تعاني السينما المستقلة في كل الوطن العربي من ضعف الإنتاج أو محدوديته، ولكن في الوقت عينه، في حال فهم صنّاعها أصول اللعبة فأنها ستجد ضالتها، سواء من حيث التمويل الكبير -باعتبارها أفلاماً مستقلة يمكن تسيسها لخدمه قضايا ومواضيع تروق لأصحاب صناديق الدعم والمانحين والمنتجين الأجانب وحتى العرب- أو من حيث فرصة التوزيع والعرض لاحقاً.
تمويل انتقائي
مؤخراً، في مهرجان الجونه السينمائي الدولي، مُنحت مجموعة من المشاريع السينمائية دعماً مادياً كبيراً، بينما تم تنحية أو تجاهل مشاريع سينمائية أخرى على قدر كبير من الأهمية، لكنها ربما لا تحمل مضامين تروق لأصحاب المنح لتمويلها والعمل لاحقاً على ترويجها، سواء في المهرجانات أو منصات العرض البديلة.
وبات اليوم واضحاً جداً أن السينما المستقلة التي تلقى دعماً إنتاجياً وخاصة في حال كان ذلك الإنتاج مشتركاً، تلقى أيضاً، وبالتبعية، دعماً كبيراً وموازياً لتوزيع وبرمجة تلك الأفلام في المهرجانات العربية والدولية، وخاصة مهرجانات الفئة (أ)، وهو أمر قد لا يتاح أو فعلاً لن يتاح لأفلام أخرى مستقلة يتيمة، رغم أنها قد تحمل بُعداً سينمائياً وفكراً فنياً.
تقول الناقدة المصرية أمل الجمل: "لابـد مـن الاعـتراف بـأن الإنـتاج السـينمائـي المشـترك يـقوم بسـد فـجوة تـمويـلية، وخاصة مع تراجع دعم الدولة، ويمنح هامشاً من الحرية، لكن يبقى الهدف الأسمى منه هو الوصول إلى الأسواق العالمية والتعريف بسينمانا ونجومنا".
ما هو معيار اختيار الأفلام المستقلة لتكون نصب أعين المبرمجين للمهرجانات بشكل عام، ومهرجانات الدرجة (أ) بشكل خاص؟ وهل فعلاً الفيلم السينمائي بات يحتاج لإنتاج ضخم يحمله أو فقط لظهر قوي يسنده، أو كليهما معاً؟
الحديث عن هذا الموضوع طويل جداً ومتشعب، وهو ذو أبعاد كثيرة لا يمكن حصرها، لكن في نهاية الأمر، لابد لنا من التسليم بأن إرادة الجهة المنتجة هي الغالبة على اختياراتها، وأن آلاف الكلمات وعشرات المقالات لن تجعلها تغير سياستها، ولا حتى مواقفها تجاه دعم أو عدم دعم فيلم ما، وقبول أو رفض برمجة فيلم ما ضمن مهرجان ما.
فعلى سبيل المثال، فيلم "ريش" الذي عُرض مؤخراً في مهرجان الجونه، وأصبح بدوره "تريند" لأسباب باتت معروفة وليس هناك مجال لذكرها في هذه العجالة، يجعلنا نسأل كيف استطاع هذا المخرج أن يحصل على كل التمويل لإنتاج فيلمه والوصول لأهم المهرجانات العالمية، رغم أن فكرته تحمل الكثير من الفانتازيا، ولا نجوم من الصف الأولى أو حتى الرابع فيه.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن فيلم "وش القفص" روائي طويل لكاتبته ومخرجته دينا عبد السلام، والذي قام ببطولته، بعيداً عن الممثل أشرف مهدي، مجموعة من الممثلين الهواة، عانى من بعض المهرجانات المصرية وحتى الوليدة منها، لأن ما من بطل أو نجم يحمله، ولكنه لحسن الحظ استطاع إقناع الإدارة الفنية لمهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي لدول البحر المتوسط للمشاركة في مسابقته الدولية، وهو أمر يحسب للمهرجان ومديره الفني عصام زكريا، باعتباره فيلماً إسكندرانياً ويقدم عرضه الأول لجمهور الإسكندرية .
فما هو معيار اختيار الأفلام المستقلة لتكون نصب أعين المبرمجين للمهرجانات بشكل عام، ومهرجانات الدرجة (أ) بشكل خاص؟ وهل فعلاً الفيلم السينمائي بات يحتاج لإنتاج ضخم يحمله أو فقط لظهر قوي يسنده، أو كليهما معاً؟
أسئلة كثيرة تستوقفنا بعد مشاهدة فيلم "وش القفص"، الذي تدور قصته بشكل كوميدي مؤلم حول موضوع إنساني حقيقي يعيشه معظم المصريين من أصحاب الدخل المحدود
جهود سينمائية فردية
أسئلة كثيرة تستوقفنا بعد مشاهدة أي فيلم سينمائي، وليس فقط بعد مشاهدة فيلم "وش القفص"، الذي تدور قصته بشكل كوميدي مؤلم حول موضوع إنساني حقيقي يعيشه معظم المصريين من أصحاب الدخل المحدود، وربما بعض من العرب في البلدان التي تعاني مجتمعاتها من تدهور اقتصادي نتيجة التضخم وارتفاع الأسعار، الأمر الذي يجعل فئة لا بأس بها من الشعب تلجأ لتشكيل تجمعات صغيرة بهدف جمع المال، لا تحكمها أعراف ولا تنظمها قوانين.
صحيح أن فيلم "وش القفص" قد لا يكون فيلماً هاماً لدى البعض، من حيث المضمون الذي يقدمه، فهو لا ينشر غسيل مجتمع ولا يصور قذارة أماكن باتت بسبب الفقر مهملة، لكنه في الوقت عينه، يطرق باب موضوع حقيقي وإنساني يلامس قلوب معظم من عاشوا تلك التجربة، سواء بشكل مشابه وصغير أو حتى بشكل كبير وضخم (كتجربة الريان وتوظيف الأموال) وهي التجربة التي ربط بينها وبين الفيلم بعض من جمهور الإسكندرية، على الرغم من أن كاتبة ومخرجة الفيلم لم يكن في حسبانها ذلك.
لكن المؤكد أن دينا عبد السلام (سبق لها وأن أخرجت بعضاً من الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية نذكر منها "مستكة وريحانه، رحمه ونور، كان وأخواتها"، وتعرف تماماً صعوبة إنتاج فيلم وإخراجه للنور) قد بذلت جهداً مضاعفاً هذه المرة، فهي لم تكتف بدورها ككاتبة ومخرجه للفيلم، بل تخطتها لمهام أخرى، كان سببها المباشر قلة الدعم المالي وعدم وجود شركات إنتاج، سواء محلية أو أجنبية، في ظهرها.
تقول عبد السلام: "عادة ما أكتب وأخرج أفلامي التي يُطلق عليها سينما المؤلف، حيث تنطلق قصة الفيلم مني، ثم أقوم باحتضانها وكتابتها كسيناريو وحوار، سواء بشكل منفرد أو بالمشاركة مع آخرين، فأنا أعتقد أن سينما المؤلف بطبيعتها تستلزم طيلة الوقت وجود رؤية للمخرج وطرح يتبناه، فهو ليس مجرد مخرج معني بالجانب البصري والتقني وتحويل النص إلى صورة مرئية، ولكنه مشارك منذ البدء في خلق النص وصقله برؤيته.
لكني في فيلم (وش القفص) شاركت بمهام أكثر، بدءاً من مرحلة البحث عن لوكشن (مكان تصوير)، وعمل الكاستينج (تجربة الأداء للممثلين)، إلى مرحلة المونتاج والمكساج وتصحيح الألوان. كل ذلك بمشاركة بطل الفيلم أشرف مهدي، وأعتقد أن جزءاً كبيراً من هذه المهام التزمت بها فعلياً بسبب عدم وجود ميزانية كافية للاستعانة مثلاً بمونتير، واستئجار استديو للمونتاج لساعات طويلة. كنا نتقاسم المهام والأدوار أثناء عملية ما بعد الإنتاج والمكساج، بالإضافة للتحريك (والفيديو إيفكت)".
ولكن ورغم محبة المخرجة للمونتاج، إلا أنها كنت تفضل وجود عين أخرى تقوم بالمهمة: "اضطررنا للعمل في كل تلك المهام كحل بديل فرضته علينا الظروف المتعلقة بالأمور المالية".
دينا عبد السلام
وتعتبر دينا نفسها محظوظة هذه المرة لأنها تمكنت من الحصول على دعم ولو بسيط جدا من قبل شركة "نيو بكتشر"، وهي شركة إنتاج جديدة يديرها شريف أبو هميلة، لكن يبقى الفيلم من نوعية الأفلام المستقلة الحقيقية ذات الميزانية الصغيرة للغاية، ولا يمكنه أن يحظى بدعم مالي، كما حصل ويحصل مع باقي أفلامها، لأن فكرته، بحسب عبد السلام، لا تروق للمناخ الغربي الذي لديه نظرة استشراقية عنا ويريد موضوعات بعينها، فالأفلام التي تحصل على تمويل أو دعم أجنبي، وخاصة صناديق الدعم الخارجية، دور المانح فيها لا يتوقف أو يقتصر على التمويل، وإنما يكون هدفه الأهم أن تشارك تلك الأفلام في المهرجانات، وبالتالي تلقى منه دعماً ومساندة كبيرة وقوية. بالنهاية هناك شبكة تبدأ بدعم الأفلام التي تحمل مواضيع بعينها لإنتاجها، وتستمر ممهدة الطريق لعرضها في المهرجانات.
الجدير ذكره أن فيلم "وش القفص"، وبعد عرضه العالمي الأول في مهرجان الإسكندرية وسط جمهوره، شارك في كل المهرجان المصري الأمريكي للسينما والفنون ومهرجان ماردوهام بالهند، والذي نال عنه ثلاثة جوائز (جائزة أفضل فيلم روائي دولي طويل، جائزة أفضل مخرجة وجائزة أفضل بوستر)، كما سيكون حاضراً في كل من مهرجان "الرباط" لسينما المؤلف ومهرجان "الطاووس الذهبي" في الهند.
ويؤدي بطولته، إلى جانب أشرف مهدي، كل من أمين حجازي، أمينة الزغبي، أنسي الجندي، حنان حناوي، دعاء الزيني، راوية همام، سعيد مصطفى، سمير قنديل، شريف أبو هميلة، عبير السيد، ماجد عبد الرازق، منى عبد الله وهنا حمزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون