أحببتُ شاباً مسيحياً، وأنا ابنة لعائلة مسلمة تعيش في جنوب لبنان. كانت الأمور سهلة ولم نواجه صعوبات في إقناع الأهل بعلاقتنا، فعائلتي لادينية، وبعض أقاربي كانوا قد سبقوني نحو الزواج مدنياً في قبرص، وعائلة زوجي متديّنة لكنها تقبّلتني وتقبّلت قرار ابنها، رغم أنه الوحيد ضمن عائلته الذي تزوّج من خارج طائفته، ولم تعترض على رغبتنا في عقد زواج مدني.
لكن أموراً مزعجة كثيرة أتت من المحيط الاجتماعي الأكبر الذي يسمح لنفسه بإبداء بعض التعليقات وطرح بعض التساؤلات حول مستقبل الأولاد وتربيتهم وكيفية التعاطي مع الاختلافات الثقافية، حتى أن أحد المتديّنين إسلامياً أخبرني أن الأولاد الذين يأتون من زواج لاديني هم أبناء زنا. كان هذا التعليق الأسوأ وقعاً على مسمعي.
مرّت شهور على زواجي ولا زلت أسمع أحياناً بعض التعليقات الغريبة، كأن يقول أحدهم إنه لم يشعر بأنني تزوجت، ذلك أن أي زواج لا يخضع لشروط السلطة الدينية والاجتماعية ليس زواجاً يعترف به أبناء هذه الطوائف والمنتمين إليها.
اليوم، أعيش أنا وزوجي في الولايات المتحدة. ورغم ذلك، فإن أكثر سؤال أُضطرّ للإجابة عنه عند لقائي بلبنانيين هو: "إنتي من وين؟"، وهو سؤال غرضه تحديد انتمائي الطائفي تبعاً للمنطقة التي أتحدّر منها في لبنان.
أجيب: من الجنوب.
ـ الجنوب؟ جزين (إحدى المناطق الجنوبية التي تسكنها غالبية مسيحية) يعني؟
ـ كلّا، من قضاء النبطية (سكانه من الطائفة الشيعية).
ألاحظ أن البعض يحتارون، ولا يستوعبون كيف أن زوجي مسيحي وكيف أنني من منطقة لا مسيحيين فيها. أغلب هؤلاء هم من بيئة مسيحية، تركوا لبنان بُعيد الحرب الأهلية أو قبل انتهائها، ولم يختلطوا كثيراً في الاغتراب سوى بأبناء بيئتهم.
بعد زواجي، بدأت أسمع بقصص أشخاص يعانون فقط بسبب حبّهم لشخص من خارج طائفتهم. صديقي المسيحي أعلن أمام والديه أنه يحبّ فتاة مسلمة، وعلى الرغم من تقبلهما الأمر فإن شقيقته التي تحب مسلماً تشعر بأنه من المستحيل أن تأتي على ذكر الأمر أمامهما.
الانهيار الاقتصادي أضاف تعقيداً جديداً
لم تعتقد رؤى أنها ستواجه الخوف من البوح بالحب أمام عائلتها قبل أن أحبّت دومينيك. عن سبب خوفها، تقول لرصيف22 إن قريبات لها أحببنَ قبلها شباباً من خارج الطائفة، لكن الضغوطات العائلية حالت دون استمرار علاقاتهنّ. لذلك، أبقت على العلاقة سرّية لأنها ظنّت أن العائلة ستمنع قصة الحب هذه.
رؤى، ابنة قرية عدلون الشيعية، درست الأدب الفرنسي، وتعرّفت على دومينيك في دورات لمجلس الخدمة المدنية، شاركا فيها ليصبحا أساتذة في التعليم الرسمي. كان دومينيك يزورها في بلدتها الواقعة جنوب لبنان ليدرسا سوياً ونشأت بينهما علاقة حب. لم تخبر رؤى أحداً عن الأمر، لأنها وحبيبها ينتميان إلى ديانتين مختلفتين. اكتفت بإخبار أخيها فقط بأنها على علاقة بشاب مسيحي كاثوليكي، فهو يفكّر بطريقة مختلفة عن باقي أفراد العائلة. في المقابل، أخفت الأمر عن أختها، رغم علاقتهما المقرّبة، خوفاً من ردة فعلها.
تحكي رؤى عن المسار الذي خاضته حتى تمكنت من البوح بأمر حبها لشاب مسيحي: "أخذت منّي هذه المسألة جهداً نفسياً كبيراً، وما كنتُ لأقوم بها لولا تزايد العقبات أمام قدرتنا على التلاقي". تروي: "نحن من مجتمعين مختلفين، ولم يكن بمقدوري أن أتمتع بحريتي الكاملة للقائه لأنني فتاة ومن بيئة محافظة نوعاً ما، فقررت إخبار أهلي بأني أرغب بالزواج من دومينيك".
طلب أهل الشابّة منها أن تتروّى في الأمر، ليتمكنوا من استشارة العائلة الموسّعة وأخذ رأي أعضائها في هكذا قرار. لحسن الحظ، وافقت العائلة ولكن "بشرط أن يصبح دومينيك شيعياً وأن يعقدا قرانهما أمام رجل دين شيعي".
أما بالنسبة إلى دومينيك، فهو "لم يواجه أيّة مشاكل، وقام أهله بزيارة أهلي وعبّروا عن سعادتهم بهذه الخطوة". تعتقد رؤى أن هنالك قاسماً مشتركاً ذلل عقبة الاختلاف الديني قليلاً وهو أنها وحبيبها "أبناء قُرى ولدينا خلفيات مشتركة اجتماعياً ولو كنّا من ديانتين مختلفتين".
كانت رؤى منذ مراهقتها ترغب بأن تتزوّج مدنياً تفادياً لظلم المحاكم الدينية الذي يلحق بالنساء وحقوقهنّ خاصةً في حضانة الأولاد، فلها صديقة "ذاقت المرّ وحُرمت من أطفالها، وهي تخوض اليوم معاركَ من أجل رؤية أبنائها".
كانت الشابة تردّد لوالدتها دائماً أنها "حتى لو تزوجتُ شخصاً من نفس طائفتي وعقدت قراني أمام رجل دين، سأتزوج مدنياً وأسجّل زواجي مدنياً لكي أحمي كامل حقوقي كامرأة قوانين الأحوال الشخصية في لبنان مجحفة بحقها".
لكن، بموجب القوانين اللبنانية، حتى لو حصل زواج مدني في الخارج بين شريكين مسلمين، فإن المحاكم الشرعية هي التي تبتّ بالنزاع بينهما. وهو أمر لم تكن تعرفه رؤى.
في لبنان، تُدير كل طائفة أمور أحوالها الشخصية، أي أحوال الزواج والطلاق والحضانة والإرث. ولكل طائفة محاكمها الدينية التي يحكم في القضايا المعروضة أمامها رجال دين، بعضهم لا يتمتع بالخلفية الأكاديمية القانونية بالضرورة.
ويشكّل غياب قانون مدني موحَّد للأحوال الشخصية معضلة للذين يرغبون بالزواج من خارج طوائفهم، يلجأ أغلب اللبنانيين إلى حلّها عبر السفر إلى الخارج، وغالباً إلى قبرص وتركيا، لعقد زواج مدني. والدولة اللبنانية تعترف بالزواج المدني الذي يُعقد خارجها وتقبل بتسجيله، لكن لا قانون يتيح إجراء الزواج المدني داخلها.
يتكبّد الراغبون بالزواج مدنياً خارج لبنان تكاليف لا تقل عن 1500 دولار أمريكي تنفَق على حجوزات السفر والفندق، بالإضافة إلى رسوم الأوراق الرسمية. هذه التكلفة تحدّ من قدرة ذوي الدخل المحدود على التحرر من سلطة المحاكم الدينية على أحوالهم الشخصية. والأسوأ يأتي عندما يكون الشريكان من ديانتين مختلفتين، عندها تتحول عدم قدرتهما على تحمل تكلفة السفر إلى عقبة أمام تمكنهما من الزواج بالأصل. وفي هذه الحالة، لا يعود أمام الثنائي الذي يرغب في الزواج إلا أن يتكبد أثماناً من نوع آخر من خلال اتخاذ خطوات كالتي اتّخذها دومينيك ورؤى.
عندما طلبت عائلة رؤى أن "يتشيع" دومينيك، "لم يكن لدينا أي مانع" تقول رؤى. فالثنائي يعتبران أن المسألة صورية، لا سيما أن رؤى سبق وقامت بمعاملة شطب الطائفة في سجلات النفوس، وبالتالي هي نفسها لا تنتمي إلى الطائفة الشيعية لجهة الأوراق الرسمية.
كان مخطط الثنائي أن يعقدا زواجهما مدنياً في الخارج، على أن يكون "هو الزواج الرسمي بيننا" تقول رؤى. غير أن الانهيار الاقتصادي وانهيار قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي، بالإضافة إلى جائحة كوفيد-19 وإقفال المطارات حال دون "قدرتنا على السفر وتحمّل المصاريف". هكذا انتهى بهما الأمر بتسجّيل زواجهما دينياً بعكس رغبتهما. وهكذا أيضاً، أصبح دومينيك "شيعياً رسمياً على الأوراق"، أي في سجلات الدولة.
سلطة رجال الدين على الهوية الجمعية
تقول رئيسة المفكرة القانونية لمى كرامة إن مسار السعي وراء إقرار زواج مدني في لبنان بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي، وقُدّم أكثر من مشروع قانون لإقرار الزواج المدني في لبنان، بعضها قوانين اختيارية والبعض الآخر قوانين إلزامية لكن لم يُقرّ أي واحد منها.
وتضيف لرصيف22 أن "أول تسجيل رسمي لزواج مدني معقود على الأراضي اللبنانية حصل عام 2013 عندما تزوج الثنائي خلود سكرية ونضال درويش، وقد تمّ تسجيل هذا الزواج بناءً على تعميم أصدره الوزير السابق زياد بارود عام 2009 حدّد من خلاله آليات شطب القيد الطائفي".
"مجتمعنا بطريركي تخضع فيه الإناث والرجال على السواء لسلطة البطرك (الوالد، الأخ، رجل الدين على رأس الطائفة) ولذلك لا يُهدِّد زواج الرجل من امرأة من غير طائفته الجماعة مثلما يهددها زواج المرأة من غير طائفتها"
وتوضح كرامة أن "الثنائي سكرية-درويش استند إلى القرار 60 ل.ر. الصادر عام 1936 والذي ينص على أن الأشخاص الذين لا يخضعون إلى أي طائفة من الطوائف التاريخية (والمقصود الطوائف المُعترف بها في لبنان) يخضعون لقوانين مدنية".
وتشير إلى أنه على الرغم من تسجيل بعض العقود تبعاً لنص القانون، غير أن "وزراء الداخلية المتعاقبين صاروا يرفضون تسجيل الزيجات المدنية، وهنالك الكثير من الزيجات التي عُلّقت، ما اضطر البعض إلى اللجوء للزواج خارج لبنان أو إلى الزواج الديني".
تصاعد مطلب الزواج المدني مع تعيين ريا الحسن وزيرة للداخلية عام 2019، بعدما أعلنت أنها تريد فتح باب النقاش مع كل المعنيين حول هذا الأمر، غير أن جهات دينية مختلفة أعلنت رفضها التام لمثل هذه الخطوة.
قبلها، كان وزير الداخلية الأسبق مروان شربل قد وافق، عام 2012، على تسجيل أول عقد تم مدنياً (بين خلود ونضال) أمام الكاتب العدل على الأراضي اللبنانية. ومع الوزير شربل، أيضاً سجّل آخر عقد زواج تم مدنياً على الأراضي اللبنانية وكان بين فاطمة هاشم وجان نمير، ذلك أن خَلَفه الوزير نهاد المشنوق عاد ورفض تسجيل أي زيجات مدنية تُعقَد داخل الأراضي اللبنانية.
واشتهر المشنوق بالعبارة التي قالها في برنامج حواري تلفزيوني: "قبرص مش بعيدة"، بما فيها من دلالة على أن مَن يرغب في كسر الحواجز الطائفية وفتح الأبواب أمام الاختلاط بين أبناء الطوائف المختلفة وعوائلها، عليه أن يتكّبد أثماناً باهظة، ليست تكاليف السفر إلا أحدها.
على الرغم من امتناع وزارة الداخلية عن تسجيل الزيجات المعقودة مدنياً في لبنان، قام هذا العام كل من ماري جو أبي ناصيف وعبد الله سلام بعقد زواجهما أمام الكاتب العدل في لبنان. توضح كرامة في هذا السياق أن هذا الزواج "لم يتم تسجيله حتى اليوم."
تقول كرامة إنه "عندما يتزوج شخصان مدنياً في لبنان تبتّ محاكم الأحوال الشخصية المدنية بنزاعات الزواج، أي الطلاق والإرث والحضانة، والمحكمة المدنية هي غرفة مدنية في المحاكم العدلية العادية".
وعن الزيجات المدنية المعقودة بين لبنانيين في الخارج توضح أن "المحاكم المدنية أيضاً هي التي تبتّ في النزاعات باستثناء زواج المسلم من مسلمة الذي يُبقي للمحاكم الشرعية سلطة البتّ بالنزاعات. أما بالنسبة إلى الموحدين الدروز فقد صدر قانون عن الهيئة العامة لمحكمة التمييز يقرّ بأن المحاكم المدنية مختصّة ببت النزاعات بين المتخاصميْن طالما أنهما تزوجا مدنياً."
تردّ الباحثة والأستاذة المساعدة في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية هلا عواضة رفض الزيجات المختلطة في لبنان إلى الدور الذي يلعبه "تاريخ الطوائف المأزوم والصراعات الديموغرافية".
تقول لرصيف22 إنه على الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه الطوائف في عرقلة الزواج المختلط فإنه بالمقابل "لا يمكن إغفال عامل مهم جداً وهو خوف رجال الدين في كل الطوائف من تغييب دورهم في عملية الزواج، الأمر يهدد مكانتهم مادياً ومعنوياً".
يذكّرني كلام الدكتورة عواضة بقصة أخبرتني بها صديقتي، إثر زواجي، بينما كانت تحاول أن تفهم منّي الطريقة التي "أقنعت بها أهلي". أخبرتني أنها تحاول إقناع أهلها، وهم مسيحيون، منذ خمس سنوات، بالزواج من حبيبها المسلم وكل ما تسمعه هو عبارات مثل "قتلونا بالحرب. بدك تتزوجي منهم؟"، و"بكرا بيتزوج عليكِ"، و"ما فينا نروح على مناطقهم".
ويذكّرني أيضاً بقصة شاب مسيحي تزوّج درزية وهاجر من لبنان ليكون، هو وزوجته، في أمان من أيّة محاولة قتل. مرّت عشرين سنة وما زالا في الخارج حتى اليوم.
"تسقط في لبنان شعارات التسامح والعيش المشترك أمام أول امتحان، أي الزواج من خارج الطائفة الثقافية الدينية، ويتفجّر الشعار لأنه يصبح مهدداً لمجموعة المبادئ والأفكار والسلوكيات التي رسمتها الجماعة لنفسها والتي تعمل لتنشئة الأطفال عليها"
تُحيل عواضة مسألة العوائق والمخاوف المتصلة بالزواج المختلط، والصعوبات التي يواجهها الأشخاص بسبب الزواج المختلط إلى "الهوية الاجتماعية للفرد". تشرح أن "الاختلاف بين البشر سوسيولوجياً ينتج عن حاجة اجتماعية لديهم للانضمام إلى جماعة تعمل على تحديد أهدافها ومبادئها وأدوار ومكانات مَن ينتمي إليها عبر تصنيفات معيّنة لهوية الأفراد الذين ينتمون إليها، وهكذا تتشكل الهوية الجمعية للفرد".
تستند عواضة في كلامها إلى هنري تاجفيل، صاحب نظرية الهوية الاجتماعية، لتوضيح كيف أن الجماعة منذ تشكّلها "تسعى إلى تمييز نفسها عبر نحن وهُم، وهذا ينطبق على كافة أشكال التجمّع ولا يتوقف عند حدود الطوائف الدينية".
ولكن يحدث أن تصطدم الهوية الفردية بالهوية الاجتماعية وهنا تقول إنه "عندما تتشكل الهوية الاجتماعية للفرد تصبح عضويته في الجماعة أمراً مركزياً وتربطه بها روابط عاطفية قوية. وهو يتبنى كفرد استراتيجيات من أجل تمييز جماعته إيجابياً عن الجماعات الأخرى. لكن في لحظات معيّنة تصطدم هوية الفرد الشخصية مع قيم جماعته الأولى بحيث لا تعود تلبّي طموحاته الشخصية المتعلقة بهويته الفردية، وحينها يبدأ باعتماد استراتيجية التنقل الفردي من أجل تحسين صورته عن ذاته، فيترك الجماعة الأولى وينضم إلى جماعة أخرى سعياً لتحقيق أهداف فردية. وهنا قد نفهم كيف يترك الفرد جماعته ويتزوج من طائفة أخرى وينتمي إليها، أو أنه يعمد إلى رفض الجماعات القائمة كلها ويتزوج مدنياً ويشكل جماعة جديدة لا تتبنى معايير جماعته الأولى ولا قيم ومعايير جماعة شريكه. إذن نحن بصدد تشكّل جماعة أخرى لها معاييرها وقيمها الجديدة".
أما عن خصوصية رفض الجماعات للزواج المختلط، فتقول عواضة إن "الزواج وبالتالي الإنجاب، وهو الأهم، مسألة حيوية لإعادة إنتاج الـ‘نحن’ في مقابل الـ‘هم’ بالنسبة للجماعة". هكذا، تسقط في لبنان "شعارات التسامح والعيش المشترك أمام أول امتحان، أي الزواج من خارج الطائفة الثقافية الدينية، ويتفجّر الشعار لأنه يصبح مهدداً لمجموعة المبادئ والأفكار والسلوكيات التي رسمتها الجماعة لنفسها والتي تعمل لتنشئة الأطفال عليها".
ويأتي هذا التهديد تبعاً لعواضة من كون "الضيف الوافد من غير طائفة إلى هذه الجماعة يحمل منظومة من الأفكار والمبادئ والسلوكيات المختلفة والتي تشكّل تهدّيداً لوحدة الجماعة".
"لا تتزوجي مسلماً"
تعرّف كل من سامر وريتا (أسماء مستعارة) من خلال الانخراط في النشاط السياسي، وهما يحملان توجهات يسارية متشابهة ولادينيان. تتحدر ريتا من عائلة مسيحية كاثوليكية، أما سامر فهو من عائلة مسلمة سنّية، وكلاهما لا يتبنّى عقيدة عائلته، أو أي عقيدة دينية أخرى. استمرت علاقة الحبيبين خمس سنوات، قررا بعدها أن يتزوجا عام 2010 في لبنان.
خلافاً لرؤى، لم يشعر أي منهما بالخوف من إعلام العائلة برغبته بالزواج، ولكن المفاجأة كانت "كمية الأسئلة التي انهالت علينا حول كيف سنقوم بتربية الأولاد"، يقول سامر لرصيف22 مضيفاً: "أعتقد أنه من الصعب على البعض أن يفهموا ماذا يعني أن يكون الشخص ملحداً ولادينياً".
قرر سامر وريتا المضي قدماً بمعاملات الزواج مدنياً، بغضّ النظر عن موقف العائلة، غير أن كون سامر عديم الجنسية عرقل إمكانية حصوله على تأشيرة سفر إلى قبرص. وبما أن الثنائي كان قد سبق أن حدد موعد الزفاف، اضطرّا إلى التفكير بحلول لا تستدعي التأجيل، وقصدا كنيسة كاثوليكية بهدف تحوّل سامر إلى المسيحية وتزويجهما في الكنيسة، غير أن سلطة رجل الدين في قبول شخص في طائفته أو رفضه تخطت توقعات الثنائي.
في الكنيسة، أقرّ سامر لرجل الدين، إثر سؤاله عن سبب رغبته أن "يصبح مسيحياً"، بأنه يقوم بذلك "بهدف الزواج". عندها انتقل الخوري إلى ريتا ليسألها سؤالاً لا يخلو من التأنيب: لما تريدين أن تتزوجي من رجل مسلم؟ هل فكّرت بمستقبل أطفالك لاحقاً؟
ـ ريتا: نحب بعضنا البعض ونحن على علاقة منذ خمس سنوات.
ـ سامر: أنا مستعد أن أوقّع على تعهد بأن أعمّد الأطفال في المستقبل في حال كان هذا الشرط لتزوجنا.
لم يرحّب الخوري بالحب، ومنع عن سامر الديانة المسيحية.
ـ ريتا: ماذا أفعل، هل أتزوج عند رجل دين مسلم وأصبح مسلمة؟
ـ الخوري: كلا، لا تتزوجيه أبداً، لا تتزوجي إلا من رجل مسيحي.
عندها قصد الثنائي الكنيسة المارونية التي وافقت على السماح للشاب بالانضمام إلى كنيستها. ولكن عندما عرفت أن ريتا "كاثوليكية"، أعلمهما الخوري بأنه لا يستطيع أن يكللهما في كنيسته.
لم يبقَ أمام الثنائي اللاديني أصلاً إلا محاولة إتمام زواجهما لدى المحكمة الشرعية السنّية، إذ اكتشفا أنّه يحقّ للرجل المسلم أن يتزوّج من امرأة مسيحية ولا يشترط عليها أن تقوم بتغيير دينها، على أن يتربّى الأولاد على الدين الإسلامي.
لا تشبه قصص الحب بين أشخاص من طوائف مختلفة قصص الحبّ العادية، ليس لأنها قصص بين أشخاص يهمشّهم القانون ولا يتقبّلها المجتمع الطائفي، إنّما لأن هذه العلاقات تُحارَب وتواجِه محاولات لعرقلتها بكل الوسائل الممكنة
يقول سامر: "لو كان متاحاً لنا أن نتزوج مدنياً لما اضطررنا للجوء إلى رجال دين يريدون أن يملوا شروطهم علينا"، ويضيف أنه حتى عند تسجيل الزواج لدى دوائر النفوس "حصل تأخير مقصود من قبل مأمور النفوس، إلى درجة أننا اضطررنا إلى استخدام وساطة لإتمام معاملة تسجيل عادية".
أنجب الحبيبان طفلهما الأول، فازدادت عائلتهما "المختلطة" فرداً جديداً. "عندما أصبحتُ أماً، بدأت أشعر بالخوف على مصير أولادي وحقي بالوصاية عليهم والحضانة في حال حصل أي خلاف بيني وبين سامر"، تقول ريتا.
من جهته، يعبّر سامر عن خوفه "في حال حصول مكروه لي أو وفاتي". يخاف بالتحديد من أخذ أهله حضانة ابنه لأن زوجته لا تزال مسيحية، كما يخاف من مسألة تقسيم الإرث.
يقول سامر: "كل هذا ونحن أشخاص لادينيين ولا تعنينا هذه الأمور، أردنا فقط أن نتزوج مدنياً وأن نربّي أطفالنا كما نشاء".
حالياً، يعيش الزوجان في بلد أجنبي حصلا على جنسيته، وتحكمه قوانين مدنية.
الرجل لا يعيبه اختلاط
لم تتوقّع لارا (اسم مستعار) أنها ستلتقي بحبّ حياتها في المبنى الجديد الذي انتقلت للعيش فيه، في أحد أحياء العاصمة بيروت. ينتمي حبيبها إيلي إلى عائلة مسيحية، بينما تأتي هي من عائلة درزية.
تصف لارا عائلتها بأنها "علمانية وليست متطرفة دينياً". على الرغم منذ ذلك، "عندما أخبرتٌهم أني على علاقة بشاب مسيحي وأرغب بالزواج منه تفاجأوا، فلم يتوقع والدي أن أتزوج من خارج طائفة الموحدين الدروز".
وتضيف لرصيف22 أن "خوف والدي كان من البيئة والمحيط الذي يعيشون فيه ومن ردّة فعل المجتمع الدرزي ومن كلام الناس، ولم يكن عن قناعة دينية أو ارتباط ديني. كان خوفاً اجتماعياً بالدرجة الأولى". في المقابل، "كانت الأمور أسهل من ناحية زوجي، ومردّ ذلك أننا نعيش في مجتمع ذكوري، وليس فقط طائفياً، فالشاب لا يعيبه شيء بينما تدفع الفتاة الثمن دائماً".
في هذا السياق، تقول الدكتورة عواضة إن "مجتمعنا بطريركي تخضع فيه الإناث والرجال على السواء لسلطة البطرك (الوالد، الأخ، رجل الدين على رأس الطائفة) ولذلك لا يُهدِّد زواج الرجل من امرأة من غير طائفته الجماعة مثلما يهددها زواج المرأة من غير طائفتها، ولذلك ليس من السهل على المرأة أن تتزوج من غير دينها لأنها ليست حرّة بالمطلق من سيطرة البطرك الأكبر".
وتضيف مفصّلةً أن "المسألة الأهم هنا هي الإرث وعدم تشتيت الملكية، وحصر مسألة الإرث بيد الرجل، ثانياً لأنها كامرأة ستخضع بحكم انتمائها إلى مجتمع بطريركي إلى قواعد ومعايير الجماعة التي التحقت بها، ولو ظاهرياً، بينما لا ينطبق ذلك على الذكور".
إلى ذلك، تتابع عواضة، فإنه "من المعروف أن الأقليات تخاف من تجزئة ملكيتها، والعائلات تخاف من تفتيت أراضيها لذلك تفضل تزويج أبنائها الذكور من الطائفة أو حتى العائلة نفسها فكيف بالأحرى الإناث!".
لم تسمع لارا تعليقات مباشرة حول قرارها بالزواج من إيلي، فالكلام المعترض على خطوتها كان يُوَجَّه إلى أهلها، وهي تعلم أن بعض أصدقاء والديها حاولوا كثيراً أن يقولوا لهما إن هذا الأمر غير مقبول ويخالف عاداتهم وتقاليدهم. لكن لارا تخطّت هذه الصعوبات "عبر حوارات طويلة وأحاديث مع أهلي وصلت إلى قبولهم لقاء حبيبي، وعلى هذا الأساس يقرران".
بعدما تعرّف الوالدان على إيلي، "اقتنعا بأن قراري صائب وناجم ليس عن حب فقط، بل أيضاً عن نضج وتفاهم واتفاق". في المقابل، لا يزال العديد من أفراد العائلة الموسعة "لم يتقبلوا حتى اليوم هذا الزواج، مثل جدتي" تقول لارا.
تعتقد لارا أنه كلّما زادت الزيجات المختلطة بين الطوائف في لبنان كلّما جرى تخطّي حاجز "البعبع" الطائفي، لأن التقرّب من الآخر يكسر الكثير من الحواجز ويكشف أن أغلب الأفكار النمطية المسبقة المأخوذة عن الطوائف الأخرى هي أفكار غير صحيحة.
تقول: "التقرّب يجعلنا على دراية أكبر بالخلفيات الاجتماعية للناس، هنالك الكثير من النقاط المشتركة بين الطوائف في لبنان، أكثر من نقاط الاختلاف، وهذا ما لاحظتُه بعد زواجي إذ أصبحَت عائلتي وعائلة إيلي كأنهما عائلة واحدة لا يفرّق بينهما شيء".
وكأي شخص في لبنان يختار "الاختلاط"، يتعرّض لارا وإيلي لأسئلة "كليشيه"، من نوع: "أي أعياد بتعيّدو؟".
بالنسبة إلى لارا، الاختلاط هو مصدر "غنى لنا ومناسبة لنحتفل أكثر مع العائلة. وتضيف: "يُفرحني أن يطلّع أولادي على دينين مختلفين وأن يكون لديهم الوعي الكافي بأن الدين هو علاقة عمودية بين الفرد وربّه وليس علاقة أفقية بين الفرد والمجتمع وأحكامه."
قبل أن تغيّر الوزارة رأيها
تزوجت فاطمة هاشم من جان نمير عام 2013، على الأراضي اللبنانية، وهما مهندسان معماريان يعيشان في لبنان وقررا خوض معركة الحريات عبر شطب القيد الطائفي عن سجلات نفوسهما، وعقدا زواجاً مدنياً في لبنان عام 2013، وكان العقد المدني الأخير الذي تعترف به الدولة اللبنانية، قبل تصريح المشنوق: "قبرص مش بعيدة".
ذهبَت فاطمة وجان إلى المختار الذي أعطاهما ورقة تفيد بأنهما يريدان شطب القيد الطائفي، ثم توجّها إلى دائرة النفوس لتنفيذ هذا الإجراء. تقول فاطمة لرصيف22 إنه نظراً لغياب القانون المدني في لبنان عادا إلى القانون الفرنسي الذي يقتضي أن يعلنا زواجهما قبل عقده من خلال تعليقه في مكان العمل أو المنزل لمدة 15 يوماً. وبعد الانتهاء من الإجراءات الشكلية عقدا زواجهما عند كاتب العدل.
لم تتقبل عائلة فاطمة ولا عائلة جان أن يتزوج أحدهما من خارج طائفته، لكنهما خاضا هذه المعركة حتى النهاية. تقول فاطمة إن أمّها "كانت تصلّي وتسأل الله ماذا فعلت حتى أقرر أنا ابنتها الزواج من مسيحي، وكذلك والدة جان كانت تذهب للكنيسة وتطلب المغفرة".
لا تشبه قصص الحب بين أشخاص من طوائف مختلفة قصص الحبّ العادية، ليس لأنها قصص بين أشخاص يهمشّهم القانون ولا يتقبّلها المجتمع الطائفي، إنّما لأن هذه العلاقات تُحارَب وتواجِه محاولات لعرقلتها بكل الوسائل الممكنة، حتى يشعر الشخص بأنّه في حالة حرب من أجل تحقيق خياره الفردي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...