شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"البط الأسود" وإشهار المثلية الجنسية... الشيخ السابق خلف يوسف ومحطاته في بيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 24 نوفمبر 202104:11 م
Read in English:

The Black Ducks and Coming Out... Former Cleric Khalaf Yousef and his “Beirut Pitstops”

تندرج هذه المقالة ضمن مشروع "رصيف بالألوان"، وهي مساحة مخصّصة لناشطين وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمين لهم/نّ، للتحدّث بحرية ودون أي قيود عن مختلف التوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، للمساهمة في نشر الوعي العلمي والثقافي بقضايا النوع الاجتماعي، بمقاربات مبتكرة وشاملة في آن معاً.

حياة الشيخ السابق خلف يوسف ما قبل "البط الأسود"، هي غيرها ما بعد "البط الأسود".

"البط الأسود" هنا ليس عنواناً لرواية من كلاسيكيات الأدب العالمي أو لفيلم من أيقونات الفن السابع، إنها قناة الملحدين العرب التي بدَّلت كل حياة الداعية.

تلك الطيور التي تستأنس بحياة المستنقعات المائيَّة قبل أن تُذبح بعمر الشهرين، يمكن تجاوزاً تشبيهها بحياة خلف يوسف، مع فارق أن الأخير ذبحه مجتمعه منذ اليوم الأول الذي جاهر بحقيقة هويته الجنسية وإلحاده.

ذلك الرجل الذي اعتلى المنبر يافعاً وخطب بالمصلين في عمر العشرين، وُلد مرتين: "المرة الأولى يوم هوى من رحم أمه حاملاً صبغيات المثليَّة الجنسية"، كما يعتقد، والثانية يوم هوى طائعاً أن يُشهِر مثليته الجنسية وإلحاده في نيسان/أبريل عام 2013.

ما بين الميلادين الكثير من العمر، والأكثر من القهر والعذاب النفسي، ثمان وثلاثون سنة عاشها خلف يوسف بجسد مستعار، "متخفياًّ داخل الخزانة"، مُقيَّداً بعمامة شيخ، تأرجح فكره الديني بين سلفية حنبلية جوهر فلسفتها "القتل أو الاستتابة"، وبين صوفية دينية جوهرها البحث عن الدقائق والرقائق والروحانيات.

إرضاء الناس غاية لا تُدرَك

الشيخ المُعمَّم الذي صلَّى بالناس في مساجد عَمَّان وهو ملحد، اعترف في حديث خاص مع رصيف 22، بأن "غلطة العمر ارتكبتها يوم أدرت الأذن لبعض الآخرين ووافقت على وظيفة رسمية في دار الإفتاء، وحين انصعت لرغبات والدتي ووالدي بالزواج مرتين وأنا مدرك مثليتي الجنسية".

عَمَّان، بيروت وكندا. خيط من ثلاث عقد رسم حياة خلف يوسف، العارف بأنَّ "إرضاء الناس غاية لا تُدرَك"، والذي ركَّز على علم الرجال والسير والتاريخ.

أربعة عقود إلَّا سنتين في الأردن، وسط مجتمع العشائرية والتَّدين والهُويَّات الضائعة. سنتان إلَّا شهرين في بيروت بين مجتمع المثليين/ات المُثقلين/ات بمشاكلهم/نّ.

ست سنوات في كندا، حيث يمضي اليوم بقية حياته مستقر البال، متصالحاً مع الذات، المجتمع وهويته الجنسية، وممارساً لقناعاته الفكرية، ففي كانون الثاني/ يناير 2016، لجأ الى المجتمع المُوغل في الفردية والذي لا يميِّز بين البشر حسب ميولهم الجنسية.

حصيلة الأعمار الثلاثة سبعة وأربعون عاماً يوثقها حالياً في كتاب سيُخصص فصلاً "دسماً" منه للحقبة البيروتية.

"في بلد كلبنان يعاني فلتاناً أمنياً، حرصت على إبقاء مكان سكني سرياً، فقد يخطر ببال متعصِّب ديني أو مناهض للمثلية الجنسية أن يهاجمني ويقتلني، خصوصاً أنني مُتَّهم بازدراء الدين الإسلامي وتشويهه بسبب ميولي الجنسية"

ترى هل سيبدأ خلف الفصل اللبناني منذ التبس عليه المشهد وظنّ لبرهة أنه أخطأ الرحلة، واستقلّ طائرة رمته في مطار طهران، نتيجة ما رآه من كثرة صور للقادة الدينيين الإيرانيين على طريق مطار بيروت، أم تراه يبدأ من السهرة الأولى في حياته في نادٍ ليلي يجتمع فيه أفراد مجتمع الميم- عين نهاية رمضان 2014 بصحبة ثلة من المثليين، أم يبدأ من تحضيرات هروبه من الأردن بمساعدة حقوقيين أردنيين والتنسيق مع جمعية "حلم" اللبنانية؟

كل تلك البدايات تصلح ليُبتدأ بها في سرد حقبة يُصنِّفها بأنها الأكثر صخباً ونشاطاً في حياته.

"وحشية" بيروت

لم يستطع خلف يوسف مجاراة بيروت بوحشيتها الاقتصادية، وبوحشتها على غريب ترك بلده للمرة الأولى في حياته (باستثناء أداء مناسك الحج والعمرة): "كان عليَّ تدبّر أمور حياتي وحيداً، الجمعيات المدافعة عن مجتمع الميم -عين وحقوق الإنسان لم تساعدني، كان يمكنها بالحد الأدنى إيجاد مسكن وعمل لي، حتى المؤازرة القانونية لتحضير طلب اللجوء للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين لم أحصل عليها".

ربما كانت الأزمات المالية في ذلك الوقت هي الحائل دون مساعدته، ما جعله يُسقط سريعاً رهانه على تلك الجمعيات.

الشهران الأولان اللذان سكن خلالهما في غرفة في منطقة رأس بيروت، اتسما بالعذاب والقلق والضياع وبعارض "الصدمة الثقافية"، إذ سرعان ما اكتشف أنَّ لبنان الجميل الذي خبأ صوراً جميلة عنه في القبو الخلفي من جمجمته، ليس ورديّاً في الواقع.

في سهرته الأولى مثلاً، سمع الكثير من الكلام المعسول من بعض المثليين/ات، واكتشف لاحقاً بأنَّ كلام الليل الممزوج بالرقص والمزاح وزهوة الكحول لا يمكن التعويل عليه.

بيروت، بحلوها القليل ومرِّها الكثير، لا تغادر ذاكرة خلف يوسف: "كيف أنساها وهي التي رمتني في العراء ثلاث ليال، نهاية تشرين أول /أكتوبر 2014، حين لم يبقَ بحوزتي إلَّا مبلغ قليل من المال؟".

الشيخ المُعمَّم الذي صلَّى بالناس في مساجد عَمَّان وهو ملحد، اعترف في حديث خاص مع رصيف 22، بأن "غلطة العمر ارتكبتها يوم أدرت الأذن لبعض الآخرين ووافقت على وظيفة رسمية في دار الإفتاء، وحين انصعت لرغبات والدتي ووالدي بالزواج مرتين وأنا مدرك مثليتي الجنسية"

بالإضافة إلى أرقام هواتف قيمتها العملية تساوي صفراً، وأشخاص ذابوا كالملح من حوله، أحكم القبضة على المتبقي من الدولارات، لملم أغراضه تاركاً لرجليه حرية اقتياده نحو اللامكان، وبعد برهة قصد مسجداً طالباً مبيت الليل، فصدَّه الشيخ هناك.

في النهار زرع شارع الحمراء ذهاباً وإياباً، وفي الليل عندما حلَّ التعب وغفت المدينة، قصد المنحدر عند دالية صخرة الروشة، واستسلم لنوم يقظ بين صخرتين.

في الليلة الثالثة جرَّب حظه مع كنيسة، قفز فوق سورها، ففاجأته قامة الخوري منتصبة كحرف الألف أمامه: "عاجلت بتهدئة الخوري، أكدت له أنني لست لصاً، أوجزت حيثيات هروبي من الأردن".

لكن خلف قفز فوق مثليته الجنسية، لكونه خاف من أن يطرده الرجل الاكليريكي، وهو العارف بموقف الكنيسة الرافض بحدة لموضوع المثلية الجنسية.

عكس المتوقع، سارت الأمور بسلاسة، تأكَّد الخوري من جواز سفره ثم هبط به الى غرفة في الطابق السفلي: "زوَّدني بفراش وطلب لي طعاماً ساخناً من أحد المطاعم، وأعطاني مئتي دولاراً آذناً لي بالمبيت لحين إيجاد مسكن".

بين فكي المجهول

شكّلت الضاحية الجنوبية لبيروت، وبالتحديد منطقة الليلكي، عنوان سكن خلف يوسف شبه السري طيلة سنة ونصف، فقد عثرت له فتاة لبنانيّة من عشيرة بقاعية على غرفة داخل مبنى مُخصص للسكن الجامعي، ويوم انتقل إليه، شاهد المزيد والمزيد من الصور والأعلام الحزبية لكنه لم يأبه لها.

لاحقاً، قال له صديق إنه بانتقاله إلى الضاحية كان كمنْ يرمي بنفسه بين فكي المجهول، خصوصاً في هذه الزاوية المجهولة حيث ينشط تجار المخدرات.

سأله ماذا لو اكتشفت البيئة المحافظة اجتماعياً ودينياً ميوله الجنسية وإلحاده؟ وماذا لو تنبَّهت أعين الرقيب الأمني للقوى الموجودة على الأرض لوجود أردني يعيش في جلبابها، مع كل ما يعنيه ذلك من شكوك أمنية ستثار حوله؟

أسئلة لم يملك خلف ترف الوقت للبحث عن أجوبتها، همّه كان إيجاد سقف وأربعة جدران، وطراوة وسادة.

شاءت الصدف السيئة أن يتشارك السكن الجامعي في مبني الملاك بحي الليلكي في الضاحية الجنوبية، مع شاب يدعى شادي (اسم وهمي)، هذا الأخير جرّه إلى خلاف بسيط، وبعد أسبوعين عُثر على جثته تحت جسر في منطقة "سن الفيل" في بيروت.

ماذا لو اكتشفت البيئة المحافظة اجتماعياً ودينياً ميوله الجنسية وإلحاده؟

كان خلف من بين من شملهم التحقيق، فتم استجوابه لست ساعات على ثلاث دفعات، رفعت عنده منسوب الأدرنالين، لا سيما وأنه خاف من مسارات التحقيق واحتمال البحث عن هويته أو سؤال السلطات الأردنية عنه.

وبطبيعة الحال، تجنَّب ذكر أي معلومات عن هويته الجنسية خوفاً من فتح متاهات لا يعرف أين تنتهي به، واستناداً لمعرفته بالقانون اللبناني الذي يجرِّم المثلية الجنسية، وبالتجاوزات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية بحق أفراد مجتمع الميم-عين، لا سيما وأنَّ حادثة حمام الآغا الشهيرة كانت حديثة العهد.

من حسن حظ خلف أنَّ التحقيق تمَّ قبل أن يبدأ نشر الفيديوهات التي تتحدث عن إلحاده وميوله الجنسية على صفحاته في وسائل التواصل الاجتماعي، فما قصة الفيديوهات التي كسرت المحظور بدءاً من شهر آذار/ مارس عام 2015؟

حساب فيسبوكي مجهول، فارغ المحتوى وخال من صورة حائط، يديره مواطن قطري مثلي الجنس يُدعى أحمد، دسَّ رسالة ماسنجر يُخبر خلف أنه شاهد فيديو "البط الأسود" وشعر أنَّه يتحدث بلسانه وأنَّ قصتيهما متشابهتان.

لاحقاً تحول القطري المتديّن إلى ملحد "بفضلي"، قالها الشيخ خلف وهو يضحك، وتابع بالقول: "صار أحمد ملحداً، تأثر بأفكاري التي ناقشناها ساعات طويلة عبر سكايب وماسنجر".

بعدها التفت القطري أنَّ يوسف سبق وطلب مساعدة مالية من أصدقائه، تكفَّل بتحويل مبلغٍ شهري يغطي تكاليف السكن والمصاريف اليومية.

الهاتف الخلوي الذي اشتراه من تلك المساعدة السخية أغراه لمتابعة نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي.

ومن غرفته بالطابق التاسع من بناية الملاك، راح يسجّل الفيديوهات التي تتحدث عن المثليَّة الجنسية عموماً، وعن نقد التراث الإسلامي وقضايا الجندر.

زاد متابعوه، لكن لحسن الحظ لم يتعرَّف عليه أحد ممَّن يعيش بينهم ويتنفس هواءهم.

في أحد فيديوهاته ردَّ على تهديد وصله من مواطن سوري من حمص يدير حساباً باسم "الداعي إلى دين الحق". فيديو التهديد انتشر كالنار في الهشيم وعمَّم صور خلف داعياً لقتله. أخافه التهديد، صار يخرج بشكل نادر ومتخف، كما يقول: "في بلد كلبنان يعاني فلتاناً أمنياً، حرصت على إبقاء مكان سكني سرياً، فقد يخطر ببال متعصِّب ديني أو مناهض للمثلية الجنسية أن يهاجمني ويقتلني، خصوصاً أنني مُتَّهم بازدراء الدين الإسلامي وتشويهه بسبب ميولي الجنسية".

التهديد الأكثر مضاضة كان من ذوي القربى، اثنان من أشقائه قصدا بيروت للبحث عنه: "مفوضية اللاجئين اقترحت عليَّ تغيير مسكني والإقلال من نشاطي على وسائل التواصل الاجتماعي، وزوَّدتني برقم هاتف ساخن للتبليغ عن أي تهديد".

سنة وستة أشهر في الضاحية لم تُثر حوله شكوكاً، باستثناء تلميح عابر ممزوج بسخرية وتهكم في مقهى الإنترنت، غير مقرون بأية ردات فعل، عن ازدياد ما أسموه "اللُّوطيين والشاذين" في المنطقة.

مع صرخات اللبنانيين/ات "الشعب يريد إسقاط النظام"، هتف خلف يوسف، حين خرجت التظاهرات ضدَّ فساد النظام وغرق بيروت بالنفايات عام 2015، ثلاث مرات شارك مع أفراد من جمعية حلم، رافعين علم قوس القزح ومطالبين بإلغاء المادة 534 من قانون العقوبات التي تُجرِّم المثلية الجنسية استناداً إلى بدعة "المجامعة خلافاً للطبيعة"، وبسنِّ قوانين عصرية تحمي مجتمع الميم-عين وتلحظ تطوُّر المفاهيم في المجتمعين اللبناني والعالمي.

 بعدما كان خلف يوسف يعتلي منابر المساجد، صار يعتلي منصات لتقديم "ستاند آب كوميدي"، يحكي فيه بلغة شكسبير وبشكل موجز عن حياته المثلية

ضمن محطاته في بيروت أيضاً، محاضرة جريئة وفريدة من نوعها ألقاها عن المثلية الجنسية من منظور الدين الإسلامي: "كان من المتوقع حضور بين 10 و15 شخصاً، لكنها جمعت 150 شخصاً، بينهم رجال دين، ودامت أربع ساعات بعدما كان مقرراً لها أن تدوم نصف ساعة، وأحدثت صدى كبيراً".

أبواب بيروت مفتوحة أمام خلف سائحاً أو مقيماً، لكنه يجزم أنه لن يقدم على هذه الخطوة: "لا أستطيع عيش مثليتي الجنسية، شريحة كبيرة ما زالت تعادي المثليين/ات، والقانون اللبناني يُجرِّم والدين مجحف وغير متسامح"، ونظراً لكون أبواب الأردن موصدة أمامه بسبب اتهامه بازدراء الإسلام، تبقى كندا فاتحة ذراعيها له، فيها يمضي حياته بهدوء مطمئناً على حياته في مقاطعة بريتش كولومبيا.

وهكذا، بعدما كان خلف يوسف يعتلي منابر المساجد، صار يعتلي منصات لتقديم "ستاند آب كوميدي"، يحكي فيه بلغة شكسبير وبشكل موجز عن حياته المثلية.

المصلون بإمامته كان يُبكيهم صوته في دعاء القنوت على أنغام مقام الصبا الحزين، اليوم تُبكي قصته جمهوراً غربياً وهو يستعرض تقلبات حياته التي تُسيل الكثير من الحبر دون أن تنتهي.

هذا المشروع بالتعاون مع المؤسسة العربية للحريات والمساواة AFE وبدعم من سفارة مملكة هولندا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image