شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عصفوري الصغير كان بمثابة بروفة لما سيأتي بعده من فَقد

عصفوري الصغير كان بمثابة بروفة لما سيأتي بعده من فَقد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 11 نوفمبر 202103:10 م


لا أعرف الفقد بمعناه الحقيقي، فمن رحلوا من حياتي بالموت، كلهم كانوا أكبر من أن أعدّهم صدمات ذات ضجة. كان الأمر مُتوقعاً حتى في أكثر صوره مفاجأةً.

لكن فقدي عصفوري الصغير كان بمثابة بروفة إعداد لما سيأتي بعده من فَقد.

أحياناً يكون الفقد أكبر بكثير من أي معنى مادي للكلمة. نفقد صديقاً، أو حبيباً، أو ابناً، أو حلماً. هذه أشياء فقدتها كلها، لكنني لم أتوقع أن أفقد قطعةً مني، وأن تذهب بعيداً حيث لا أستطيع أن ألمسها، وأن تصبح طيفاً عابراً لذكرى مرت، فلا يمكنني التمسك بها.

في السنوات الأخيرة، ازداد معدل الفقد في حياتي، من دون أن يكون هناك ما يعادله من مكتسبات.

في إحدى قصائدها بعنوان One Art، تتحدث الشاعرة والقاصّة الأمريكية إليزابيث بيشوب، عن فقدانها أشياء كثيرة؛ المفاتيح، وساعات قُضيت في لحظات كريهة، وأسماء، وأماكن حلمت بالسفر إليها، وساعة أمها، ومنازل سكنت فيها، بل مدينتين، وقارة بأكملها، وأخيراً؛ حبيباً (أو حبيبة حسب ما تؤكد المراجع عن حياتها العاطفية). هذا كله، تُظهر إليزابيث مدى اعتيادها إياه، ففن الفقد ليس من الصعب إتقانه، على الرغم من أنه قد يبدو كالكارثة.

وبالنسبة إلى من اعتاد العطاء، ولم يتقن بعد النفعية، والأخذ من دون منح التي تميز حال البشر في العموم، فالفقد أسلوب حياة، وملمح من ملامح مشوار طويل في السعي دون نتيجة ملموسة. وبالنسبة إلى الفنان، الفقد جزء من الوجود، والتخلي، والتنازل، ومقايضة حلم بحلم وحقيقة بحقيقة، فهذه القصة تُحذف، وهذه اللوحة تُخفى، وهذا الفيلم حبيس الأدراج، وهذه الرقصة ممنوع تداولها. قبلةٌ يمكن سرقتها في الشارع، تصبح عنواناً لصفحة على وسيلة تواصل اجتماعي، ومشهدٌ من فيلم يصبح عنواناً ساخناً لجذب الجالسين بملل أمام حواسبهم، وهواتفهم، من دون رغبة حقيقية في التواصل مع أحد غير الذات، أو في تصفح مواقع البورنو المجانية.

في كتابها عن عنايات الزيات، كتبت إيمان مرسال على لسان نادية لطفي، صديقة عنايات المقرّبة آنذاك، عن عدم قدرة عنايات على التأقلم مع الواقع، وتمسكها الزائد عن حده بمبادئ لا تتزحزح، فلا يعرف القارئ هل لأن عنايات كانت أكثر رهافةً من أقرانها، أم لأنها كانت كاتبةً وامرأة تكافح وبشدة في وسط يسمح للكتاب الذكور بالنمو والازدهار، ويحارب أعشاب النساء اللواتي يملكن من الرهافة والقوة ما لا يقوى عليه الرجال؟ أم أن حّمى التذكير والتأنيث تصيب الجميع، بمن فيهم المثقفين، فلا يُنظر إلى المثقف على كينونته، بل على جنسه؟

أحياناً يكون الفقد أكبر بكثير من أي معنى مادي للكلمة. نفقد صديقاً، أو حبيباً، أو ابناً، أو حلماً. هذه أشياء فقدتها كلها، لكنني لم أتوقع أن أفقد قطعةً مني، وأن تذهب بعيداً حيث لا أستطيع أن ألمسها، وأن تصبح طيفاً عابراً لذكرى مرت، فلا يمكنني التمسك بها

وبالعودة إلى الفقد، فحياتي سلسلة من المفقودات، وهناك باب صغير أغلقته بعد أن كان موارباً، لما "خرج ولم يعد"، من وضع اجتماعي، وحالة مادية، وأحلام مهنية، أو قصة عاطفية تبدأ في الصيف على أنغام عمرو دياب -عذراً من المثقفين الذين يمقتونه- وتنتهي مع اقتراب فصل الشتاء على أنغام فيروز، وصوتها الذي يذكّرني بالأيام الحلوة في المدرسة، وغيوم الإسكندرية، وبرد ليل القاهرة، وطعم الشوكولاتة الساخنة في مقهى تُرى الغيمة من وراء زجاجه، فيصبح الشتاء القبيح -في نظري- أجمل وأبهى.

في السنوات الأخيرة، ازداد معدل الفقد في حياتي، من دون أن يكون هناك ما يعادله من مكتسبات. قرأت في أحد الكتب أنه لتستعيض عما فقدت، يجب أن تستبدل ذكرياتك القديمة بأخرى جديدة، لن تكون لها اللذة والدهشة نفسهما، لكنها ستمثل نقاطاً مضيئة في حياتك من دون شك. فبدلاً من تلك الرحلة مع جدك لشراء حلوى، ومجلات أجنبية من محطة الرمل، يمكن احتساب ليلة في مطعم فاخر مع حبيب، أو لحظة تواصلت فيها روحك مع روح أخرى على ممشى في مدينة ساحلية بعيدة عن ضوضاء المدينة. لن تكون لفرحتك النشوة نفسها، لكنها ستصبح ذكرى جديدة "فريش"، لها طعم العصير الذي منحك إياه الساقي للتو، وليس علبة الزبادي الشهية التي اشتريتها من السوبر ماركت، وأنت لا تعلم متى ستلتهمها كلها، وقد تفسد من دون أن تمسها، لأنك نسيتها في غمار الأطعمة الأخرى التي تمتلئ بها ثلاجتك فحسب.

أصبحت أعي الفقد، وأتعامل معه بروح رياضية أكثر من السابق.

أصبحت أعي الفقد، وأتعامل معه بروح رياضية أكثر من السابق، وأحياناً يفوق الأمر الاحتمال، كأن تفقد حيواناً عزيزاً، أو يقوم شخص كنت تحترمه بحظرك على صفحات التواصل، لأن آراءكما تعارضت في موضوع جدلي سخيف، أو تفقد أحد أفراد العائلة الذي كنت تحبه بالفعل، ولا تجامله بفعل الضرورة، أو أن تجد شخصاً مؤذياً قد حقق نجاحاً غير مُستحق، أو تفقد منحةً كنت قدّمت عليها، وأردت الحصول عليها بالفعل، وليس لأنهم يفعلون هذا جميعاً؛ لكنك في نهاية الأمر، تستسلم للفقد، وتتعامل مع الاستيقاظ فجأةً لتجده وقد وطأ فراشك من دون رعب السن الصغير من كونه قد هشّم أمانك، وانتزع منك ما ليس من حقه، فتترك نفسك لموجة الفقد تغمرك، وترحل، مثل تسونامي مريع تطيح الموجة بكل ما كنت تعرفه من أمان مادي، وصديق أمين، وشخص تحبه ظننت أنه سيعيش إلى الأبد، وحيوان أليف تأنس إليه، ومقهى تحب التردد عليه، وكيان موجود في مدينتك، أو في مدينة أخرى منذ الأزل؛ كم واحداً فينا كان يتمنى زيارة متحف أو كاتدرائية كما هي، ثم استيقظ يوماً ليجدها وقد سوّيت بالتراب؟ هل يذكر أحدنا أحاديث الأقربين والأحباب عن سوريا ما قبل الدمار؟ ماذا عن لبنان؟ هل أستيقظ يوماً لأجد أستراليا التي أحلم بزيارتها مذ تعرفت إلى أستراليين شديدي اللطف عن طريق الإنترنت، وقد احترقت بالكامل من دون أن أجد وقتاً لزيارتها؟

منذ سنوات، تعرفت إلى شاعرة أمريكية تُدعى جانين كنعان، غمرتني بلطفها، ومحبتها، وأرسلت إلي كتبها خصيصاً في البريد، مع إهداء رقيق يتناسب ورهافة شخصيتها، ومضت بنا الأيام ونحن نتراسل عبر الإنترنت، ثم انشغلتُ وانشغلتْ بأعباء الحياة اليومية، حتى نشرت هذا العام كتابي الشعري الثاني بالإنكليزية، وبحثت عنها في قائمة أصدقائي لأرسل لها نسخةً، لأجدها وقد ماتت نهاية العام الماضي. فقدٌ آخر، وحفرة أخرى عميقة تصلح لإلقاء سر من أسرار الكون في حجم امرأة في السبعينات من عمرها، لن تصل أبداً إلى الثمانين.

كم واحداً فينا كان يتمنى زيارة متحف أو كاتدرائية كما هي، ثم استيقظ يوماً ليجدها وقد سوّيت بالتراب؟ هل يذكر أحدنا أحاديث الأقربين والأحباب عن سوريا ما قبل الدمار؟ ماذا عن لبنان؟ هل أستيقظ يوماً لأجد أستراليا التي أحلم بزيارتها مذ تعرفت إلى أستراليين شديدي اللطف عن طريق الإنترنت، وقد احترقت بالكامل من دون أن أجد وقتاً لزيارتها؟

في جلسة دعم نفسي، شكوت من عدم قدرتي على تخطي فقد طفل تعلقت به كثيراً، واختفى من حياتي بسبب انقطاع علاقتي بذويه، ووجدتني أضرب بكل ميكانيزمات البقاء والمقاومة عرض الحائط، وأخترع لنفسي ميكانيزماً يتعلق بكون هذا الطفل سيبقى معلّقاً في ليمبو خلقته له، يظل فيه متجمداً عند العمر الذي فارقني فيه، ولن يكبر أبداً، وحبسته في كرة خيالي البلورية كما رأيته آخر مرة، بطبقة الصوت والمرح نفسها التي لم تشبه حساسية وخزي الكبار من أن يبدوا أكثر سعادةً من اللازم. ونجحت في التأقلم مع فقده الذي ترك في قلبي حفرةً صغيرة مثل نقطة حمض الكبريتيك التي ما زالت تترك أثراً صغيراً باهتاً لحفرة تركها في جلد يدي.

في أحيان كثيرة، نجمّد فقدنا، وأحياناً أخرى نتجمّد لئلا يؤذينا بشكل أكبر، لكننا في نهاية الأمر نرضخ للمحاولة بأن على أجسادنا الترميم، وإعادة الاكتساء باللحم والجلد والشعر، لئلا يتحول الفقد إلى ورم مسخي يتوحش، فيبتلع أحلامنا وآمالنا وحاضرنا في جوفٍ وجوده كريه الرائحة، وعميق الأثر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image