يتوارى الكاميروني عمر صالح عن العيون طوال رحلته اليومية إلى عمله، تجنباً لسماع الكلمات التي تؤذيه.
"مليتوا البلد"، "إحنا ناقصينكم؟"، "كفاية اللي إحنا فيه"، عبارات يسمعها الشاب الأسمر يومياً أثناء ذهابه إلى عمله، "أسمعها في الشارع وفي وسائل المواصلات"، يقول عمر لرصيف22.
ما يحدث مع عمر وغيره من الأفارقة المقيمين في مصر هو ما دفع المصورة ريم عقل إلى تسجيل معاناتهم اليومية في شوارع القاهرة.
"أشاهد ما يتعرضون له من عنصرية ونبذ، ومعاملة دونية، لذلك قررت أن أصور معاناتهم لكي تكون شاهداً على ما يتعرضون له من انتهاكات لا إنسانية"، تقول عقل لرصيف22.
وعن أهم ما رصدته خلال احتكاكها بالأفارقة في مصر، تقول: "يعانون من قلة فرص العمل، يعملون في وظائف متدنية مقارنة بإمكاناتهم، طهاة أو سائقين أو في خدمة المنازل، ومن هنا يعانون من التعرض للإهانة وقلة الأجور".
شاركت عقل بصورها في معرض للصور الفوتوغرافية في محاولة لمساندة اللاجئين الأفارقة في مصر، وتوثيق مشكلاتهم في المجتمع، وتأمل أن تستطيع تقديم الدعم لهم يوماً ما، وأن تعرض ما رصدته عنهم في كتب مصور.
اللاجئون الأفارقة في مصر
بين عامي 1950 و1960 بدأ نزوح الأفارقة إلى مصر كلاجئين، بسبب نفي القوى الاستعمارية للسياسين الأفارقة المعارضين، خوفاً من حركات التحرر الوطني. ويشكل اللاجئون من السودان والصومال الفئة الأكبر من اللاجئين الأفارقة في مصر. بعد حروب "القرن الإفريقي"، كحروب إثيوبيا وإريتريا، زاد توافد اللاجئين الأفارقة من جنسيات مختلفة إلى مصر، منذ عام 1990، بحسب دراسة للمركز الديموقراطي العربي للدراسات السياسية والاقتصادية. عام 2005، قُتل 25 لاجئاً سودانياً على أيدي القوات المصرية، خلال فضّ اعتصام قاموا به أمام مقر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في مصر بسبب سوء أوضاعهم. وفي آخر إحصائية لها، أعلنت المفوضية أن عدد اللاجئين في مصر هو 217.813 من نحو 60 بلداً، بينها سوريا والسودان وإثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان والعراق واليمن، وهو ما يتضارب مع تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقائه بالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، أثناء زيارتها إلى مصر مطلع عام 2017.قدّر السيسي عدد اللاجئين بنحو 5 ملايين. والواقع أن عدداً كبيراً من اللاجئين يعيشون في مصر بشكل غير قانوني، بعلم النظام، ولكن بدون غطاء قانوني أو إنساني. وأعد الصحافي الألماني تيلو ميشكي تقريراً وثائقياً عن تجارة الأعضاء في مصر، وكانت المفاجأة أنه كشف عن استغلال اللاجئين الأفارقة، خاصة السودانين، وهو ما نفته الحكومة المصرية، معتبرةً أنه محاولة للإضرار بالأمن القومي. وفي تقرير استقصائي آخر نشرته منظمة "كوفس الأمريكية"، وُجد أن اللاجئين الأفارقة في مصر يتعرضون للاتجار بالأعضاء وتجارة البشر بالإغراء أو السرقة والإكراه. لا يقتصر الأمر على الإعلام الغربي فقط في تأكيد تعرض الأفارقة في الشارع المصري لانتهاكات. ففي تحقيق مصور، رصدت هدى زكريا، وهي صحافية مهتمة بشؤون الأفارقة في مصر، تعرضهم للنبذ والعنف والتحرش والاغتصاب وتجارة الأعضاء.
كثيراً ما يستهدف مرتكبو الجرائم المختلفة كالسرقات والاعتداءات الجنسية والاتجار بالأعضاء البشرية وغيرها الأفارقة في مصر بسبب اطمئنانهم لعدم وجود قوانين رادعة لحمايتهم
الأفارقة السمر في مصر... طرد أحد الأشخاص حسن قمر الدين، السوداني اللاجئ في مصر، من المسجد أثناء الصلاة، بسبب لون بشرته السوداء
"بكار"، "شيكا"، "شيكولاتة"
يتعرّض حسن قمر الدين، أحد اللاجئين السودانين المقيمين في مصر منذ 10 سنوات، للاستهزاء يومياً. "لا أرد على من يسبني، أخاف الاحتكاك بالمصريين، لا أريد مشاكل"، يقول لرصيف22. حسن، الذي يدرس في جامعة الأزهر، يرى أن الكثيرين يتعاملون مع الأفارقة معاملة سيئة "بسبب لون بشرتهم الداكنة". ويحكي قمر الدين أحد المواقف السيئة التي تعرض لها، إذ قام أحد الأشخاص بمحاولة طرده من المسجد أثناء الصلاة، فقط لأنه "أسود"، إلا أن شيخ المسجد تصدى للأمر. ربما هو لا يملك الشجاعة الكافية للرد على مَن يتطاولون عليه، عكس الكاميروني عمر صالح الذي يتحدث مع مَن يتطاول عليه، ويستشهد بآيات من القرآن الكريم. "بعضنا يخاف من التحدث مع أحد، حتى لا نتعرض لمشاكل، لكن أنا لا أحتمل ما يطلقه علينا البعض من مفردات، كشيكا وبكار وشيكولاتة. هل يضرّ أي شخص كوني أسود؟ هل لوني يستدعي أن أكون منبوذاً أو أن أعامل معاملة دونية؟"، يتساءل عمر. وبحسب دراسة للمركز الديمقراطي العربي، عن اندماج اللاجئين في المجتمعات المضيفة، فإن الأفارقة يتعرضون للتمييز العنصري والنبذ في المجتمع المصري بسبب لون بشرتهم.
تحرش... واستغلال
للأفارقة في مصر مجتمعاتهم الخاصة، وينتشرون بمناطق أرض اللواء والمعادي وحدائق المعادي وعين شمس وميدان إبراهيم باشا بمنطقة العتبة، ولهم مقاهيهم في كل من هذه المناطق. يرفض معظمهم الحديث مع الغرباء. لكن في منطقة أرض اللواء التابعة لمحافظة الجيزة، تحدثنا إلى حسناء م.، إريترية تعيش في مصر منذ 8 سنوات. تقول حسناء لرصيف22: "أتعرض يومياً للتحرش في الشارع وإلقاء الطوب والحجارة، ونظرة دونية من الأشخاص إذا ارتديت الزي الشعبي لبلدي، وعبارات السخرية". وتحكي حسناء موقفاً حدث لها حين قام أحد التجار ببيعها إحدى السلع بسعر مرتفع عن سعرها الحقيقي، وعندما عاتبته ضربها. سألناها لماذا لم تبلغي الشرطة؟ فأجابت: "ماذا ستفعل لي؟". وبحسب دراسة المركز العربي الديمقراطي، فإن انعدام الأمن هو إحدى المشكلات الكبرى التي يواجهها اللاجئون الأفارقة في مصر، إذ كثيراً ما يعتدي عليهم مرتكبو الجرائم المختلفة كالسرقات والاعتداءات الجنسية والاتجار بالأعضاء البشرية وغيرها، بسبب اطمئنانهم لعدم وجود قوانين رادعة لحماية اللاجئين.
ماذا يقول المصريون؟
حمادة مجدي، أحد سكان منطقة أرض اللواء وصاحب متجر للهواتف محمولة، يقول لرصيف22: "لا أرى مشكلة في وجود اللاجئين الأفارقة في منطقتنا، بالرغم من أنهم ‘كتروا أوي’، إلا أن وجودهم يعد أمراً مربحاً بالنسبة لي، فهم يقومون بعمليات شراء واسعة ويدفعون ما يطلب منهم عكس المصريين". ويرى رأفت أمين رأفت، من سكان المنطقة، أن وجود الأفارقة في المنطقة أصبح مقلقاً للسكان، خاصة أن عاداتهم وتقاليدهم مختلفة عن عادات وتقاليد المصريين. ويقول لرصيف22: "ساهموا في ارتفاع الأسعار وجشع التجار وارتفاع أسعار المباني والشقق السكنية، ويقاسموننا أكل عيشنا"، "فهم استعمروا أرض اللواء".
أسباب الفجوة
لا يتناول الإعلام المصري كثيراً شؤون إفريقيا والأفارقة، وتغيّر الأمر قليلاً بعد أزمة سد النهضة التي كشفت عن تراجع الدور المصري في القارة السمراء. يقول وزير خارجية مصر الأسبق عمرو موسى في مذكراته "كتابيه"، إنه بالرغم من مساندة مصر لحركات التحرر الوطني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلا إن العلاقات المصرية الإفريقية شهدت تراجعاً كبيراً في عهد الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك.ويروي أن مبارك كان يضع أمنه الشخصي فوق كل الاعتبارات، فلم يكن يحضر معظم القمم الإفريقية لتشككه في كفاءة الأجهزة الأمنية في الدول الإفريقية، وانقطع تماماً عن المشاركة في أية قمة بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا عام 1995، إلا تلك التي تقام في القاهرة أو في دولة عربية يطمئن لها. "لا يتناول الإعلام المصري أياً من الأخبار عن إفريقيا إلا إذا تحدث عنها السيسي، فالإعلام يمثل بوقاً للسلطة السياسية في ما يخص إفريقيا"، تقول الباحثة في الشأن الإفريقي رشا رمزي لرصيف22. وتستدل رمزي على قولها هذا بأن مؤتمر ملتقى الحضارات الإفريقية، الذي عقد في أسوان في نوفمبر الماضي، "لم تتم تغطيته إعلامياً من أية جهة سوى قناة طيبة"، وتتساءل: "أين الإعلام من تغطية مثل هذه الأحداث التي ربما تكون ممراً لمصر للعبور إلى إفريقيا؟". وترى أن الإعلام يتحمل جزءاً كبيراً من تصدير صورة سيئة عن الإفريقي، فالعنصرية والنبذ ليسا من قبيل المصادفة، إنما نتيجة لتراكمات ذهنية متتالية "فالإفريقي هو الشخص البدائي الذي ما زال يأكل من على الشجرة، ولا يعرف معاني الحضارة، ويمثل مصدراً للملاريا والكوليرا، كما يصوّرهم الإعلام المصري". وتعوّل رمزي على تشكيل "لوبي إعلامي" لتشكيل وعي مصري بالهوية الإفريقية لمصر، وإعادة صياغة المفاهيم المصرية الإفريقية."بعضنا يخاف من التحدث مع أحد، حتى لا نتعرض لمشاكل، لكن أنا لا أحتمل ما يطلقه علينا البعض من مفردات، كشيكا وبكار وشيكولاتة. هل يضرّ أي شخص كوني أسود؟"
هاشتاغ لمساندة الأفارقة في مصر
كتب الدكتور محمد الشامي، أستاذ الطب النفسي في جامعة القاهرة، عبر صفحته الشخصية على فيسبوك، حكاية مأسوية لأسرة من أصحاب البشرة السمراء، لفتيات تراوح أعمارهن بين 4 و15 عاماً، يعانين من ميول انتحارية واكتئاب شديد بسبب محاولة اغتصاب إحداهن في الشارع والتحرش الدائم لفظياً وجسدياً بهنّ، على اعتبار أنهن لاجئات لا حماية لهن. ومن هذه القصة، أطلق الشامي حملة ضد العنصرية والتمييز العنصري على السوشال ميديا. وجمع الهاشتاغ قصصاً مأسوية للاجئين أفارقة يعيشون في مصر، وشهادات كثيرة لمصريين عن كم من الاعتداءات التي تحدث للأفارقة في شوارع مصر، وإن أنكر البعض هذه الظاهرة. ويرى الشامي أن التدهور الأخلاقي، الذي يعاني منه البعض في الشارع المصري يجب أن يواجَه بحزم وشدة لمواجهة الفكر المتطرف ضد أصحاب البشرة الداكنة.لماذا لا يندمج الأفارقة؟
يزيد تشابه الخلفية الثقافية والحضارية والتاريخية والدينية واللغوية للاجئين مع السكان الأصليين من فرص اندماجهم في المجتمع، في مدة زمنية قصيرة، بعكس حال اللاجئين الذين لا تجمع بينهم وبين السكان الأصليين وحدة في الثقافة أو الحضارة أو التاريخ أو الديانة أو اللغة. هذه الحقيقة تنعكس على وضع اللاجئين الأفارقة في مصر، خاصةً غير العرب، وتخلق صعوبة في الاندماج، مقارنة بأوضاع غيرهم من أبناء الجنسيات الأخرى، كالسوريين مثلاً، بحسب ما جاء في دراسة المركز الديمقراطي العربي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...