرفها.
هذه الدكاكين، التي صارت قليلة، بإمكاننا أن نفقدها مع استمرار الانهيار لأنها تعتمد على العائلات اللبنانية. والعلاقة بينهما تبادلية، مرسّخة منذ ما قبل الأزمة ومترجمة بدفاتر الحسابات والديون التي يتم سدادها أول كل شهر. اليوم، هذه الخدمات والعلاقات لم تعد ظاهرة. فأصحاب الدكاكين محرومون من شراء البضائع، والزبائن يحسبون حساب الألف ليرة. وكما يحدث يومياً في لبنان، ومن خلال هذه الدكاكين التي تكبرنا، نشاهد البلد يفرغ من حاجات الناس الأساسية ليأتي الانهيار ويحل مكانها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع