شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"البشر يخافون دائماً مما لا يفهمونه"... قمع ممنهج للكويريين في لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

“People Fear What They Don’t Understand”... The Systematic Repression of Queer People in Lebanon

ما معنى أن نوجد في الفضاء العام والخاص بأفكارنا وميولنا وتعابيرنا الحرة، دون أن يجبرنا المجتمع وقوانينه على اتّباع أنماط معيارية في الوجود الجنساني؟، تساءلَت زهراء، صديقتي، في محادثة خاصة بيننا، مضيفة: لو لم يجبرنا المجتمع على كل هذا، هل كنّا ربّما سنعرف معنى الحب فعلاً، معنى أن نحب بحرية؟ هل كنّا سنستطيع الوجود بذواتنا الكاملة؟ منذ ذلك الوقت، يلاحقني سؤالها، ويحتل حيّزاً كبيراً من تفكيري.

أشخاص كثيرون يجدون أنفسهم على هامش المجتمع، لأن أداءهم الجندري وميولهم الجنسية ليست نمطية. قصصهم تدفعنا إلى التفكّر في أوجه القمع التي يتعرضون لها، وفي ارتباطها بمستويات عدّة من الوجود ضمن مختلف المؤسسات، كمؤسسة الزواج والعائلة والمؤسسة الطبية.

لا تقتصر آثار هذا القمع على الحيوات الفردية فقط، بل تتعدّاها لتطال تكوين الهوية الوطنية لإقليم معيّن. في هذا التقرير سنستعرض القمع الممنهج الذي يتعرّض له الأشخاص ذوو وذوات الميول الجنسية والجندر غير النمطيين في لبنان.

لطالما ظهر لبنان بصورة تقدّمية. مشهد تنظيم مجتمع الميم أحداثاً علنية واحتفالية في العاصمة بيروت، وبوتيرة عالية، يخدع بسهولة وينتج وهماً بأن الأشخاص غير النمطيين بإمكانهم/ن عيش حياة خالية من الهموم. ولكن في الواقع، هذا البلد، مثله مثل غيره، ورغم ظهورية الأشخاص الكويريين في وسائل الإعلام، لا يشكل لبنان ملاذاً آمناً لهم طالما بقي الانضباط الجندري[1] وحتمية الغيرية الجنسية هو ما يحكم اللعبة، بدعم من القوانين.

ورث لبنان نظامه القانوني عن الانتداب الفرنسي، وإلى اليوم تُستخدم العديد من المواد الموروثة لمعاقبة أفراد مجتمع الميم عين في لبنان وملاحقتهم قانونياً. أشهر هذه المواد المادة 534 من قانون العقوبات، والتي تقضي بسجن مَن يمارس الجنس "على خلاف الطبيعة" لمدة تصل إلى سنة، أي أنها تدعم فكرة وجود جنس سوي وجنس غير سوي.

تضاف إلى المادة 534 مواد عديدة تتحدث عن "مخالفة الأخلاق والآداب العامة"، بالإضافة إلى مواد متعلقة بـ"التحريض على الفجور ومخالفة الآداب العامة". المشترك بين جميع هذه المواد أنها مطاطة، وتستخدم معياراً نسبياً بطبيعته وهو "الأخلاق". وإذا تمعّنا في الطريقة التي يخدم فيها التجريم مصالح السلطة، عندها قد يُفَكّ الغموض قليلاً عن المعايير التي يستند عليها التجريم والتقنين.

لا يمارَس التهميش الممنهج للأشخاص الكويريات/ين في لبنان حصراً من خلال تجريم المثلية وعدم الانضباط الجندري فقط، بل من خلال تعييب وتجريم ومعاقبة طرق وجود وحياة الأفراد خارج الحدود التي يرسمها المجتمع والدولة، أي خارج الصورة النمطية المتوقعة منهم. أكثر من ذلك، فهم يتعرضون لصعوبات في الوصول إلى خدمات اعتيادية، من المفترض أنها متاحة للجميع:



هويات مركّبة ومعارك مختلفة

ليس من السهل تلخيص الانتهاكات التي يتعرض لها الأشخاص الكويريون. وليس من العادل ربطها بالممارسات الجنسية أو التعبير اللانمطي فقط، ذلك أن أنواع الاضطهاد معقدة: قد تحصل من طرف القوانين والمؤسسات، في المجتمع والعلاقات، وفي مختلف المساحات. وفي غياب البيئة الحاضنة، يصبح احتضان الأشخاص الكويريين/ات أنفسهم/ن مهمّة أساسيّة. وتختلف تجاربهم في العلاقة بالأداء الجندري أو الميل الجنسي أو انعدامه تماماً.

هنالك أسطورة تقول إن الإنسان كائن جنسي بطبعه. هذه المقولة لا تعبّر عن تجربة الجميع.

آنّا* في أوائل الثلاثينات من عمرها، وتقطن في قضاء المتن، شمال شرق بيروت. رغم دراستها المسرح، تجيب عن سؤال عمّا إذا كانت تسعى إلى إيجاد وظيفة في مجال التمثيل بأنها لا تحلم بالوظائف في عالم رأسمالي، بل بعالم تعمّه الرعاية المجتمعية.

تشرح آنّا أن حجم الجنس في حياتها صغير أو حتى منعدم، إذ أن ميولها الجنسية رمادية. اكتشفت آنّا المفردة المناسبة لتوصيف جنسانيتها بعد بحث طويل، فالمجتمع أشبعها بالتوقعات ليس عن حتمية الرغبة فقط، بل وعن حتمية الغيرية الجنسية. لم تستجب خبرتها هذه التوقعات: هي ليست غيرية الميول، وميولها لا جنسية.

تقول لرصيف22: "كنت أظنّ أنني لا جنسية، ولكنّي في مكان مرن في شعوري أحياناً بالانجذاب الجنسي وأحياناً أخرى بالابتعاد التام عن الجنس. والأمر كذلك بالنسبة إلى جندر الأشخاص الذين أنجذب إليهم. ظننت في الأول أنني غيرية الميول الجنسية، ثم مزدوجتها، ثم أنني مثلية، ثم ظننت أنني مزدوجة الميول الجنسية مجدداً. هناك فترات أشعر فيها بأنني منجذبة لجندر واحد فقط، وفترات لا أعرف فيها حتى معنى الانجذاب نفسه".

خافت آنّا في البداية مما قد يعنيه الموضوع بالنسبة إلى مستقبلها. "دائماً ما اعتبرتُ نفسي مساندة حليفة لمجتمع الميم، ثم اكتشفت أنني جزء من هذا المجتمع، لا حليفته فقط".

هكذا، غيّرت آنّا المفردات التي كانت تستخدمها في علاقتها بميولها الجنسية دورياً، ولم يكن ذلك لوجودها "في الخزانة" كشخص كويري، بل لأن رحلة البحث عن كلمات تعبّر عنها أخذت متسعاً من الوقت.

لطالما ظهر لبنان بصورة تقدّمية. مشهد تنظيم مجتمع الميم أحداثاً علنية واحتفالية في العاصمة بيروت، وبوتيرة عالية، يخدع بسهولة وينتج وهماً بأن الأشخاص غير النمطيين بإمكانهم/ن عيش حياة خالية من الهموم. ولكن في الواقع، هذا البلد، مثله مثل غيره...

رآم كذلك، لم تكن تنوي إخفاء ميولها الجنسية، ولكنها اعتبرت نفسها امرأة غيرية الميول لأن البيئة التي انتمت إليها لم تحتضن نساء كويريات، رغم أن هويتها لم تكن واضحة المعالم لها بعد. "لا أعني أنني لم أكن على علم بوجود مثليين، فقد كان لديّ أصدقاء شباب مثليون وآخرون ذوو آداء جندري أنثوي واتّضح في ما بعد أنهن نساء عابرات. ولكن الوجود المثلي والكويري للنساء لم يكن بهذا الوضوح"، تقول لرصيف22.

رآم في الـ26 من عمرها. تشبه ممثلة هوليوودية. انتقلت من مدينتها إلى بيروت وتطوّعت مع جمعية "حلم"، وهي جمعية تعمل على تحقيق العدالة والمساواة لأصحاب الميول الجنسية غير النمطية، وبذلك ألمّت أكثر بأمور الجنسانية وشعرت بحرية أكبر في كنف مجتمعات مشابهة. هي اليوم تعمل في مجال الصحة النفسية وتدعم الكثيرين والكثيرات في أحلك أيام الحياة.

أما نغم، (37 عاماً)، فمحدودية حريتها مرتبطة بالكثير من الأشياء: هي مشغولة طوال الوقت. فهي تعمل بدوام كامل وتَدرُس بدوام كامل، وتهتم بعائلتها بدوام كامل أيضاً. هي عالية التحصيل العلمي، ولكن فضولها الدائم جعلها في رحلة بحث واكتشاف دائمة. ورغم عملها في مجال اختصاصها العلمي، فهي لا تزال تدرس لكي يكبر عالمها أكثر.

لطالما عرفت نغم أنها كويرية. تقول لرصيف22: "لم تكن الجنسانية جزءاً من حياتي في سن المراهقة ولم تكن لدي تجارب إلى أن صرت امرأة شابة. وعندما صارت الجنسانية جزءاً من حياتي، عرفت أنها غير نمطية. لم أخفِ انجذابي إلى النساء والرجال حتى عندما كنت مع الشاب الأول الذي أحببته وواعدته أيام الجامعة. لم يكن للموضوع حجم كبير".

على عكس ذلك، كان للكويرية حجم كبير في حياة زوزو. هو في الـ23، غير منضبط إلى الجندر المعيّن له لدى الولادة، ويفضّل الضمير المذكر على المؤنث رغم استخدامه لكليهما. لا يزال زوزو طالباً ويكره ذلك. غير أنه يكره العمل بدوام كامل أيضاً. يمزح ويقول لرصيف22: "قد ينتهي الأمر بي إلى فتح ورشة نجارة حيث سأقوم بصنع أشياء بشعة للغاية، ولكن الأصدقاء سيساندونني ويشترون البعض منها".

ورغم أنه شخص محبوب من طرف أصدقائه اليوم، كان العثور على هؤلاء الأصدقاء مهمة شاقة. درس زوزو في مدرسة الراهبات إلى سن الـ13، حيث كان الجو العام محافظاً ولم تحب الراهبات لمس الأيادي والعناق الذي قد يحصل بين التلاميذ، باعتباره ميوعة. ثم انتقل إلى مدرسة علمانية حيث كان التلاميذ يتعاملون مع بعض بطريقة فيها أريحية أكبر. لم يكن يعرف ما فقده في تجربته الدراسية الأولى، ولكن إحساساً جديداً طغى عليه لدى عناق زميلة.

"حرّك فيّ الأمر شعوراً جديداً حتى أنني ذكرته لصديقتين، حين سألتهما إنْ كانتا تشعران بإحساس غريب في المعدة متى عانقتا فتاة. أظن تلك هي المرة الأولى التي شعرت فيها بالعار، حين أجابتني إحداهما ذلك غريب، لا تذكري الموضوع مجدداً. شعرت بالحزن والخوف. منذ تلك اللحظة، صرت أتّبع نمط معاداة المثلية، باعتبار أن المثليين مقرفون. حتى حين كنت أشاهد البورنوغرافيا، كنت أغلق الحاسوب متى ظهر لي فجأة فيلم بين امرأتين"، يروي.

خاض زوزو تساؤلات أخرى كذلك لا عن جنسانيته بل عن أدائه الجندري، إذ يرتاح أكثر في الأداء المذكر. آنّا أيضاً خاضت تساؤلات عن مدى انضباط جندرها. استنتجت أخيراً أن جندرها، تماماً مثل جنسانيتها، مَرِنٌ: "أشعر أحياناً بأنني غير ثنائية، ومرات أشعر بأنني غير مرتبطة بجندر معين، وأشعر بالانزعاج في جسدي إذا خاطبني أحد على أساس أنني امرأة أو فتاة".

في تجربة آنّا وزوزو، كان التعبير والأداء الجندري مرناً ومتغيّراً، قد تتغير معه الضمائر المستعملة في التأنيث والتذكير. ولكن الهوية الجندرية قد تكون عميقة ومتجذرة للعديد من العابرات والعابرين، ما يجعل التوجه إليهم أو عنهم بالحديث بالضمير الخطأ، أمراً عنيفاً، ذلك أن الاعتراف بهويتهم الجندرية المختلفة عن تلك المعيّنة لدى الولادة مسألة وجود أساسية.



ناي (31 عاماً) مثلاً، هي امرأة عابرة. تقول إنها في طفولتها كانت تكره الباذنجان وكل مشتقاته. ولمّا كبرت، تغيّر شعورها وصارت المقلوبة أكلتها المفضلة. هكذا، تتغير ناي مع الوقت، لكن شيئاً واحداً فيها ثابت لا يتغير: جندرها. لطالما عرفت ناي أنها فتاة منذ نعومة أظافرها.

تقول لرصيف22: "لطالما عرفت باختلافي عن النمط الجندري المتوقع منّي. وكنت أشعر بالوحدة، إلى أن قرأت في مجلة عن تعريفات مختلفة للهوية الجندرية، أبعد من مجرد ثنائية الذكر والأنثى. وجدت تعاريف مختلفة مثل مثلية، بينجنسية، امرأة عابرة. قرأت الأخير وفكرت أن هذه هي أنا".

كانت ناي في الـ18 حين صارت لها كلمة تستطيع امتلاكها وتعريف نفسها من خلالها، وهي "امرأة عابرة". أكملَت بحثها على الإنترنت لتجد مكاناً تستطيع فيه الحضور بذاتها الكاملة، ووجدت مساحة كويرية للنساء في بيروت، خارج المنظمات غير الحكومية التي كان يسيطر عليها المثليون من الرجال في ذلك الوقت. صارت لها هذه المجموعة مساحة آمنة ومجتمعاً صغيراً يبعدها عن العزلة المفروضة عليها من المجتمع.

لكن المجتمع لا يقبل الاختلاف عن النمط

حددت التراكمات التاريخية التي دفعت بناس عديدين إلى هامش المجتمع، شكلاً وحيداً اعتبرَته المجتمعات حقيقياً للميول الجنسية والأداء الجندري. ووضعت المجتمعات كل وزنها في إعادة إنتاج هذا النمط: حتمية الغيرية الجنسية والانضباط الجندري.

منذ الولادة، وحتى قبلها، نتمرن على أن نكون رجالاً ونساء مغايرين جنسياً. فلكل طفل كرة، ولكل طفلة دمية، ولكل عريس عروس، وإنْ لم تتزوجي فأنتِ عانس وليست هناك إمكانيات عديدة أخرى، إلا تلك التي تجعل حياةً هي بالأصل صعبة، أكثر صعوبة.

"لم أكن أفهم لماذا يتحدث الجميع عن الـ‘كراش’ (Crush). بدا أن الجميع لديهم ‘كراش’ سواي، ولم يصدقوني وكذّبوني إلى درجة أنني حاولت إقناع نفسي بأن هناك مَن يعجبني فقط لكي أشعر أنني مثل الآخرين"

نغم أدركت أنه، مع السنين، صار الحجم الذي تحتله جنسانيتها أكبر في ما تستطيع إتيانه وفي ما يصعب عليها كامرأة كويرية، ذلك أنها بدأت تنتبه إلى الأشياء التي أجبرها عليها المجتمع، بما في ذلك لمَن يجب أن تنجذب وكيف يجب أن تكون ويكون نمط حياتها.

"كَبُر الحجم الذي تأخذه الجنسانية في حياتي ولكن ذلك لم يُشعرني بالقلق أو الخوف، ليس لأن الأمر سهل أو خالٍ منهما، على العكس، فإن هذا المجتمع لا يعتبر وجودي برمته مشروعاً، إنْ كنت عزباء أو في علاقة غيرية أو غير نمطية".

ورغم أن نغم تزوجت عن حبّ، إلا أن زواجها كان أيضاً مخرجاً من الصعوبات المفروضة عليها من طرف الأهل. تقول: "لم تكن هناك العديد من الحلول: إمّا كنت سأقتلهم، أو أقتل نفسي، أو سأتزوج. فتزوجت".

خيار دخول مؤسسة الزواج سجالي لدى الكثيرات والكثيرين، بغض النظر عن جنسانياتهم، ولكن الدولة والعائلة تجعله في كثير من الأحيان لازماً، تجعله فرضاً. لبّت نغم نداء الواجب هذا، وتزوجت حبيبها، وهو لبناني مثلها وغيري الميول الجنسية. ومع ذلك، لا تزال تختبر مستويات عديدة من القمع كامرأة في لبنان، إذ أن امتثالها لمتطلبات المجتمع لم ينقذها. "لذلك ليست لديّ الرغبة بإعلان كويريتي في المجال العام أو أن أكون فرجة لعين الناظرين"، تقول.

مثلها، لا ترغب آنّا بالظهورية. ذات مرة، كانت تقبّل فتاة في مكان من الشارع لا يظهر للعيان، وكانت خائفة لا من العنف الجسدي فقط، في حال انتبه لهما أحد، ولكن حتى من فضول الغرباء: "يشعر الكثيرون من الناس إما بأن المثلية بين النساء شيء مثير جنسياً أو بأنه أمر غير حقيقي، ولذلك لا أشعر بالأمان في المساحات العامة".

والحال أن النساء الكويريات تُعامَلنَ كأدوات استثارة لنظرة التحديق الذكورية. والأمر معقد بشكل إضافي بالنسبة إلى آنّا، لا فقط حيال ردات فعل الناس على ظهورها في علاقات مع نساء، بل كذلك تجاه شكلها غير النمطي للجندر المعيّن لها لدى الولادة: "كلما كان شعري أقصر، كلما ساء الأمر، خاصة خارج بيروت. أحياناً، ينظر إليّ الناس بكمية رهيبة من الكراهية، كأنني قتلت جدتهم الحبيبة، وكان الأمر يربكني. ينظرون إليّ بطريقة وقحة دون إبعاد نظرهم، والبعض يأتي ليسألني ما مشكلتي ولماذا اخترت قصة الشعر هذه؟ هل أنا مصابة بالسرطان أم هل أنا أحاول باستماتة جلب الانتباه بطريقة غريبة. عندها، لا أشعر بالأمان".

منذ الولادة، وحتى قبلها، نتمرن على أن نكون رجالاً ونساء مغايرين جنسياً. فلكل طفل كرة، ولكل طفلة دمية، ولكل عريس عروس، وإنْ لم تتزوجي فأنتِ عانس وليست هناك إمكانيات عديدة أخرى، إلا تلك التي تجعل حياةً هي بالأصل صعبة، أكثر صعوبة

يعاني بعض الأشخاص الكويريين من المضايقة والتنمّر المجتمعي. يذكر زوزو يوم كان ينتظر دوره في الأمن العام وظلت امرأة تحدّق في "تاتو" (وشم) على ساقه. بعد أن نظر إليها مستغرباً، عبّرت عن إعجابها بالرسمة. شعر زوزو بالارتياح وشاركها معلومة أن لديه وردة ثانية. بدا صوته من وراء الكمامة أكثر عمقاً. فقالت له الغريبة إن الوردة جميلة ولكن عليه التخلّي عن حلقة الأذن لكي لا يظن الناس أنه فتاة.

"فكّرتُ أنها ربما شعرَت بأنني أريد أن يُقرأ جندري على أنه مذكر فأدلت بالنصح. ولكن الأحرى أنها ظنتني شاباً متشبهاً بالنساء. أظن أن جزءاً من الشعور بالأمان يعتمد على طريقة قراءة المجتمع لي: هل يعتبرونني شاباً مثلياً؟ أو فتاة مسترجلة؟ بالنسبة إلى هذه المرأة تحديداً، لم يكن الأمر خطيراً، ولكن إنْ قامت الشرطة مثلاً بجندرتي كشاب، ثم اتّضح لهم أن أوراقي الثبوتية لأنثى، سيتحوّل الأمر إلى العنف، لأنهم ربما سيشعرون بالخديعة"، يقول زوزو.

بين ظهورية منبوذة وأخرى فيتيشية، وبين محو ممنهج للوجود الكويري في المساحات العامة، تضيع الكثير من الإمكانيات الثورية. هذه الإمكانيات ترتبط بمَن سنكون وما ستكونه مجتمعاتنا، لو لم نعاقب على الوجود غير النمطي.

حب العائلة اللامشروط، مشروط؟

يأخذ القلق من ردات فعل الوالدين والعائلة حيّزاً كبيراً من تخوفات الأشخاص ذوي الميول الجنسية والأداءات الجندرية غير النمطية: سواء من ناحية خسارة الأهل والسند العاطفي، أو الخسارات المادية كأن يتم إنكار الشخص أو حرمانه من الإرث أو إلغاؤه من العائلة.

أحياناً، يواجه الأفراد تهديداً بالأذى الجسدي، ذلك دون ذكر الأذى النفسي المتعلق بالإذلال والمسؤولية التي يشعر بها كثيرون في أنهم خذلوا أهاليهم، أو أضافوا لهم أعباء جديدة بمجرد الوجود. أم زوزو امرأة خمسينية من إحدى البلدات ذات الأغلبية المسيحية الواقعة جنوب لبنان، وتمتلك تحصيلاً علمياً ورصيداً ثورياً ومواهبَ فنية. كانت ترقص في فرقة رقص استعراضي في شبابها. كانت قدوة لزوزو في كل ذلك، في كونها امرأة محيطة بكل شيء من العلم والفن والنضال.

أم زوزو كذلك تخاف على مصير ابنها، ورغم كونهما لا يتحدثان عن موضوع ميول زوزو وجندره بطريقة مباشرة، يعرف زوزو أنها تعتبر هويته جلّابة للمشاكل. في المرات القليلة التي ذكرت تخوفاتها له، كانت تخبره قصة رجل مثلي أوروبي كان جارها في البناية، وكان له شركاء عديدون، وذات يوم، طعنه أحدهم. يبدو أن الوالدة رأت القاتل خارجاً من البناية. يظن زوزو أن جزءاً من هذه القصة خيالي، "ولكن العبرة هي أنها تحاول إخباري بخوفها أن أحداً ما سيقوم بإيذائي".



حاولت آنّا كذلك البوح لوالديها بجنسانيتها. قيّمت الوضع بسؤال أبيها أسئلة نظرية على سبيل: "لو قلت لكَ أنني لست غيرية، كيف ستكون ردة فعلك؟" وكان والدها يجيب: "طبعاً سأظل أحبك، ولكنك لست مثلية، أليس كذلك؟". كانت آنّا تشعر بالذنب من الرعب الذي يحسه والدها وتجيب: "طبعاً طبعاً".

فارَقَ والد آنّا الحياة، ودخلت في فترة اكتئاب عميق. كانت مكسورة القلب مرتين، على فراق والدها وفراق شخص أحبته. شعرت أن المساحات ضاقت عليها وأنها لن تستطيع العثور مجدداً على أشخاص يحبونها كما هي. أخيراً، قامت بالبوح بميولها الجنسية لأمها، ولكن ذلك كان جراء الاكتئاب والأفكار الانتحارية التي صارعتها. فكرت أن الأمر لا يهم في النهاية إنْ كانت ستنتحر. لحسن الحظ، وهو ما فاجأ آنّا، تجاوبت أمها مع الموضوع بطريقة بسيطة: "لا يهم. أمورك الشخصية هي أمور شخصية"، ولم تعد إلى تداول الحديث عن الأمر وتجاهلته.

تظن آنّا أن أمها لم ترد أن تزيد من معاناتها ولذلك لم تعد إلى الموضوع. في تلك الفترة، لم تتمكن آنّا من الحصول على رعاية صحة نفسية ملائمة: فهي دائماً ما تخاف من مدى تقبل المعالج لكويريتها، فهي جزء منها وبالتالي جزء مما تمرّ به من صعوبات تؤثر على صحتها النفسية، دون أن تكون سبب المشاكل نفسها.

نظراً للتكلفة الباهضة للمعالجين النفسيين والموارد المحدودة والقصص المرعبة التي تُتداول بين الأشخاص الكويريين عن تجارب شنيعة مليئة بالتعييب والتحليل النفسي المتكبر على تجاربهم الشخصية، لا تملك أنّا رفاهية البحث والفشل، ناهيك عن كون المتاعب النفسية أموراً مستعجلة تتطلب أخصائياً موثوقاً. ولا سبيل إلى العثور على ذلك دون نظام إحالة للتأكد من أنه لن يقوم بتطبيب هويتها وميولاتها، وهذا قلق إضافي تواجهه متى تبحث عن منافذ الحرية والراحة.

كثيرون وكثيرات غيرها، خصوصاً على أطياف العبور المختلفة، يذكرون تجارب سلبية مع المعالجين النفسيين، من الاستخفاف بمشاغل تبدو لهم سطحية في علاقة بالشكل الخارجي إلى افتراض أن هويتهم هي رد فعل على أولياء متعصبين أو تجارب عنف أو تحرش.

ليست الإشكالية في استحالة أن تكون جنسانياتنا قراراً تثمره تجاربنا، بل الإشكال هو في نزعة تطبيبها رغم أنف طالب/ة الاستشارة. قد تكون هذه التجربة شبيهة نوعاً ما بتجارب النساء مع الوزن الزائد: إنْ ذهبن إلى طبيب العيون أو الحنجرة أو أي معالج، لن يتوانى عن إخبارهنّ بأن عليهنّ تخفيض وزنهنّ. والأمر سيان، لو ذهب أشخاص كويريون إلى معالج نفسي بسبب صدمة أو انفجار أو اكتئاب أو نوبات هلع، من المستحيل أن يدع الكويرية جانباً دون أن يحاول تطبيبها.

العالَم لم يفصَّل على مقاس العلاقات العاطفية

لم تجد الكثيرات/ون الاحتضان حتى في مجتمعات الميم عين الصغيرة. توجد صعوبات مختلفة على اختلاف الهويات والميولات، تعقّد التجارب العاطفية. زوزو، مثلاً، تخوّف مما إذا كان تعريفه عن نفسه من خلال جندر مختلف عائقاً أمام علاقاته العاطفية. "هل سأفقد مَن أحب أو أعجب بهنّ لأنهن لن ينجذبن إليّ؟"، يقول. هذا علاوة على الخوف من خسارة مكانه في مجتمع كان يعتبر نفسه جزءاً منه: لقد تم تعريفه اجتماعياً كامرأة، وهو يعيش قانونياً القمع المتعلق بالنساء في لبنان. وعليه، لا تُحصر تخوفات زوزو بفقدان الأفراد، حبيباته، بل بفقدان مجتمع بأسره يشاركه بعض أنواع القمع.

أما آنّا، فقد اتُّهمت بالكذب منذ الطفولة والمراهقة متى قالت إنها لا تشعر بالانجذاب: "لم أكن أفهم لماذا يتحدث الجميع عن الـ‘كراش’ (Crush). بدا أن الجميع لديهم ‘كراش’ سواي، ولم يصدقوني وكذّبوني إلى درجة أنني حاولت إقناع نفسي بأن هناك مَن يعجبني فقط لكي أشعر أنني مثل الآخرين".

ورغم أنها راشدة اليوم، ولم يعد الأتراب قادرين على إلغاء هويتها، فإن البوح بجنسانيتها ليس سهلاً لمَن تواعدهم. كيف لها أن تذهب إلى موعد رومانسي مع شخص ما وتخبره بأنها ربما لن تنجذب إليه/ا أبداً؟".

إذا أردنا أن نضع الإصبع على مصدر الاضطهاد الممنهج ضد أشخاص من مجتمع الميم عين، سنرى أن إنتاج "الدولة" وإنتاج "الشعب" مسبب رئيسي للقمع الممنهج للممارسات التي تتحدى النظام، الممارسات الخارجة عمّا تريده الحكومة لضبط هويتها الوطنية

قد تذهب آنّا في موعد لأنها تشعر بالفضول، أو لأنها ترغب بالتعرف أكثر على شخص بشكل أكبر وتستمتع بحديثه وصحبته. هي تريد "شريكاً/ة" في معترك الحياة قبل أن تريد "حبيباً/ة". بالنسبة إليها، علاقة الصداقة سابقة لأي انجذاب، عاطفياً كان أم جنسياً، وهذا الأمر يعقّد صداقاتها.

يبدو "كليشيه" الحب من أول نظرة أسطورة في نظرها، فهي تحتاج إلى التعرّف على الشخص والتعلق به من ثم الإعجاب به من ثم الحب، وهي رحلة طويلة. ذلك مأزق: إنْ أغرمت بأصدقائها أو صديقاتها، قد تخسر الصداقة، وإنْ تعرفت على شخص جديد بهدف الإعجاب المستقبلي، قد لا يحصل ذلك أبداً.

تقول: "اليوم، لا نجد أشخاصاً مهتمين باستثمار ذلك الوقت في بناء علاقات لا يعرفون مستقبلها، ومن الصعب أن يقبلوا فكرة أن شركاءهم غير منجذبين إليهم". تجد آنّا أن العمليات المرتبطة بالمواعدة لا تشملها، وإنْ كانت ضمن مجتمعات كويرية. قد نراها تشارك بالحديث وتضحك مع رفاقها، ولكن التجارب العاطفية والجنسية والكويرية لا تجمعها بهم.

نغم التي تزوجت حبيبها التزاماً بقواعد المجتمع، قدرت على تحدي هذه القواعد قليلاً من خلال علاقتها مع زوجها. كانت علاقتهما مفتوحة قبل الزواج ضمن قواعد اتفقا عليها، وبقيت مفتوحة بعده. كان من شأن هذا الزواج اللانمطي أن يمنح نغم فرص المواعدة، خاصة أن تجاربها كانت محدودة، نظراً لأنها لم تهتم بذلك إلى سن متقدم نسبياً.

ولكن ذلك لم يغنِها بالتجارب: "حاولتُ المواعدة قليلاً، بما فيها مواعدة نساء. ولم يكن الموضوع ناجحاً، ربما لأنني صفقة غير رابحة أو منحوسة، كوني امرأة متزوجة وأم ومحجبة. أو ربما لم يكن ذلك ما يدور في ذهن النساء اللواتي واعدتهن، بل ما يدور في ذهني".

ما يدور في ذهن نغم ليس بغريب والراجح أنه يدور في أذهان مَن تحاول مواعدتهن/م. ليست نغم أمّاً فقط، بل هي أم لطفلين، والعالم سريع الحكم على الأمهات، ويفترض ألا تكون لهنّ مهامّ ثانية غير الأمومة، وألا تكون لهنّ حيوات جنسية، وإنْ كانت موجودة، يجب تكون محدودة بما يسمّى بـ"الواجبات الزوجية"، أي أن تكون ضمن مؤسسة الزواج وأن تمارَس على مضض، واجباً لا رغبة.

قد يكون حجابها أيضاً عامل مفاجأة نظراً للحكم السريع عليه أيضاً. ونغم في غنى عن كل هذه الأحكام وثقلها عليها. كما أنها مشغولة بتوسيع عالمها، ولن تنغّص ذلك بضيق أفكار الآخرين.

مؤسسة الزواج... والإنجاب

قد يكون من الغريب وجود هذا الجزء عن الزواج والإنجاب في إطار الكويرية، نظراً إلى أن القوانين الوضعية والشرعية تعدم تقريباً إمكانياته للأشخاص غير نمطيي الجندر والجنسانية. فالدولة تقرر مَن له الحق في أن يحب ويتزوج وينجب. والدولة لا تضع في سبيل ذلك قوانين مجرّمة للمثلية فقط، بل أيضاً كل القوانين الأخرى التي تصب في إعادة إنتاج نفس التركيبة الديموغرافية الوطنية الطائفية للبلد، من خلال منع الزواج المدني، منع النساء من منح الجنسية، تجريم الإجهاض، وغيره من أنواع القمع.

جوي فتاة محبوبة جداً، عائلتها متناغمة ومتفقة، بل وسعيدة. ولولا كويرية جوي، لكان العالم كله متاحاً لها مع كل هذا الحب والدعم العائلي. منذ ثلاث سنوات تقريباً، كانت الشابة الثلاثينية والمرنة في ميولها الجنسية في علاقة مع امرأة، وواجهت بعض المشاكل فأخذتا فترة راحة من العلاقة تلك. في تلك الأثناء، تعرّفت جوي على شاب وأمضيا ليلة معاً، اكتشفت من بعدها أنها حامل.



لو كانت في بلد آخر، لكانت جوي ربما فكرت بالأمومة أو ترك الحمل. ولكنها في لبنان، ولا تنوي ترك بلدها، لأنها تحبّه كثيراً. ولكن قوانين لبنان، لا تبادلها هذا الحب، لأن الحمل والإنجاب خارج إطار الزواج سيؤدي إلى مصاعب كبيرة في التسجيل الإداري للطفل، خصوصاً في غياب شخصية الأب. أما الإجهاض، فهو بدوره مجرّم.

قانون العقوبات اللبناني الموضوع عام 1943 يجرّم الإجهاض كلياً. وبدل أن يتعدّل ذلك كلياً، صدر مرسوم رئاسي عام 1969 يسمح بما سمّاه "الإجهاض العلاجي" متى كان هو السبيل الوحيد لإنقاذ حياة المرأة الحامل، أو في حال وجود تشوهات لا يمكن للجنين الحياة معها. دون ذلك، ينص القانون على أن الشخص المتلقي للإجهاض يعاقَب بمدة تتراوح بين الستة أشهر إلى الثلاث سنوات سجناً، وكذلك على سجن مقدّم هذه الخدمة الصحية.

هكذا، لا تسمح الدولة لجوي بأن يكون لها أطفال كامرأة عزباء أو امرأة في علاقة مع امرأة، كما تضع العوائق أمام الحصول على خدمة الإجهاض. تمكّنت جوي من الحصول على الخدمة، أخيراً، ما ولّد لديها شعوراً سعيداً-حزيناً. خرجت من الظرف الصعب والحمل غير المتوقع، ولكن ذلك كان تذكيراً لها بأن الدولة لا تسمح لها لا بالوجود والإنجاب إلا ضمن صيغة وحيدة لا تشبهها.



تستنكر جوي كيف يضطرها المجتمع والقوانين إلى الاستغناء عن عائلتها إنْ شاءت تكوين عائلة: "هل علينا خسارة عائلتنا، كي نبني عائلة لنا؟"، تتساءل.

يختلط التفكير بالإنجاب بالذنب لدى آنّا، خاصة بعد فقدانها والدها. هي لا تريد أطفالاً بالطريقة التي يفرضها المجتمع. تتخيل الحياة المثالية بطريقة مختلفة لا تشمل وجوداً قانونياً لها كشخص ضمن زواج. فالعلاقة المثالية بالنسبة إليها قد تتضمن شركاء متعددين أو تربية طفل مع صديق أو صديقة مقرّبة، وهذه أمور غير قانونية، لا تستطيع تصور عيشها في لبنان، لأنها ببساطة لن تكون آمنة. ولكن فكرة أنها لن تنجب تحزنها، إذ إنها الابنة الوحيدة بل أيضاً الحفيدة الوحيدة لجدها من جهة أبيها، وهو أمر سبق أن فاتحها فيه والده.  "تنتهي سلالتنا معي"، تقول.

وبالرغم من زواج نغم وإنجابها طفلين، فهي لم تسلم من المصاعب ولم تلبِّ كل التوقعات المنتظرة منها: "لقد قررنا الانفصال، أنا وزوجي".

مثل أزواج كثر، وصلت نغم إلى مفترق طرق مع زوجها، وكان من الأنسب لهما ولعائلتهما الانفصال. ومثل كل شيء في حياتهما، انفصالهما كان حبياً. تقول نغم: "لحسن الحظ أن والد طفلي شخص طيّب. لا أتصور مدى الصعوبة التي تمر بها نساء أخريات، تُستخدم كل السبل لمنعهن من حضانة أطفالهن. ليس هناك أسهل من أن يُقال في المحكمة إن امرأة ما مثلية أو مزدوجة الميول الجنسية، لكي لا ترى أطفالها مجدداً".

بلد تُنتزع الحضانة فيه من النساء، صعب على الأمهات، الغيريات والمثليات. هو صعب على النساء، على الأمهات، على الكويريات، وعلى العابرين/ات تحديداً. هو بلد الإنجاب فيه واجب على البعض، ممنوع على آخرين، ورفاهية تُوزَّع على مقاس السلطة. بالنسبة إلى العابرين والعابرات، لا تعترف الدولة بجندرهم أو هويتهم غير المطابقة للجنس المعيّن لدى الولادة، إذا كان لديهم/ن أطفال، وإذا لم يمرّوا بعمليات توكيد الجندر الجراحية التي تمنع عنهم إمكانيات الإنجاب مستقبلاً.

هذا يعني، مثلاً، أنه لو كان لإحداهنّ/ أحدهم أطفال ومن ثم قررت/ قرر توكيد جندرها/ه والعبور، لن تسمح الدولة ولن تعترف بذلك، لأنه عندها سيكون للأطفال أمّين أو أبوين. كما أن المنظومة الإدارية السياسية والطائفية ستقع في مأزق: مَن سيعطي جنسية الأطفال وأي قيد سيتبعون وأين سيصوتون، إلخ.

ذلك يعني كذلك، أنه لو أتى رجل عابر ليس لديه أطفال ورغب بالحصول على أوراق ثبوتية تعترف بجندره، تضطره الدولة إلى القيام بعمليات من شأنها أن تمنع عنه إمكانية الإنجاب البيولوجي، مثل استئصال الرحم.

ومع كل هذا العنف الواقع على كينونة وجسد ومستقبل الأشخاص العابرين والعابرات، قد يكون الإنجاب آخر الهموم في حياة شديدة الصعوبة. "هي دوامة جميع طرقها مغلقة"، كما تقول ناي.

ورغم أن مجمل الروايات عن تخوفات الأشخاص تحوم حول البوح بالكويرية للوالدين، إلا أن البوح بها للأطفال ليس أسهل. عن إمكانية إخبار طفليها عن جنسانيتها، تقول نغم: "حالياً، أنا أقوم بدور الولي ودور المربية ودور الحامية لهما، أي أن علاقتنا علاقة إجبارية نظراً لاتكالهما عليّ لضرورات الحياة. حين يكبران، سيعتمد الأمر على العلاقة التي سنبنيها بيننا. أظن أن علاقتنا ستكون قريبة لدرجة إمكانية البوح، نظراً لأنهما يعرفانني جيداً وأنا أعرفهما جيداً ولأننا نقضي أكثر وقتنا سوية. ولكنني كذلك أتساءل كثيراً حول ما إذا كان البوح أو ظهوري العلني كامرأة كويرية سيضطرهما إلى شرح الأشياء للمجتمع. قد لا آبه أنا لهذه الأشياء ولا تعنيني آراء الناس، ولكن الأمر قد يختلف بالنسبة إليهما، ولا أريد لهما هذا الثقل". تخشى الأمّ أن يُتوارث الثقل عبر الأجيال، لأن المجتمع ليس حاضناً للاختلاف.

ترابط أوجه القمع

من المهم أن نتفكر في القيمة التي تفرضها السلطة على الجنسانية، ما تعتبره طبيعياً وتسمح به، وما تعتبره غير نمطي فتجرّمه، وتنتج من خلال ذلك المواطنة والشعب. من الأساسي أن نحلل ذلك أيضاً في علاقته بالقوميات ورسم الحدود والتحكم بأجساد النساء والأشخاص من مجتمع الميم عين والعابرات والعابرين والمهاجرين/ات واللاجئين/ات والعاملين/ات بالجنس والبدون وعديمي/ات الجنسية.

تترابط الأوجه المختلفة للقمع في الطريقة التي تريد بها الدول التحكم في مَن يحق له الحب والزواج والإنجاب والإعالة والظهور بشكل اعتيادي. إذا أردنا أن نضع الإصبع على مصدر الاضطهاد الممنهج ضد أشخاص من مجتمع الميم عين، سنرى أن إنتاج "الدولة" وإنتاج "الشعب" مسبب رئيسي للقمع الممنهج للممارسات التي تتحدى النظام، الممارسات الخارجة عمّا تريده الحكومة لضبط هويتها الوطنية.

وعليه، إن الإطار القائم فقط على التوجه الجنسي أو الهوية الجنسية فقط كأداة تحرُّر يغفل حقيقة أن تحررنا مرتبط حتماً بتحرر الجميع من قيود القمع الممنهج، الذي يصنع الشعوب على شاكلة تخدم أنظمة، كنظام الطائف ونظام الكفالة والعنصرية الممنهجة.



*كل الأسماء الواردة في هذا التقرير مستعارة، لحماية خصوصية المتحدثين.


[1] الانضباط الجندري هو كون هوية الشخص الجندرية مماثلة لتوقعات المجتمع وللجنس المعيّن له عند الولادة. مثلاً، أن يُعيّن شخص ما كـ"ذكر" وأن يكون مرتاحاً في تلك الهوية شعوراً وتصرفاً. والأشخاص غير المنضبطين جندرياً يقعون ضمن مظلة العبور التي تشمل السيولة أو المرونة الجندرية كما الجندر غير الثنائي وغيرهما.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image