أغلق خلفي باباً قصيراً يفضي إلى ممر ضيق طويل ومعتم، ينفرج في نهايته على أرض الديار، أو ساحة الدار الوسطى التي تسقفها السماء الزرقاء، وتتوسطها "بحرة" الماء الساكنة، لا يعلو صوت فوق صوت الموسيقى، وأصوات العازفين الثلاثة، وهم يتدربون على قطعة موسيقية لأدائها في الحفلة التالية التي بدأ الناس يتوافدون إليها بهدوء.
نجلس جميعاً، بعضنا على الكراسي الخشبية المتفرقة، البعض حول رخام البحرة المتوسطة والبقية على الأرض، نتحلق حول العازفين الثلاثة وهم يتظللون تحت أوراق العريشة المتدلية.
يقفز إلى ذاكرتي وجه عازف الغيتار الأشقر، فأتنبه إلى أنه لم يعد هنا اليوم. ابتلعته فوهة الحرب، التي يمكن أن نطلق عليها أسماء عديدة: الأمن، النظام، الجبهة، الهيئة، الأعداء، الجماعات المسلحة، الإرهابيون، إلخ…
لا مكان للذاكرة الجميلة في دمشق، يبدو أن كل الذكريات تنغصها يد الحرب الطويلة.
أغلق نافذة الذاكرة الغاضبة، وأُعلق فوقها شبكة للذكريات التعيسة، هناك ستبقى كل المآسي، وسأحتفظ في قلبي بذاكرة بيضاء عن دمشق.
ندخل الحانة البرتقالية في باب شرقي في دمشق القديمة. تبدو الليلة مسروقة من عمر أردت أن أحياه منذ زمن طويل ولم أستطع، أصدقاء كثر، حبيب وأغنيات جميلة.
أشعر بالدفء رغم شتاء دمشق القارس الذي انعدمت فيه وسائل التدفئة. يحيط خصري بذراعيه ونرقص كثيراً، ونشرب نخب قصة لن تطول، كلانا نعلم أن دمشق ليست لنا، وأننا لسنا لها، فهي سرعان ما ستقذفنا خارجاً إلى منافينا الثقيلة.
أسترق النظر خارج زجاج المكان الصاخب، ومن بين ساقي الفتاة التي ترقص على الطاولة، أرى العسكر، شبان في مقتبل العمر يقفون خارجاً لحماية الحاجز الأمني، يبدو أن البرد قد نخر عظامهم، ويسترقون النظر إلينا. كم بدونا سعداء في تلك اللحظة وكم بدو تعساء.
يستوقفنا في طريق العودة إلى المنزل بعد منتصف الليل حاجزٌ مباغت، يطلب من كل الشبان أن يترجلوا من سياراتهم. عند الناصية تتوقف حافلة خضراء نهمة للشبان المتخلفين عن الخدمة العسكرية. يُساقون داخلها وهم يجهشون بالبكاء كأطفال يخطفون من أحضان أمهاتهم.
لا مكان للذاكرة الجميلة في دمشق، يبدو أن كل الذكريات تنغصها يد الحرب الطويلة.
أغلق نافذة الذاكرة الغاضبة، وأُعلق فوقها شبكة للذكريات التعيسة، هناك ستبقى كل المآسي، وسأحتفظ في قلبي بذاكرة بيضاء عن دمشق.
أستيقظ على صوت قصف عنيف وقريب، لازلت أستلقي في سرير طفولتي وإلى جانِبَي ابني وابنتي الصغيرة، يفتحان عيونهما للتو إثر الضربة، أتدارك الذعر المشتعل في صدري بكلمات قليلة لا يمكن تصديقها: برق ورعد... إنها عاصفة.
تتوالى الأصوات العنيفة، ونلغي زيارة جدتي المقررة، ونمارس حياتنا "العادية" في شارع يتعرض للقصف.
لطالما ذُهلت من رغبة والدَي بخلق حياة طبيعية ضمن هذه الظروف الغريبة. فلن يثني أمي شيء عن تحضير الشاكرية: ترتدي حذاءها بثقة وتخرج تحت القصف الشديد لشراء اللبن الطازج.
أعجز عن إيقافها، وأخجل من خوفي أنا التي تزور دمشق في أوقات متباعدة، ويبدو أن ما حدث في غيابي كبير للغاية، ما يجعل القصف اليوم أمراً يمكن التعايش معه، بل وقضاء الحاجات الضرورية في ظله، كشراء اللبن على سبيل المثال.
وتقول أمي عن القذيفة التي خلّفت للتو حفرة عميقة في شارع بيتنا، إنها لا يمكن أن تكون خطيرة.
يحل الليل ويهدأ القصف الذي استهدف منطقتنا، ليجيبه القصف الأعنف وترافقه مروحيات وطائرات حربية، يبدو الصمت ثقيلاً بين كل انفجار وآخر، وأعلم جيداً أنهم هناك، على الطرف الآخر من دمشق، لا ينجون في هذه اللحظات كما نجونا نحن صباحاً.
وأفهم تفاصيل كثيرة، عن الفرق ما بين القصف الضعيف والقصف العنيف، بين موت العشرات وموت المئات. وعن الخوف المسيطر فوق مدينة يتجاهل الجميع قصفها ويستيقظون عند الصباح في دورة حياة جديدة.
أخجل من خوفي أنا التي تزور دمشق في أوقات متباعدة، ويبدو أن ما حدث في غيابي كبير للغاية، ما يجعل القصف اليوم أمراً يمكن التعايش معه، بل وقضاء الحاجات الضرورية في ظله، كشراء أمّي للبن على سبيل المثال
في دمشق، تنام أمي، وتستيقظ ضحكتي. وفيها يعشش ألمي، ويتهيأ لي أنها وحدها تمتلك شفائي، وأنني لن أكون سعيدة إلا هناك، وأتجاهل أنها أصبحت خالية، وأننا خرجنا وحلّ مكاننا فقر وجوع، عتب وألم وكثير من الخنوع
نزور جدتي في الصباح التالي.
هل أصبحت اليوم جدتي رحمها الله، صورة في بيت أمي؟
أغلق نافذة الذاكرة الغاضبة، وأعلق فوقها شبكة للذكريات التعيسة، هناك ستبقى كل المآسي، وسأحتفظ في قلبي بذاكرة بيضاء عن دمشق.
أستحضر ذكريات مدينتي، كمن يستحضر روحاً عالقة في زنزانة وهمية. أحاول حل وثاقها وتحريرها من بؤسها، لا يبدو لها وجه جميل، رغم حنوها. مفقودة هي، ومربوطة بإحكام حولي وحول صورها. أحضر السكين هذه المرة، وأقطعها قطعاً صغيرة.
تتناثر آلاف الذكريات التي أصبحت بعيدة، فأخشى أن أقترب من عمر أقول فيه إنني قضيت نصف عمري خارج دمشق، ولم تخرج مني يوماً. وأخشى أن أكون قد أصبحت متعالية عليها، وغير آبهة ببؤسها.
في دمشق، تنام أمي، وتستيقظ ضحكتي. وفيها يعشش ألمي، ويتهيأ لي أنها وحدها تمتلك شفائي، وأنني لن أكون سعيدة إلا هناك، وأتجاهل أنها أصبحت خالية، وأننا خرجنا وحلّ مكاننا فقر وجوع، عتب وألم وكثير من الخنوع.
وأعترف أنني اليوم لا أشبهها ولا أعرفها، كما لا تعرفني ولا تحبني.
وألملم ما قصصت من قطعها المنثورة، فأجمعها مجدداً في نافذة الذاكرة الغاضبة التي سأغلقها، وأعلق فوقها شبكة للذكريات التعيسة، هناك ستبقى كل المآسي، وسأحتفظ في قلبي بذاكرة بيضاء عن دمشق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...