يسيرون حفاة بين السيارات، حاملين دلاء عسل أو زبدة فارغة مصنوعة من مادة البلاستيك لجمع النقود فيها أو يجلسون على حواف الطرق، نساء وأطفال وشيوخ، بعضهم يتمسكون بنوافذ السيارات أو بملابس المارة، ويرددون عبارات دون انقطاع "صدقة، صدقة".
"صدقة، صدقة، الله يخليك أعطني صدقة"، تتناهى إلى سمعك هاتان الكلمتان، وأنت تسير في شوارع متفرقة من العاصمة الجزائرية، مثل الطريق الرابط بين "قهوة شرقي"، وبلدة "الكاب" ببرج البحري، وحتى داخل القطارات وعربات التروماي والمترو والحافلات والمراكز التجارية الكبرى.
اللافت أنهم يتسولون ضمن جماعات يتجاوز عدد أفرادها العشرة، بينهم أطفال وشيوخ ونساء يحملن على ظهورهن رضّعاً مربوطين بقطع من القماش، ويضعن فوق رؤوسهن قفافاً مملوءة بالمؤونة.
إذا تجاوزت المتسول الأول، فكن متأكداً أنك لن تتجاوز الثاني والثالث والرابع، فالمعروف أنهم شديدو الإلحاح والالتصاق، فلا يرحلون في حال سبيلهم إلا بعد حصولهم على بضعة دنانير.
"كانت حياتي مريحة"
بملامح إفريقية وندبات تغطي وجهه، وثياب بالية، يقضي "السنوسي"، شاب نيجيري في العقد الرابع من عمره من منطقة كانو (أكبر منطقة بشمال نيجيريا تسكنها الأغلبية المسلمة)، يومه في الطواف حول السيارات لعله يظفر ببضعة دنانير.
"كنت أشتغل مزارع، أعيش حياة بسيطة ومريحة، رفقة زوجتي وأطفالي الصغار في منطقة كانو قبل أن تنقلب حياتي رأساً على عقب بعدما سيطرت جماعة إرهابية على قريتنا لنجد أنفسنا مخيرين بين النزوح والتشرد والبقاء تحت سلطة هذه المنظمة".
"التسول في الشوارع ليس بالأمر الهين، بسبب الحرب اليومية التي تنشب بيننا وبين المتسولين المحليين، حول الأماكن التي نختارها من أجل الحصول على تبرعات المحسنين"
ويتابع السنوسي وعيناه لا تفارقان الشارع والسيارات لعلعه يصطاد بعض المتصدقين: "لم آت إلى الجزائر من أجل الهجرة إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط، مثلما يفكر فيه الكثيرون، أنا جئت من أجل جني بعض المال، وممارسة تجارة بسيطة يكفيني دخلها لسد حاجاتي، وحاجات أطفالي".
ويضيف: "التسول في الشوارع ليس بالأمر الهين، بسبب الحرب اليومية التي تنشب بيننا وبين المتسولين المحليين، حول الأماكن التي نختارها من أجل الحصول على تبرعات المحسنين كبيوت الله والمخابز والمطاعم الراقية والأحياء التي تعرف بكثافة سكانية عالية. لذلك نقضي اليوم بأكمله في التجوال بالشوارع ووسائل النقل".
تسول اللاجئين الأفارقة القادمين من دول الجوار الإفريقي، يصنف في خانة الظواهر التي تشكل مصدر قلق كبير للحكومة الجزائرية، إذ حذر وزير الداخلية كمال بلجود، خلال جلسة استجواب بمجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان)، من اتساع رقعة هذه الظاهرة، قال: "بلغت مستويات خطيرة بسبب وجود شبكات إجرامية منظمة من جنسيات أجنبية مختصة في استعمال الأطفال والنساء في التسول".
ولفت إلى أن السلطات أمرت ولاة الجمهورية (حكام المدن) بمحاربة ظاهرة تسول النساء والأطفال الأجانب، التي أخذت أبعاداً مقلقة، وكشفت عن وجود شبكات إجرامية منظمة من جنسيات أجنبية مختصة تستغل الأطفال والنساء في التسول".
ووفق الإحصائات الرسمية التي قدَمها وزير الداخلية فإن معظم الرعايا الأجانب المُقيمين بطريقة غير شرعية قادمون من النيجر ومالي، وهم الأكثر ممارسة لهذه الأفعال، وأعلن عن تسجيل 77 قضية أحيلت على المحاكم خلال العام الجاري، وتم بناءً عليها إيداع 17 شخصاً الحبس المؤقت، و54 تحت الرقابة القضائية.
شبكات منظمة
تقول المحامية والحقوقية الجزائرية فريدة سي عبد الله لـرصيف22 إن المشترع الجزائري يصنف "التشرد" و "التسول" في خانة الجرائم التي يُعاقب عليها القانون بالسجن فترات متفاوتة، إذ تنص المادة 195 من قانون العقوبات الجزائري، على أن القانون يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر، على التسول في أي مكان... فيما تنص المادة 195 مكرر من القانون ذاته على أنه يعاقب من ستة أشهر إلى سنتين كل من تسول بقاصر لم يكمل 18 سنة أو يعرضه للتسول، وقد تضاعف العقوبة وتصبح أربع سنوات.
ولا ترى فريدة الأفارقة المتسولين جناة بل ضحايا خاضعين لاستغلال ما تسميه "عصابات التسول". وتذكر وجود تقارير أمنية تثبت ذلك، إذ أعلنت أجهزة الشرطة في عدة مناسبات تفكيك شبكات تستغل النساء والأطفال المهاجرين الأفارقة في أنشطة التسول، وكشفت عن تحرير قرابة 10 أطفال من جنسيات إفريقية مختلفة دخلوا أرض الوطن مع عائلاتهم بطريقة سرية، بينهم أطفال من جنسية نيجيرية، كانوا قيد الاستغلال من قبل شبكات الاتجار بالبشر. وبيّنت تقارير الأجهزة الأمنية جني أموال طائلة عبر جعلهم يستولون في الشوارع والأحياء والمراكز التجارية الكبرى.
خاضعون لاستغلال شبكات إجرامية من جهة، يجبرون الأطفال والنساء والكبار على التسول، ومثيرون لريبة السلطات وسكان محليون من جهة أخرى... الأفارقة اللاجئون في الجزائر
وتكمل: "يمثل وجود اللاجئين الأفارقة في الجزائر عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على السلطة لأنها مجبرة على توفير المأوى والأكل لهم".
ولكن ما يصدم الحكومة ويثير الريبة تغيير مكان وجودهم بشكل دوري، وتنقلهم من ولاية (محافظة) إلى أخرى، واختيارهم حياة التشرد على الفضاء الآمن الذي توفره لهم، مما أثار شكوك السلطات، ليس من وضعهم الراهن فحسب، ولكن مما هو قادم.
"ويفضل الأفارقة العيش في مخيمات خاصة يشيدونها تحت الجسور وعلى ضفاف الوديان وبمحاذاة الأحياء السكنية الكبرى، ويضم كل مخيم العشرات من الخيم، بعضها تنجز ببقايا الأفرشة والقطع البلاستيكية السميكة، التي تعزل عنهم أمطار الشتاء وحرارة الصيف"، بحسب قول فريدة.
وتصف الحقوقية الجزائرية الوضع داخل مخيمات الأفارقة بـ "المزري" بسبب الافتقار لأدنى الشروط الصحية والغياب التام للماء والكهرباء والمجاري المائية.
مركز لجوء لا نقطة عبور
وترجع أسباب رفض لاجئين أفارقة البقاء في أماكن الإيواء التي تخصصها لهم الدولة، والتي تتوفر فيها ظروف "العيش الكريم"، إلى رغبتهم في التخلص من الرقابة المفروضة عليهم، والتجوال بحرية تامة، ولذلك تضطر السلطات إلى ترحيل العشرات منهم إلى بلدانهم الأصلية بعد كر وفر.
وتضيف فريدة: "السلطات تخشى زحف قوافل من قبائل مالي والنيجر إلى المحافظات الوسطى، فهؤلاء قادمون من مدن ليس فيها رعاية صحية، لذا تخشى الدولة من انتقال الأمراض الوبائية، خاصة أن المهاجرين غير الشرعيين القادمين من 23 دولة إفريقية إلى الجزائر، أصبحوا يتخذونها كمركز "لجوء" بعد أن كانت في وقت سابق نقطة "عبور" إلى البحر المتوسط".
وتتابع: "عالجت العدالة الجزائرية قضايا اللاجئين المتورطين في التزوير والنصب والاحتيال على الجزائريين، وقضايا أخرى يقوم أفرادها بالمتاجرة في تأشيرة الدخول إلى أرض الوطن".
ويقول الباحث في الشؤون الإفريقية مبروك كاهي لرصيف22 إن السلطات تنظر بعين الريبة لطبيعة أولئك المتسولين، فبعضهم قادمون من مناطق نزاع شهدت أعمال عنف ضد المدنيين في الساحل الإفريقي في الفترة الأخيرة.
ورغم ذلك، يُؤكد كاهي أن الجزائر ملتزمة تطبيق الاتفاقيات الدولية، لا سيما منها تلك المتعلقة بحماية اللاجئين ومساعدتهم وعدم إعادتهم لبلدانهم الأصلية إلا بعد التأكد من استعادة الأمن وموافقة سلطات بلادهم، رغم الأعباء المالية الكبيرة التي تترتب على وجودهم في الجزائر.
التزام الدولة الجزائرية وشعورها بالعبء ردّهما مبروك كاهي إلى خشية السلطات استخدام هذا الملف دولياً، لما تعتبره "ابتزازاً من أطراف خارجية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون