شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ماذا لو سافرنا حول العالم بسيارة صغيرة بيضاء؟

ماذا لو سافرنا حول العالم بسيارة صغيرة بيضاء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 18 نوفمبر 202104:30 م

تندرج المادة في ملف "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"

في حافلة تسير بطريق ريفي على أطراف مدينة صغيرة جنوب ألمانيا، يدور حديث عابر بين فتاتين".

منذ أيام كنا في قريتي أنا وأصدقائي، ووضعنا، على سبيل المزاح واللعب، رهاناً لمن يمكنه عبور الخط الحدودي الفاصل مع سويسرا ركضاً، فالطريق بين القريتين المتجاورتين في البلدين، ضيق ومنحدر، وليس من السهل تجاوزه بسرعة، ويفضّل أن يتم الأمر سيراً، وفي النهاية لم يتجرأ أحد على الركض، وخسرنا جميعنا الرهان".

تتبع تلك الجملة ضحكة عابرة، كما هو الحديث، وتستمر الحافلة في طريقها. في اليوم ذاته، ينتشر كالنار في الهشيم، مقطع فيديو لمهاجرين عالقين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، وأحدهم يقول: "لا نريد الدخول إلى بولندا، نريد العبور إلى ألمانيا، ألمانيا هي الحياة".

مفارقة؟ ربما. مفارقة اعتيادية، في عالم بات انقسامه بين "شمال" و"جنوب" واضحاً للغاية لليوم، ربما.

لكنها مفارقة لم تمنعني من أن أطرح أسئلة ساذجة تبدأ بـ "ماذا لو؟".

أتمنى لو كان والدي الآن على قيد الحياة، لأرى ردّات فعله على كثير من الأمور التي نعيشها اليوم، ولأعرف منه أكثر عن تلك الحياة التي لا يمكن أن نجرؤ حتى على أن نحلم بمثلها. قبل حوالي مئتي عام، أو أقل قليلاً، عندما لم تكن فكرة "حرية السفر والحركة" مطروحة كنقاش عام... "كان صرحًا من خيال" ملف التاريخ البديل في ر22

واحدة من الروايات العالقة بذهني عن والدي، وهو وُلد عام 1930، هي أنه سافر العالم بسيارته الصغيرة البيضاء من طراز "فولكس فاغن، وواحدة من رحلاته فيها كانت إلى أوروبا. هذه الرواية، وغيرها الكثير، عن حياة قد تبدو أقرب للخيال اليوم، كانت تمر مرور الكرام عندما كان أهلنا يحكونها بكل خفة واعتيادية في أي من سهرات العائلة والأصدقاء، لكنها تثير لديّ عشرات الأسئلة، والانطباعات الحزينة أيضاً.

أتمنى لو كان والدي الآن على قيد الحياة، لأرى ردّات فعله على كثير من الأمور التي نعيشها اليوم، ولأعرف منه أكثر عن تلك الحياة التي لا يمكن أن نجرؤ حتى على أن نحلم بمثلها. قبل حوالي مئتي عام، أو أقل قليلاً، عندما لم تكن فكرة "حرية السفر والحركة" مطروحة كنقاش عام،

ومع اندلاع حروب متتالية، على رأسها الحرب الأهلية الأمريكية، والحربان العالميتان الأولى والثانية، ما عاد السفر سهلاً بين كثير من البلدان، ومع كل حرب جديدة، تتعقد تلك الإجراءات، وصولاً لطلبات معقدة جداً للحصول على تأشيرات دخول يحتاجها ملايين الناس، على الأخص من بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ليهربوا من جحيم يعيشون فيه، أو بكل بساطة ليبدؤوا حياة جديدة، أو ليعملوا، أو حتى ليزوروا أماكن جديدة على سبيل السياحة، والتسلية، والترفيه.

هذه الإجراءات التي منعت أحد أصدقائي المصوّرين من حضور معرضه في باريس، وإحدى صديقاتي الفنانات من الالتحاق بإقامة فنية في إسبانيا، فقط لأنهم لم يقدموا إثباتات تؤكد لتلك البلدان بأنهم سيعودون إلى جحيمهم، سعيدين راضين.

ماذا لو كان السفر ببساطة أن نشتري حقيبة صغيرة، ونوضب فيها بضع قطع من الملابس، مع زجاجة عطر وكتاب، دون أن نخاف من موظفي الحدود ببزاتهم الرسمية غامقة اللون؟ ماذا لو أعاد البحر الحياة لكل أولئك الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة فيه اختناقاً، وهم يحاولون العبور نحو الحياة؟... "كان صرحًا من خيال" ملف التاريخ البديل في ر22

كانت بمثابة "مفاجأة" لزميل ألماني، علت وجهه ملامح الاستغراب الشديد، وأنا أخبره بأننا نحتاج تأشيرة دخول لمعظم بلدان العالم، وبأن حيازة هذه التأشيرة هو عبارة عن إجراء معقد، يتطلب الكثير من الوقت والأوراق الرسمية والإثباتات، وفي نهاية المطاف، يبقى الحصول عليها غير مضمون على الإطلاق، فطلب تأشيرة الدخول قد يقابل بالرفض، وأيضاً حتى إصدارها قد لا يضمن لحاملها الدخول للبلد المتوجه إليه، وهو ما يبدو واضحاً ضمن ورقة صغيرة توضع أحياناً إلى جانب تأشيرات من بلدان معينة، وتؤكد على أنه يحق لموظفي الحدود في المطار ذي الصلة رفض دخول أي شخص لأسباب معينة يعود تقديرها لهم.

بعد كل هذا السرد أخبرني ذلك الشاب بأن فكرة "طلب تقدم للحصول على تأشيرة دخول" قد "يقابل بالرفض"، غير موجودة في حياته، ولم يختبرها أو يألفها من قبل، فالفيزا بالنسبة له، إن احتاجها، هي مجرد طلب عليه ملؤه عبر الإنترنت، وليس عليه القلق بشأن نتيجته.

شعر بالأسف عليّ، وعلى حال المهاجرين "المساكين" العالقين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، باعتبارهم "حديث الساعة"، وأكمل قهوته وأنهى النقاش. ماذا لو مزق هؤلاء الرجال والنساء والأطفال تلك الأسلاك الشائكة بين البلدين، وعبروا الحدود دون أن يوقفهم أحد؟ ماذا لو التغت فكرة جوازات السفر، وتأشيرات الدخول، والأختام؟

ماذا لو كان السفر ببساطة أن نشتري حقيبة صغيرة، ونوضب فيها بضع قطع من الملابس، مع زجاجة عطر وكتاب، دون أن نخاف من موظفي الحدود ببزاتهم الرسمية غامقة اللون؟ ماذا لو أعاد البحر الحياة لكل أولئك الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة فيه اختناقاً، وهم يحاولون العبور نحو الحياة؟ ماذا لو امتلكنا جميعنا اليوم سيارة فولكس فاكن بيضاء صغيرة، يمكننا السفر فيها حول العالم؟

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image