تندرج المادة في ملف "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"
لم يتجاوز هاشم بن حكيم الـ12 عاماً حين أرسله والده إلى محل دباغة في مدينة (مرو) في خراسان بدايات القرن الثامن الميلادي. السبب أن المراهق بُلي فجأة بالصلع، وفقد عينه حين كان أصغر، ما جعل والده يشك في "عقل" ابنه. إذ حاول ابن حكيم أن يكتشف المرآة الخفية وراء حدقيته، تلك التي لمح فيها وجهه حين حدّق بكأس ذهبي. ففقأ عينه محاولاً أن يُدخلَ خشبةً دقيقةً وراءها.
هددت هذه السلوكيات تعليم ابن حكيم، وتركته ألكناً لا يجيد لغته ومحط انتقاد رفاقه، والأهم، لم يرتق إلى طموح والده القائد في جيش خراسان أيام الخليفة المنصور.
اكتشف ابن حكيم في المصبغة متعة مزج الألوان، وأسرت كيمياء السوائل وتحولاتها مُخيّلته. وتراءى له مرّةً حين حدّق عميقاً في حفرة الصباغ الأسود، قرصاً أبيض وكأنه قمر في بئر. عرف ابن حكيم في تأمّلاته وتجاربه خواص الموجودات، واكتسب قدرة كيميائيّة مكنته من التلاعب بخواص العناصر، وآمن نهايةً أن في البياض سحراً، فجد وثابر واكتسب أسرار خيمياء الألوان كلّها، خصوصاً القصارة، تلك المادة التي تحيل كل ما يمسها أبيض، حتى أن أصحابه لقبوه بـ" المسيح المُعدي"، إذ كان يدهن رفاقه بالقصارة غفلةً كي تبيض أجزاء منهم وكأنهم بُرص.
رافقت غواية اللعب والرغبة بامتلاك جمهور ابن حكيم طوال عمره، واكتشف خصوصية ما يعرفه بالمقارنة مع بعض المنتحلين، إذ شاهد في السوق مرةً، بين باعة السجاد وصناديق الشحن، لاعب خفّة التفّ حوله الناس وهو ينادي: "إليكم يد موسى، خذوها تدلكم الخير". شق بن حكيم طريقه بين الجمع وشاهد رجلاً، غمس يده المتسخة في إناء وأخرجها منه بيضاء تلمع، فدهش الناس واقتربوا أرادوا التسليم عليه.
قهقه ابن حكيم حين شاهد لاعب الخفة ذاك، إذ كان يعلم أسرار الألوان والقصارة، وساوره شكّ حتى بحقيقة الخدعة نفسها، إذ اتضح له أن لاعب الخفة كان أمهقاً، يتلاعب بأبصار الناس بكيمياء لونه الجسدي. اشتعلت الرغبة داخل المراهق ابن حكيم الذي أراد أن يبهر الجميع، لا فقط حشد الفضوليين في السوق، فسارع إلى المصبغة في ذات الليلة، وملأ بئر الصباغ بالقصارة، وضبط كيمياءها حتى أضحت سائلاً لماعاً شديد البياض وكأنه يشعّ.
فكر ابن حكيم وهو يتأمل السائل أن يد موسى لا تكفي الآن، خصوصاً في ظل صعود نفوذ أبو مسلم الخراساني والصراع مع الدولة العباسية الناشئة، ولابد من نبوءة ما تغير الأحوال والنفوس، فحدق طويلاً في السائل الأبيض، الذي أسر عين ابن حكيم المتبقية، وتطابق بياضها مع بياض السائل. لم ير ابن حكم وجهه، لا انعكاس ولا صورة مقابلة، مجرد بياض يُعمي كالضوء الذي اشتد حتى ابتلع بصر ابن حكيم، فسقط وجهه في السائل.
لاحقاً، سأل الناس والمريدون ابن حكيم عن هذه الحادثة، فقال أن ملامحه وقعت في بياض السائل بينما يحدق فيه، فخاف وراح روعه، وأراد أن يعيد وجهه إلى نفسه، فأغرق رأسه في السائل إلى حد آخر نفس في رئتيه، حينها أخرج رأسه، فأشعّ، وأنار المصبغة، بل أن بعض من كانوا نيام تناقلوا لاحقاً، حكاية مفادها أنهم سمعوا أزيز النور يخرج من المصبغة، وحين أرادوا استكشاف الأمر، لاحظوا نوراً شديداً سحب الضوء من السماء وحصره في وجه ابن حكيم.
اكتسب ابن حكيم لقب المُقنّع، فنور وجهه كان يعمي من كان ينظر إليه، فأخفاه عن العامة بقناع، لكنه أباحه لمن آمنوا بكيميائه وألعابه... "كان صرحًا من خيال" ملف التاريخ البديل في ر22
اكتسب ابن حكيم بعد مقتل أبو مسلم الخراساني عام 754م، لقب المُقنّع، فنور وجهه كان يعمي من كان ينظر إليه، فأخفاه عن العامة بقناع، لكنه أباحه لمن آمنوا بكيميائه وألعابه، بل إن بعض المدهوشين برسالته سموه نبياً وأحياناً إلهاً، وحين تعسكر المقنّع وأصبح قائداً واشتد عوده وكثر أتباعه، اشتهرت شعبذته واختلف حوله أصحاب الأمر والقول، إذ يقال إنه شق لمريديه القمر كما شقه محمد مرةً، وكما أنه بعث الأفاعي من موتها دون استخدام الزئبق، بعكس موسى من قبله، والمفارقة أنه شفى أبرصاً، بصورة أدق، جعله أشدّ بياضاً مما هو عليه وكأنه ملاك، كل هذا أثار غضب فقهاء العباسيين الذين استشعروا خطر المقنع، وأوصلوا أمره إلى الخليفة المهدي الذي أرسل جيشاً إلى قلعة المقنّع ليفنيه وأتباعه.
سُمع عن المقنع أنه قال: "أنا أدعوا بأي اسم أريد"، وكأنه حشد اجتمع في شخص، ثم تفرق، فحين علم المقنع أن نهايته قاربت، وأن جيش المهدي على الأبواب لقتله، غلى طناً من الزئبق، ورمى فيه نسائه وغلمانه، ثم رمى نفسه، وبقي قناعه على وجه الزئبق طافياً، ويقال إنه ردد قبل أن يبتلعه المعدن المغليّ: "لي في كل نور حصة، من قبسها تجليت له".
اقتنع أتباع المقنع بامتداده في الزمن، فخبرته في الكيمياء والشعبذة جعلت روحه تمتد عبر الوقت وتتغير حسب العصر والشخص، فما كان منهم إلا أن كتموا سره ونشروا "علمه".
كل من آمن بالمقنّع أخفى ذلك، خصوصاً أن أتباعه تحولوا إلى أعداء الأمة، كونهم على تماس مع خواص الموجودات ويتلاعبون بمظاهرها، إذ ظهر بعضهم بين الفقهاء يدافع عن تناسخ النور بين الأبدان، والبعض الآخر قرر التجوال لإبهار الناس بقدرتهم على التحكم بالنور ونقله من اليد اليمنى إلى اليسرى، لكن ما اكتشفوه لاحقاً هو الأهم، إذ تبين لهم أن نور المقنع قديم قدم الكلمة الأولى، نور ينهل منه من يُصدق ويتلاعب به.
يستثنى من أصحاب النور محمد بن عبد الله، إذ ظهرت ضمن بعض التفسيرات القرآنية حكاية مفادها أن ملاكاً هبط على محمد بن عبد الله حين كان صغيراً، وشق صدره (شرّحه) وأخرجه منه سواداً، يُقال إنه ماءُ الشيطانِ ونَفُسه، لكن الملاك ذاته، أخذ بعض من النور الذي كان داخل صدر محمد بن عبد الله، وهذا ما سبب لاحقاً الحيرة للأخير حين مواجهة بعض الأسئلة، كشأن الروح ومصيرها التي حاججه بها النضر بن الحارث، فنتيجة هذا التدخل الملائكي دفعت تهمة السحر عن محمد، لكن حجبت عنه الروح وتحولاتها وانتقالاتها ولم تصله خصائص النور وانقلاباته.
مخطوط ابن شهيد الضائع
تمكن المستشرق الفرنسي إيف كلود دوميسيل عام 1716 من دخول الأراضي الفارسية ظاناً أنه سينقذ حياته الأكاديميّة، لكنه فوجئ بأن ما يبحث عنه كان مجرد كتيب تعليمي أنجزه طالب علم مغمور.
قبل الخوض في ذلك، لا بد أن نشير أن دوميسيل كان مهووساً بعلم السحر، وكتب عدة مؤلفات يدافع فيها عن لفظة (علم)، فبرأيه، قوانين العالم لا توجد إلا في عقول البشر، كحالة الألوان نفسها، أما العالم فليس إلا تهيؤاً في وعينا، وخارج ذلك، أي خارج إدراكنا، فلا شيء سوى بياض لا متناه.
برأيه أيضاً أن المؤسسة العلمية بمساعيها وممارساتها، أهملت أعمال السحرة ونفتهم، بسبب أسرهم لعقول الناس وتبنيهم لما هو غامض ومدهش ويستحيلُ تعلمه، بعكس ممارسات العلماء الذين تقوم حجتهم على الوضوح والإفهام ونقل المعرفة للجميع.
فقد دوميسيل شهرته العالميّة بعد تحقيقه لمخطوط نادر لابن شهيد (992-1034م) وجده متسول في جرة مدفونة مع مخطوط آخر لشخص اسمه سيدي بن حامد الجيلي، فأحرق المتسول مخطوط الجيلي ليتدفأ، وحافظ على مخطوط ابن شهيد، فالأخير كان وزيراً، ولا يمكن حرق مخطوط كتبه وزير، ووجهه لخواص الخواص بعنوان "مسالك ترويض النور".
يتحدث ابن شهيد في المخطوط عن جماعة جاؤوا من الشرق نحو قرطبة، ظنهم بداية سحرة ومشعبذين، فكشف أعمالهم في كتابه الأشهر " كتاب النارنجيات: الباهر في عجائب الحيل". لكن بعضهم أثار ريبته، فكل حنكته وقدرته لم تقدر أن تكشف سر "سحرهم"، فأحدهم كان يقسم رجلاً إلى اثنين ثم يعيده واحداً، كما سبق أن حصل مع أحد حراس صلاح الدين الأيوبي تحت ناظري الأخير، بعضهم أيضاً كان يجعل الحيوانات تسجد له، أو تخر أمامه ميتة، كحالة نمر كان في السوق، هرب من قفصه وركض ليتلهم طفلاً ضاع من أمه، فظهر بين الجماعة شخص اسمه "الأعمى المبصر في المرايا"، وقام بالتحديق في النمر الذي خرّ ميتاً ما إن لمح بياض عيني الأعمى.
ما أثار اهتمام ابن شهيد حينها، ودوميسيل من بعده، هو أن كل هذه الحيل كان تبدأ بتعويذة واحدة "ادعوا بأي اسم أريد" بعدها، يضع من يردد العبارة يديه على وجهه، تاركاً مساحةً تكفي ليرى منها الخارج بعين واحدة، وفجأة، يحصل ما يحصل.
هذه المشاهدات والعجز عن تأويلها دفعت ابن شهيد لتأليف مخطوط "ترويض النور"، وبعكس العرف القائل إن لكل كتاب غاية وهدف لنفع الناس، كان سبب تأليف هذا المخطوط حسب ابن شهيد هو الفضول الشخصي، لذلك أعطاه لورّاق، قام بدفنه، ووعد ابن شهيد أنه لن يخرجه من أديم الأرض إلا بعد مئة عام.
حين علم المقنع أن نهايته قاربت، وأن جيش المهدي على الأبواب لقتله، غلى طناً من الزئبق، ورمى فيه نساءه وغلمانه، ثم رمى نفسه، وبقي قناعه على وجه الزئبق طافياً، ويقال إنه ردّد قبل أن يبتلعه المعدن المغليّ: "لي في كل نور حصة، من قبسها تجليت له"... "كان صرحًا من خيال" ملف التاريخ البديل في ر22
حصل دوميسيل على النسخة الوحيدة من المخطوط، وحققها، وجهزها للنشر، وحافظ على افتتاحية ابن شهيد التي كانت بيت شعر لأبي العلاء المعري مفاده: "أفق إنما البدر المقنع رأسـه/ ضلالٌ وغيٌ مثل البدر المقنع". لم يفهم دوميسيل معنى بيت الشعر حينها، وشكّ في نسبته للمعري، لكنه أبقاه، لأن مقدمة الكتاب حوت تخطيطاً بيد ابن شهيد لما يبدو أنه قناع محاط بدائرة بيضاء، فظنه دوميسيل محاولةً من ابن شهيد لتزيين عمله، وإضفاء صيغة الهزل عليه خوفاً من القتل أو التهديد، فهكذا كتب إن لم تكن في خدمة الدين والعامة قد تودي بصاحبها.
حلت المصيبة حين كان دوميسيل يجلس في شرفة منزله الضخم في حي "المارية" في باريس في الليلة التي أنهى فيه تحقيق المخطوط. ذاك الحي القوطي كان حينها مرتعاً للمهرجين والمسرحيين المبتذلين ولاعبي الخفة، وبينما كان دوميسيل يتأمل كأس "الأبسينت" ليترعه قبل النوم، لاح له من تحت الشرفة رجلاً يلوح له، فلوح له دوميسيل، فما كان من هذا الرجل إلا أن وضع يديه على وجهه ثم أنزلهما، فأضاء الحي بأكمله حتى غشي على دوميسيل نفسه، وحين استفاق وكأس الأبسينت فارغ، ركض إلى مكتبه، وطبعاً، لم يجد المخطوط.
لم ينم دوميسيل أسبوعاً بعد ذلك، وبقي أسير المخطوط الضائع وحاول لأيام أن يبحث عن ذاك الرجل ذي الوجه المضيء، لكن لم يصدق حكايته أحد، سواء كنا نتحدث عن زملائه الأكاديميين في جامعة السوربون المحافظة الذين نعتوه بـ"المهلوس" و"المُلفق" أو العامة الذي سمعوا القصة و اتهموه بالخرف.
بقي دوميسيل يردد بيت المعريّ في خضم محنته، إلى أن سمع عن طبعة جديدة منقحة لكتاب يحوي كل ما كتبه المعري، هذه الطبعة موجودة في بخارى في بلاد فارس التي كانت خاضعة للشاهنشاهية الصفويّة حينها، فركب البحر، واتجه إلى هناك ليقرأ .
حين وصل دوميسيل إلى بخارى اكتشف أن الأمر محض إشاعة، إذ لم يكن هناك من جديد حول المعري سوى كتيب أنجزه طالب اسمه أمير رزا، عنوانه "المعري كاشف النور من سواد عينيه".
فارسية دوميسل المتواضعة ساعدته على قراءة الكتيب، ووجد فيه مبالغات ودوافع أيدلوجية لم تجب عن أسئلته، لكن، في هامش الفصل المعنون "المعريّ وفلسفة العلم "، قرأ بيت الشعر السابق، وفهم أنه تقريظ لرجل اسمه المقنع الخراساني، الذي اتهم بانتحال النبوّة، اكتشف لاحقاً تضاربت الأخبار حول هذا المقنع، والشك القائم حول تاريخ موته، خصوصاً أن أصحابه يؤمنون بأنه أضحى نوراً لا يشع إلى لمن استحق، كالقمر ذاته، ذاك الذي نسيه المعريّ، أو ربما لم يعرف شكله في السماء ليعرفه في الماء.
حريق أشعل سماء دمشق
وصل مالديس إلى دمشق العثمانيّة عام 1870، وعمل حينها في ورشة مسؤولة عن بناء حديقة البلديّة قرب "ساحة المرجة"، التي أراد صبحي باشا أن تكون مكاناً يصلح للحفلات والاستعراضات العلنيّة. كان مالديس قبلها عبداً لدى إقطاعي من أواسط آسيا، وهناك تعلم صنعة الألعاب الناريّة، وكيف يبث النار من فمه، وكيف تعضه الأفعى دون أن يصاب بأذى، وبعد وفاة صاحبه، هرب إلى حين وصل إلى دمشق.
مرةً لمحه صبحي باشا أثناء إحدى جولاته التفقديّة وهو يراقص ثلاث أفاع ثم يحولها إلى نار أمام أعين رفاقه المدهوشين، فما كان منه إلى أن وظفه في فرقة الترفيه ليعمل كـ"مزعبراتي"، المهنة التي أشار لها لاحقاً الشيخ القاسمي في (قاموس الصناعات الشامية).
عمل مالديس مزعبراتياً قرابة السنتين، وأذهل الحضور بقدرته الغريبة على تحويل لونه من أسود إلى أبيض، وهو يتمتم "أنا أدعوا بأي اسم أريد"، بل إنه مرة، جمع الناس في ساحة المرجة، وجعل لهم القمر في بحيرتها، إذ وضع يده على عينه، وحدق بالأخرى في البحيرة حتى ظهر القمر فيها، فلوح مالديس للضوء في الماء، وحين سأله طفل كان يشاهد: "لمن تلوح يا مالديس؟"، ارتجل شعراً أضحك الجميع لرطانته: "أرى وجهاً من حديد يطفو... كلما نظرت دعاني لأنجو".
لم تستمر بحبوحة مالديس طويلاً بالرغم من شهرته واستعراضه لمهاراته في الحفلات الخاصة وفي المقاهي، أمام الباشوات والأغوات والسياح في دمشق. إذ ظهر فجأة رجل اسمه أبو خليل القباني الذي نال حظوة لدى وجهاء دمشق، وأقنعهم بأن نفث النار وتحريك الأفاعي وشق القمر ليس إلا تفاهةً وممارسات لا تفيد الأمة ودينها، وقال إنه سيقدم عوضاً عن ذلك ما يسمى بـ"الكوميضيا"، حكايات تمثيلية تربوية وتعليميّة تراهن على أخلاق الأمة ودينها مع القليل من الدعابة.
نالت عروض القباني إعجاب سكان المدينة، فُنسي مالديس سريعاً، وأصبح مجرد عامل بسيط مسؤول عن ترتيب الألعاب النارية، وحين زارت اللايدي لايارد دمشق علم 1897، كان هو مسؤولاً عن إنارة السماء حين تدخل اللايدي مقهى "الزهور" على نهر بردى بضيافة مدحت باشا. يومها عرض القباني مسرحيّة "الرقيبان" التي لم تنل إعجاب الضيوف كثيراً، حتى مالديس الذي كان يجلس في الصف الأخير ومن معه من مزعبراتية لم يعجبوا بالمسرحيّة، واكتفوا بأن رمقوا باحتقار الرجل ذا الجلباب والطربوش المضحك الذي يسرق عملهم، ثم ألفوا أغنية للسخرية منه نجا منه مقطع واحد هو التالي :
(قباني يا قباني/ وشك ع الحيط وطيزك قدامي/ انضب الليلة بيبتك/ لأن بوكرا يوم الأماني)
غضب مالديس أشد الغضب مع ازدياد شهرة القباني، فبعد أن كان يأسر الناس بخدعه، فقد مهنته وتسليته وجدوى حياته أمام شيخ محافظ همه الوحيد هو استعراض الرقصات التقليديّة، فما كان من مالديس، إلا أن جهز كل ما يمتلك من ألعاب ناريّة، وجمعها في المقهى المخصص لفرقة القباني، ثم أشعل فيها النار، فاحترق المقهى وبعض البيوت من حوله، وأنيرت سماء دمشق حتى غشي على كُلّ من في دمشق من شدة بياضها، لكن مالديس وحده، أخفى واحدة من عينيه وحدق في السماء، فشاهد وجهاً حديدياً يطفو، همس لمالديس قبل أن يغمى عليه: "ادعوني باي اسم تريد".
أيمكن أن يُؤكَلَ لحمُ فيلٍ ميتاً؟
انتشرت في العاصمة دمشق عام 2010 فضيحة شغلت الصحف والرأي العام، مفادها أن شخصاً قام بتقطيع لحم فيل يبلغ وزنه عدة أطنان، ثم باعه في السوق على أنه لحم خروف. ألقي القبض على الرجل لاحقاً، وتتبع الناس حكاية الفيل، الذي تبين أنه يعود للسيرك الإيطالي الذي زار المدينة، أما سبب موت الفيل، فكان نتيجةً لانخفاض درجات الحرارة، وبقي الناس حوالي سنة يحاولون اكتشاف أصل اللحم الذي أكلوه، هل هو لحم فيل أم خروف؟
في زمن بعيد، ذاب القمر في حفرة، وأصبح سائلاً أبيض... تاريخ مرتجل للمقنّع الخراساني في "كان صرحًا من خيال" ملف التاريخ البديل في ر22
الفضيحة الأكبر هي رداءة السيرك الذي نصب خيمته مقابل "نادي الجيش" الرياضي في حقل شبه مهجول في مدينة دمشق، إذ قال واحد من الحضور كما هو موثق في المقالات، إن السيرك "لم يكن على المستوى العالمي، فهو كعرض فقير وحتى الإعلانات كان خادعة، إذ تحدثت عن سيرك إيطالي، وما شاهدناه مجرد عارضين من شرق آسيا"، وأشار البعض "إلى أن القفص الحديدي الذي يحوي الحيوانات لم يكن مرتفعاً بشكل جيد، خصوصاً أن وقوف الحيوانات ضمنه كان على حواجز عالية نسبياً ، ولم يأخذ بالحسبان أنه في حال أصابها الذعر ستقفز ببساطة بين الجمهور".
أبرز ما جذب الجمهور في السيرك هو مروض الحيوانات "علي السفرنجاني – نه"، الذي كان في مقدمة كل عرض يُخبر الجمهور عن سلالته التي توارثت علم الاقتران بالحيوانات، ثم يضع رأسه بين فكي أسد دون أن يلتهمه الأخير، ثم يأمر الفيل أن يجلس عليه دون يدهسه، لكن، وبسبب سوء التنظيم في إحدى الليالي، ارتعد الفيل، وركض، وكاد أن يقتل العشرات من الجمهور دهساً، فما كان من السفرنجاني إلا أن صرخ به، فجفل الفيل وتيبس، والتفت إلى مدربه، الذي كان حينها، وكجزء من زيه التنكري، يرتدي قناعاً بعين واحدة، فنزعه بسرعة، وأخفى عيناً بيده فابيض وجهه نوراً حد أن خرّ الفيل ميتاً بين الجمهور.
لن ندخل في تفاصيل التخلص من جثة الفيل وكيفية تقطيع لحمه كونها لا تهمنا، لكن تناقل لاحقاً أهل العاصمة السورية حكاية السفرنجاني، الذي أضاء وجهه الخيمة فمات الفيل. المدهش في الحكاية أن السفرنجاني، وفي العرض الأخير للسيرك قبل مغادرة سوريا، وقف في منتصف حلبة السيرك، وحوله من الحيوانات المتوحشة ما يثير الرعب، نمرين، أسد، ثلاثة ضباع، دب بنيّ، ذئب اصطيد في غوطة دمشق وبيع للسيرك.
فك السفرنجاني كل قيود الحيوانات أمام أعين الجميع المتفاجئة، وفتح أقفاصها والناس بين مرتعد خائف، ومدهوش ساخر ينتظر أن تنكشف الحيلة. لكن لا حيلة في الأمر، وقف السفرنجاني بكامل زيه وقناعه وسوطه، وتأمل في الحضور، ثم تأمل في الحيوانات، وأخرج من جيبه قمراً، أدهش نوره الجميع، ثم ارتداه على وجهه فشع البياض، وعُمهت أبصار الجمهور لثوان، وحين عاد لهم بصرهم، لم يجدوا أي حيوان، أما السفرنجاني فاختفى وقمره.
اقترب بعض الفضوليين من وسط حلبة السرك، ووجدوا حفرة مكان وقوف السفرنجاني، حفرة مليئة بسائل أبيض مشع، فيها قناع حديدي يغرق، حاول أحدهم التقاطه، فابيضت يداه احتراقاً.
تجاهلت الصحف حينها ما حدث فقصة لحم الفيل كان أشد إثارة، لكن تردد في حيّ ركن الدين المجاور لمكان خيمة السيرك حكاية "موسى الأخرق"، الشاب الذي أحرق يديه بحثاً عن القمر في حفرة في الأرض.
حاشية
صدر عام 2007 عن معهد العالم العربي في باريس العدد 331 من مجلة "معرفة الفنون"، وكان يحمل عنوان "فروسيّة"، ويحوي مجموعة من الأغراض (سيوف، خوذ، سكاكين) التي تعود للتراث الحربي الإسلامي، من بينها قناع من ذهب والنحاس، بعين واحدة، وجد في إيران مطلع القرن العشرين، وحالياً هو ضمن مجموعة خاصة لا يخرج للمتاحف.
يقال إن القناع يحوي قوة سحريّة، وإن صاحبه همس فيه تعويذة جعلته خالداً، يلتبسُ مريدوه من أصحاب الحيل، إذ عُرف عن صاحبه أنه مشعوذ وعارف في مسالك النور والظلام وتقلبات الروح بينهما. ما يميز هذا القناع قدرته على التجلي لفئة من الناس، أولئك الذين يأسرون الأبصار ويغيرون الأحوال.
تاريخ القناع مجهول نوعاً ما، إذ رفض مقتنيه الإفصاح عن هويته، وسمح لمحرري المجلة بالتقاط صورة واحدة فقط يظهر فيها القناع بعين واحدة، وحين سُئلَ صاحب القناع الذي يرتدي كفين يغطيان يديه عن المكان الذي وجد في القناع أجاب: "في زمن بعيد، ذاب القمر في حفرة، وأصبح سائلاً أبيض، فوقه سائل من زئبق، وبينما كان لاعب خفّة يبحث عن معدن سائل، وجد الحفرة، وحدق بها إلى أن طفا القناع وهمس: (ادعوني بأي اسم تريد)".
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون