في ظل توهج جمال الدين الأفغاني (1838–1897)، أواخر القرن التاسع عشر، وكذلك الشيخ محمد عبده (1848–1905)، قدم شاب في الـ17 من عمره إلى القاهرة، وتأثر بفكرهما، حتى أصبح في ما بعد أحد رواد الإصلاح. إنه الشيخ عبد العزيز جاويش.
تحدث عنه الزركلي، في مؤلفه "الأعلام"، وكتب أنه "من رجال الحركة الوطنية بمصر"، لافتاً إلى أنه ولد في الإسكندرية عام 1876، لكنه تونسي الأصل، وتعلّم في الأزهر وكلية دار العلوم، واختير أستاذاً للأدب العربي في جامعة "كامبردج" البريطانية، ثم عاد إلى مصر، وعمل مدرساً ثم مفتشاً للغة العربية في مدارس الحكومة.
ويروي أنور الجندي، في مؤلفه "عبد العزيز جاويش: من رواد التربية والصحافة والاجتماع"، أنه وصل إلى القاهرة عام 1892، والتحق بالأزهر لكنه لم يستمر فيه، وانتقل إلى مدرسة دار العلوم، وتخرج منها عام 1897، والتقى في هذه الفترة بالشيخ محمد عبده.
إلغاء بعثات تعليمية بسببه
بعد عودته من إنكلترا عام 1906، عمل جاويش مفتشاً في وزارة المعارف لمدة عام أو أكثر، حتى استقال في أواخر نيسان/ أبريل 1908. ويشير "الزركلي" إلى أنه اتصل بمصطفى كامل، وتولى رئاسة تحرير جريدة اللواء التي أسسها الأخير.
تأثر جاويش بالحياة في بريطانيا. يتحدث عن ذلك أنور الجندي، قائلاً: "كان لذلك أثر في حياته وتفكيره وكفاحه وكتاباته".
وبسبب لسانه السليط على الإنكليز، ألغت بريطانيا بعثات وزارة المعارف من مدرّسي اللغة العربية إلى جامعاتها، هو الذي وصفته صحيفة "الإجيبشان غازيت" بأنه أحد "شديدي العداوة والكراهية ومن ألد خصوم الإنكليز".
ويوضح الجندي أنه عندما ترأس تحرير "اللواء"، "بدأ اسمه يتألق في مجال الصحافة السياسية والإصلاح الاجتماعي، وخلال أربع سنوات ملأ الدنيا وشغل الناس بآرائه الجريئة، وأسلوبه العنيف، وحملاته النارية على الاستعمار، حتى أنه قُدّم للمحاكمة ثلاث مرات، وحُقق معه أربع مرات، وسُجن مرتين، ومن أجل حملاته القاسية وقلمه المر أعيد قانون المطبوعات القديم في 25 آذار/ مارس عام 1909".
إثر إعادة العمل بقانون المطبوعات، كتب عبد العزيز جاويش مقالاً بعنوان "أيها القلم"، جاء فيه: "أيها القلم: لو كنت سيفاً لأغمدتك في صدور مَن يحاربونك أو سهماً لأنفذتك إلى أعماق قلوبهم... استلانوا عريكتك واستهانوا بقوتك فمدوا إليك يداً مجرمة ما كان أولاها أن تقطع".
حركة عبد العزيز جاويش الإصلاحية
لم يكن عبد العزيز جاويش مجرد صحافي، لكنه كان مصلحاً اجتماعياً. حاول العمل على معرفة احتياجات المصريين حتى يتمكنوا من مقاومة الاستعمار. يقول الجندي: "لم يقف عند المطالبة بالجلاء والدستور وإطلاق الحريات، لكنه وسّع قاعدة العمل، فكأنما هو خليفة حقيقي لجمال الدين الأفغاني في معالجته لقضايا العالم الإسلامي، ووريث أصيل لمحمد عبده في حلوله لمسائل الإصلاح الاجتماعي والتربية"، ويضيف أن "هدفه الأساسي كان كشف مؤامرات بريطانيا، ورد هجماتها، ودحض أكاذيبها، وإثارة النفوس عليها، والحيلولة دون الثقة بها".
يصف الجندي جاويش بأنه كان "صادق الإيمان بأمرين جرد لهما قلمه: الأول: حق الأمة المصرية والعالم الإسلامي في الحرية والدستور والجلاء، والآخر: وحدة العالم الإسلامي ممثلة في الدولة العثمانية والعمل على بقاء هذه الوحدة ومقاومة تمزقها، إيماناً بأن في تمزقها ضياعاً للوطن كله".
"كأنما هو خليفة حقيقي لجمال الدين الأفغاني في معالجته لقضايا العالم الإسلامي، ووريث أصيل لمحمد عبده في حلوله لمسائل الإصلاح الاجتماعي والتربية"
ويلفت الجندي إلى أن "جاويش أولى الإصلاح الاجتماعي اهتماماً بالغاً، وصرف إليه بالفكر والعمل معاً، وكان إيمانه بأن وسائل الاستقلال هي إصلاح التعليم وإقامة المصارف المالية، وتأسيس الشركات الاقتصادية، وطلب الدستور".
وينوّه إلى أنه "أنشأ جمعية المواساة الإسلامية التي كانت تعول مئتين من الأسر، ووكيل نقابة المستخدمين الخارجين عن هيئة العمال، ووكيل جمعية الشبان المسلمين، وعمل على توسيع مشروعات نقابات العمال والنقابات الزراعية، ووجه الناس إلى الاستقامة في المعاملة ونبذ أسباب الشقاق، ورأى أن العمل في مجال التعليم والإصلاح الاجتماعي أجدى كثيراً، فطاف البلاد يلقي المحاضرات".
كان دائماً ما يقول، بحسب الجندي: "إن غرضنا هو بذل الجهد في تربية جميع الطبقات، ونشر مبادئنا بكافة الطرق المشروعة، حتى نصل إلى تكوين الروح القومية الحقيقة والمناضلة ضد تداخل الإنكليز في أعمال الحكومة"، كما دعا إلى ترابط رؤوس الأموال الصغيرة وإنشاء مصرف وطني، واعتنى بالمسجونين، وطالب بأن يُختار لكل سجن رجل من أهل النظر والورع والعلم فيعيّن فيه ليأخذ بتهذيب وإصلاح المساجين.
وأولى اهتماماً كبيراً بأمر الأسرة والبيت، وكان من دعاة تخفيف القيود المفروضة على المرأة، ونادى في خطبه ومحادثاته بوجوب إنشاء فرق في المعاهد الدينية لتعليمها الدين واللغة العربية، وكانت قناعاته تتمثل في قوله: "المرأة لم تخلق لتكون متاعاً في يد الرجل يتناوله متى شاء وينبذه كيفما شاء، إنما هي سلوان الرجل ومعوانه على الدهر".
من ناحية أخرى، سعى جاويش من خلال مؤلفه "الإسلام دين الفطرة" إلى تأصيل المفاهيم حول الإسلام، وبيان أثر القرآن الكريم في تحرير الجنس البشري.
قلمه الصارم يلقي به في السجن
ظل جاويش على هذا الحال حتى كتب مقالاً في "اللواء" عام 1908، حمل عنوان "دنشواي أخرى في السودان"، على أثر إعدام زعيم يدعى الشيخ عبد القادر في بلدة الكاملين، فقُدّم للمحاكمة، إلا أنها قضت ببراءته، وفقاً لعبد الرحمن الرافعي في كتابه "محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية".
وفي حزيران/ يونيو من العام التالي، حوكم للمرة الثانية، إثر مقالة عن "ذكرى دنشواي"، وسجن ثلاثة أشهر. ويقول أيمن عثمان عن ذلك في مؤلفه "موسوعة تراث مصري"، إنه عندما كتب جاويش هذا المقال، كان "رئيس محكمة دنشواي الهزلية بطرس باشا غالي قد أصبح رئيساً للحكومة، وعضو المحكمة أحمد فتحي زغلول أصبح وكيلاً للحقانية، وجرى استدعاء الشيخ جاويش لمحاكمته بتهمة الإهانة، وحكم عليه بالسجن 3 أشهر".
"أولى الإصلاح الاجتماعي اهتماماً بالغاً، وصرف إليه بالفكر والعمل معاً، وكان إيمانه بأن وسائل الاستقلال هي إصلاح التعليم وإقامة المصارف المالية، وتأسيس الشركات الاقتصادية، وطلب الدستور"
وبحسب عثمان، عندما دخل السجن، دعا عدداً من المواطنين الناس إلى التبرع للاشتراك في إقامة حفل تكريم له بعد خروجه، وصنعوا له وساماً من ثلاثة قطع ذهبية، سُمّي "وسام الشعب".
لكنه لم يلبث طويلاً حراً حتى حوكم للمرة الثالثة في حزيران/ يونيو 1910، بسبب مقدمته لديوان "وطنيتي" لعلي الغاياتي، وسجن ثلاثة أشهر، بتهمة التحريض على العنف وإهانة هيئات الحكومة.
الرحيل بسبب التضييقات
كثرة التضييقات التي تعرض لها الشيخ جاويش جعلته يرحل إلى الآستانة، عام 1912. يقول حسن الشيخة، في كتابه "عبد العزيز جاويش... الأديب والصحفي والمصلح الاجتماعي": "في سنة 1912 أبعد الشيخ جاويش إلى تركيا، حيث أعاد إصدار مجلة الهداية، والهلال العثماني، والحق يعلو، وفي سنة 1913 طلبت الحكومة المصرية تسليمه لمحاكمته عن تهمة إرسال منشورات ضبطت مع أحد الطلبة المصريين القادمين من تركيا، وسلم بالفعل، وأودع السجن، ثم أفرج عنه".
وفي 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1917، بعد أن ثبت أن لا صلة له بالمنشورات، عاد إلى تركيا، وقال إن السر في ذلك هو ما أسره إليه عبد الخالق ثروت، النائب العام حينذاك، بأن الحكومة لا ترضى ببقائه في مصر، حسب ما يروي الجندي.
وعندما هُزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى، انتقل جاويش إلى ألمانيا، عام 1918. ويوضح الشيخة أنه "في عام 1922 عاد إلى تركيا، وعيّنه مصطفى كمال أتاتورك رئيساً للجنة الشؤون التأليفية بأنقرة، وفي عام 1923 اختلف مع الأخير بشأن إلغاء الخلافة، فعاد إلى مصر خفية في 13 كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، وبعد 10 أيام صرحت الحكومة له بالإقامة في مصر".
عُيّن جاويش سنة 1925 مراقباً للتعليم الأولي في وزارة المعارف العمومية وقام بإصلاحاته المعروفة، وفي 25 كانون الثاني/ يناير 1929 توفي وسنه لا يتجاوز الـ53.
انتقادات للشيخ
يأخذ البعض على الشيخ جاويش أنه كان داعماً للخلافة الإسلامية في تركيا، بدليل أنه عندما رأى أن أفكار أتاتورك تحيد عن هذا الأمر، تركه وهرب عائداً إلى مصر.
كما أنه اختلف فكرياً مع الزعيم الوفدي سعد زغلول، الذي كان أحد أسباب ثورة 1919 ضد الاستعمار البريطاني، وبلغ من ذلك أنه عندما تعرض الأخير لمحاولة اغتيال في محطة القطار، أثناء سفره إلى لندن لإجراء مفاوضات، أشارت أصابع الاتهام إلى جاويش، لكن لم يثبت عليه شيء، بحسب محمود شاكر في مؤلفه "التاريخ الإسلامي - ج 17". وهذا يدل على أنهما لم يكونا على وفاق.
وبالرغم من أن جاويش كان صاحب فضل على الأديب طه حسين، واعترف بذلك في كتابه "الأيام"، إلا أن حسين خاض سجالاً فكرياً ضد جاويش لأن الأخير كان ينادي بضرورة الحجاب للمراة، وكتب مقالاً قال فيه: "لا فرق بين الرجل والمرأة في الحرية... لها أن ترفع النقاب وتطرح الحجاب، وتتمتع بملذات الحياة كما يتمتع الرجل"، بحسب الدكتور عبد الرازق عيد، في مؤلفه "طه حسين/ العقل والدين".
ويأخذ عليه البعض أيضا معارضته زواج المصريين من أجنبيات، معللاً ذلك بأنه من العسير أن يكون الأبناء تابعين للأب دينياً، وهو ما خالفه فيه حسين أيضاً بتزوجه من فرنسية.
وتعرض الشيخ جاويش للانتقاد من قبل الأديب عباس العقاد. يتحدث عنه في مؤلفه "رجال عرفتهم"، قائلاً: "أعجب لرجل يفهم الوطنية المصرية في نهضة المطالبة بالاستقلال، حين قدم للمحاكمة، كان دفاعه الأول أنه غير مصري، لأنه ينتمي إلى أسرة تونسية، وتونس خاضعة للحماية الفرنسية".
ويتابع العقاد: "ازداد العجب حين سافر إلى الآستانة وأنشأ فيها صحيفة الهلال العثماني، لينشر بها دعوته السياسية على الوجه الذي كان يفهمه ولم يعدل عنه بقية حياته، وبلغ غايته حين علمنا أنه أنشأ هناك حزب الوطن العثماني، ليعارض به حزب محمد فريد الذي جعل شعاره مصر للمصريين".
ويعتبر العقاد أن جاويش كان "تفكيره وتقديره عن السيادة المصرية أن أنقرة هي المرجع الأخير في الامتيازات الأجنبية، ومعاهدة سنة 1840 هي أساس ما نطالب به من حقوق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...