شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
اقتصاد الهُنيهات... محاولات مستحيلة ضد التعب

اقتصاد الهُنيهات... محاولات مستحيلة ضد التعب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 9 ديسمبر 202111:00 ص

"كان أبي يقول وقد اهترأت رئتاه إذاً. لسبب أو دون سبب، أنه لا يتألم إلا حين يتنفّس، لم يقل إنّ في الأمر ما يدعو إلى التوقف عن التنفّس. إذ دائماً يحين الوقت الذي تعتاد فيه الألم، حتى إذا زال الألم أوجعك غيابه. ولم يقل إنه اعتاد الألم، بل قال شيئاً عن وحشة الأماكن الشاغرة".

بسّام حجار "مجرد تعب".

لا تكتب وانسَ كلّ شيء

نقرأ في كتاب "تاريخ التعب، من العصور الوسطى إلى أيامنا هذه"، للفرنسي جورج فيغاريلو، عن محاولات البشر رصد التعب، في سعي لتكميمه على أساس الجهد المبذول جسدياً، ونكتشف أن التعب كان لفترة طويلة "يُقاسُ" وصفاً، أي باستخدام الكلمات، لذ صَعُبَ تعيينه كموضوعة للبحث والقياس، إذ نقرأ مثلاً كيف كان يقاس التعب بالمسافة: "مشيت ميلاً"، أو بمقدار الإفرازات الجسدية: " تعرقت نهراً"، أو بمقدار الاهتراء: "مشيت حد أضحيت حافياً"، وعلى طول الكتاب، يتنقل فيغارلو بين النصوص الطبية والاقتصاديّة والعلميّة بل والأدبيّة سعياً وراء تحولات التعب.

نقرأ في كتاب "تاريخ التعب، من العصور الوسطى إلى أيامنا هذه"، للفرنسي جورج فيغاريلو، عن محاولات البشر رصد التعب، في سعي لتكميمه 

ما لفت انتباهنا في الكتاب هو ما قام به الكيمائي الفرنسي أنتوان لافوازييه عام1777 م، المعروف بأنه مكتشف الأوكسجين وحضوره في المركبات الكيميائيّة، لكن ما يغفل في تاريخه هو الجهاز الذي اخترعه لرصد كمية الأوكسجين التي "يخسرها/يفرزها " الجسد، وإمكانية حسابها، فما كان داخل الجسد (التعب) أصبح خارجه، ويمكن تحديد مقداره (خسارة الأوكسجين).

لا يكتفي "الـجهاز" بقياس الجهد الجسدي المرتبط بالمهن العضلية، إذ كتب لافوزاييه أنه بالإمكان استخدامه أيضاً لقياس الأوكسجين المفقود أثناء ممارسة أنشطة فكريّة، إذ يمكننا مثلاً أن نقيس مقدار الجهد الذي يبذله من يلقي خطبة، أو فيلسوف يفكر، أو مؤلف يكتب، أو مُوسيقي يلحن مقطوعة.

لا نعلم إن كان جهاز لافوازييه قادراً على قياس التعب والألم الذي تسببه "وحشة الأماكن الشاغرة"، لكنه وبسبب اعتماده على الأوكسجين، يَربُط التعب بـ"الحياة" -إن أردنا أن نقرأ ما سبق في ظل العلوم الحالية، أي كمية الأوكسجين الذي يجتاز جدران الخلايا دخولاً وخروجاً، بالتالي نحن أمام مقياس يعتمد "الزفرات" وتفاوت شدتها ومهنة من يصدرها، والأهم يركز على الزمن المُجْهِدِ وكيفية استهلاكه لـ"الحياة".

واستنتج أن رجلاً صائماً، يجلس في حرارة 32.5 مئويّة، يستهلك 23.8 ليتر من الأوكسجين في الساعة، وبعملية حسابية بسيطة، نكتشف أن الرجل السابق يستهلك 0.39 ليتر أوكسجين في الدقيقة، وعلى افتراض أن معدل التنفس الطبيعي بين 15 إلى 20 شهيق وزفير في الثانية، فكل شهيق يحوي 0.032 ليتر أوكسجين على فرض 17 شهيق في الدقيقة.

كان التعب محط جهود الخيمائيين والسحرة ربما إلى الآن، واقترن أحياناً بالنسيان، حينها كان التعب كتلة واحدة، تَهدُّ الجسم وتنفي فاعليته، وعمل العطارون على مقاومته بالزعفران والزنجبيل

"المعادلة" السابقة تقدم لنا نموذجاً أو تخيّلاً عن رجل في أقل أشكال الإجهاد، يختبر درجة حرارة عاديّة، لا يهضم ولا يتمرن، هو يجلس فقط.

65 ألف صفحة، لا تتنوع موضوعاتها، تندرج تحت يوميات، تتناول شخصاً واحداً، الكاتب ذاته، هكذا يمكن وصف ما تركه الأمريكي كلود فريدريكس وراءه من "أثر"، فالكاتب والمؤلف المسرحي والأستاذ الجامعي، دوّن مذكراته منذ أن كان بعمر الثامنة عام 1932، حتى عمر 89 عاماً، عام 2013.

لا نعلم ما هي المعادلة الرياضيّة التي يمكن أن نستخدمها لقياس أنفاس فريدريكس، أو "تعبه"، ومقدار الأوكسجين الذي استهلكه لكتابة يومياته التي لم تطبع بعد، إذ ما زالت محفوظة في أرشيف إحدى الجامعات الأمريكيّة.

لكن، إن كانت الكتابة فعلاً لتذكّر الصوت (جاك دريدا)، ومبادرة لفصل اللغة والزفرة والنبرة ولحظة النطق عن "النَفَس" و"النَفس"، و"تدوينها" لأجل التاريخ أو لأجل الكتابة ذاتها، فما قام به فريدريكس رهان خاسر، تعب وأوكسجين مهدوران بصورة أخرى، إذ من المستحيل أن نقرأ مذكراته بأكملها، وإن فعلنا ضمن مشروع انتحاري كهذا، لا يمكن عدم مقارنتها مع تاريخ النصوص وتاريخ المذكرات، إذ يتلاشى صوته بمجرد أن "نقرأ".

لا نحاول أن نرسم "صورة الكاتب" أو تخيّلها، بل اكتشاف زمن الراحة ووصفه، زمن الأوكسجين المخصص للحياة بحدود لا تولّد التعب (0.032 ليتر أوكسجين)، ربما يمكن أن نسمّي هذا الوقت زمن النسيان أو زمن الغياب، ذاك الأقل تعباً، لكن هل لا يتألم من يعيش ليعَلَم أنه في كلّ يوم سيجلس لـ"يكتب"، ثم "ينسى"؟ من الممكن هنا أن نفهم المقصود بـ"وحشة الأماكن الشاغرة"، تلك التي يرسم أطيافها ولطائفها النسيان، تلك التي ربما كتب فريديكس 65 ألف صفحة كيلا ينساها، كيلا يتألم.

تعويذة اللاتعب: أحرف النسيان المستحيل

كان التعب محط جهود الخيمائيين والسحرة ربما إلى الآن، واقترن أحياناً بالنسيان، حينها كان التعب كتلة واحدة، تَهدُّ الجسم وتنفي فاعليته، وعمل العطارون على مقاومته بالزعفران والزنجبيل حسب فيغاريلو، لكن المثير للاهتمام هو الحفاظ على الصيغة اللغوية لقياس التعب، لكن بالرغم مع التطور العلمي الهائل، بقي مقياس التعب يراهن على "الوصف"، كـ"مشيت حتى فقدت حذائي، عملت إلى أن رأيت السماء تسقط".

 "من كتب محمد رسول الله صلعم، أحمد رسول الله صلعم، خمس وثلاثين مرة في بطاقة بعد صلاة الجمعة وأبقاها معه... بشكلها العددي، أمّنه الله تعالى من الأعداء المضرين... وأما شكلها الحرفي فيُذهب النسيان ويمد الفهم والعقل"

الأوصاف السابقة تكشف استطاعة وهمية تمتلكها الكتابة، ألا وهي القدرة على تكميم التعب، فالوصف هنا يكسب الكتابة قيمة جسمانيّة، أي تعبر عن لحظة وهن جسدي، لا يمكن اختبارها من قبل القارئ، بل التمتع بها أو محاولة تخيّلها. هذه القدرة غير علميّة، سحرية ربما، حاربها اللغويون، لا علاقة لها بتاريخ اللغة، وهنا يتضح أمامنا تنبيه فيرديناند دو سوسيور علم 1916 في "محاضرات في الألسنية العامة": "الكتابة تضرب حجاباً أمام بصيرة اللغة، إنها ليس برداء، بل مظهراً مغايراً للطبيعة".

يمتد تنبيه دو سوسيور للحديث عن خصائص الكتابة بوصفها تستدعي العاطفة التي يقع ضحية حجابها القارئ أو العالم، هذه الخصائص تنفي عن الكتابة حقيقتها المُدّعاة، وتتركها كـ"قناع" و"تمثيل"، لكنها أيضاً تكسبها سحراً، وهذا بالضبط السبب الذي نلجأ فيه إلى كتاب "شمس المعارف الكبرى"، بحثاً عن تعويذات "التعب" و"النسيان"، لنسلّم بسحر الكتابة، تلك الأداة "الخارجيّة"، وإمكانيّة وجود تعويذة قادرة على أن تنفي التعب والنسيان، الشأنان شديدا "الداخلية"، اللذان لا تعبر الكتابة عنهما إلا توهّماً.

نقرأ في "شمس المعارف" التعويذة التالية ضد النسيان: " أذا أردت أن تحفظ كل ما تسمع ولا تنساه، اكتب هذه الأحرف في جامٍ زجاج واشربها بالماء القراح ثلاثة أيام، فإنك ترى العجب العجاب من شدة الفهم، وتقول عند شربها: "ففهمناها سليمان إلا آية"، والأحرف الواجب كتابتها على الشكل التالي:

تتناول التعويذة السابقة الذاكرة، تلك التي تتعكز على المكتوب لتنفي حدود النسيان، لكنها تحل مشكلة واحدة ذُكرت في البداية على لسان حجار : "إذ دائماً يحين الوقت الذي تعتاد فيه الألم، حتى إذا زال الألم أوجعك غيابه"، ألا وهي غياب الألم، وغياب التعب، الأحرف السابقة، تحافظ على حضورهما، وتمنع أثر "غيابهما".

لكن هل التعب ذاته قابل للنسيان؟ والواضح أن لا وصف للتعب في التعويذة، فمن يلقيها قادر على استذكار كل "كلمات" تعبه، حتى لو لم يكن منهكاً، لكنه نهايةً عاجز عن لفظ التعب من داخله، ربما هذا يبرر شرب التعويذة نهايةً.

نقرأ في تعويذة أخرى التالي: "من كتب محمد رسول الله صلعم، أحمد رسول الله صلعم، خمس وثلاثين مرة في بطاقة بعد صلاة الجمعة وأبقاها معه... بشكلها العددي، أمّنه الله تعالى من الأعداء المضرين... وأما شكلها الحرفي فيُذهب النسيان ويمد الفهم والعقل، ومن استدام شربها في ماء المطر وعسل نحل تنفع لمن يشتكي صدره...".

الملفت في التعويذة الثانية هو اقتران النسيان بألم الصدر، ذات التعويذة يمكن أن تشفي الذاكرة والصدر، أي يقل استهلاك الأوكسجين، بالتالي التعب، هنا نستذكر والد بسام حجار، ذاك الذي لا يتألم إلا حين يتنفس، تعب من توليد الحياة نفسها، وتكرار الفعل الفيزيائي المرتبط بها (التنفس).

نحاول تقنيّة أخرى تنافي كل نصائح دو سوسيور، ونتتبع خصائص أحرف كلمة تعب، معارف لا معجمية هنا، تنفي اللغة ومؤسساتها ومنطقها الداخلي، معان قائمة على تأويلات وسحر لا يمكن ضبطه، هي محاولة لرصد "الداخل" عبر الكلمة "الخارجيّة" التي تصفه، ت ع ب، ونقرأ:

كل مهمة متعبة، الاستيقاظ، المشي، الكلام، كلها تستهلك "أوكسجيناً" أكثر من المفترض، الكتابة عن التعب متعبة، عدم الكتابة عنه متعبة، نسيانه متعب وتذكره متعب

- حرف التاء: حرف بارد صامت يابس، يُنجي من الغرق إن كان مكتوباً على خاتم 400 مرة، وإن وضع في سفينة أنجاها من الغرق.

- حرف العين: حرف ناطق بارد، منبع العلوم والحكم، ومن نظر إليه أربع مرات يومياً ألهمه تعالى نطق العلوم والحكم.

- حرب الباء: حرف صامت بارد يابس، أول مراتب عنصر الأرض، من يحمله محمي من الأمراض الدمويّة، ومن علقه على صلبه ماتت شهواته.

المرعب في معاني "ت ع ب"، أنها تحوي احتمالات الغرق، والأمراض الدموية، وموت الشهوة، كلها أعراض جسدية، وهنا تأتي الحكمة التي يحملها الـ"ع" مبتذلةً: من يمتلك كلمات وهو يغرق تعباً؟ هل من كلمات أخيرة للغريق، أو للمتعب حدّ الغرق؟ لا أحجية ولا تعويذة تنجيه، ربما، انقطاع النفس هو الدليل، وهنا يعجز التفكير العلميّ، إذ لا تقيس ماكينة لافوازييه أوكسجين الموتى وهو يغادر أنفاسهم.

تمارين ضد هنيهات التعب

تُعلّمنا كتب تطوير الذات وإدارة القرارات واقتصاد الأنا كيف نتجاوز المهمات الصعبة والمتعبة، وذلك عبر تقسيم الوقت وخلق قوائم مهمات مهما كانت صغيرة، في سبيل خلق نموذج متخيل لحياتنا، يفترض هذا النموذج قواعد صارمة، وأوامر شديدة الجزئية (رتب سريرك، تنفس، عبئ فنجان القهوة، تنفس...)، تجتمع كلها نهاية لتكون ذاتك الجديدة، تلك التي لا تعرف التعب، ولا تنساق وراء الكسل والاستطراد والتفقه في إضاعة الوقت.

تقسيمات الوقت هذه حسب الأنفاس، أو المهمات أو الخطوات، تفترض أننا متعبون دوماً، محبطون، على وشك الغرق، لا نجيد التنفس (هناك كتب كاملة عن تقنيات التنفس وكيفية إتقانها، بل أن هناك دين بأكمله قائم على التنفس)، وكأن كل شهيق وزفير صراع يومي، ليأتي هذا النموذج كوسيلة لجعل كل هُنيهة تميل نحو الإنتاج، هو برنامج دقيق لمحاربة التعب وأعراضه وأوصافه، لنرى أنفسنا في نهاية النهار كسبنا ساعتين، وأنجزنا الكثير دون تعب أو وهن.

لكن، كل مهمة متعبة، الاستيقاظ، المشي، الكلام، كلها تستهلك "أوكسجيناً" أكثر من المفترض، الكتابة عن التعب متعبة، عدم الكتابة عنه متعبة، نسيانه متعب وتذكره متعب، وفي كل لحظة نقسم فيها الهُنيهات حسب النموذج الاقتصادي السابق، نغرق أكثر في تمارين النجاة من التعب، كي نكون مُنتجين، حريصين على أنفسانا وأوقاتنا.

تستهلك هذه التمارين وعينا (كل شيء يصبح سهلاً بعد عشر ثوان)، و تهدّد تدفق الزمن فينا ( قم بالعد إلى ثلاثة قبل فتح الباب)، والأهم، تفترض أن معظم ما نقوم به خاطئ، يحوي بعض الحسنات، لكن السيء أكثر (خذ شهيقاً وزفيراً قبل أن تقول أي شيء).

تحاول النماذج السابقة تكميم الإنتاجيّة والتحكم بتدفق الزمن، كعلامات الترقيم، تضبط التنفس والتوقف حين نـ(تـ)ـقرأ، لكن ربما هي مقاييس، تتلمس الزفرة والنفس وانقطاعه، تتسلل بين "الوصف" و"النماذج"، علامات مفادها ألا تنسى: توقف، خذ نفساً وأنت تقرأ، هذا النظام يفرضه النص على قارئه، يتحكم بأنفاسه، يمنع القارئ والكاتب من التوقف عن التنفس، قشة كيلا يغرقا كما في التعويذة وراء أحرف ت ع ب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image