يطرح "طارق بكاري" في روايته الأولى "نوميديا" قضية الهوية والانتماء، فالبطل الرئيسي "مراد" لقيط، تبنّته عائلة أمازيغية، واعتنت به إلى أن كبر، ورحل عن القرية التي نشأ فيها، ليتابع دراسته ويصبح كاتباً مشهوراً ينتقد التشدد الديني والأصولية وما ينتج عنهما. ولكنه رغم كل النجاح في حياته يبقى تائهاً، ويشعر بأزمة وجودية تتعلق بإدراكه أنه مشتت الانتماء.
يبدأ السرد مع عودة "مراد" إلى قريته الأمازيغية "إغرم" بعد غياب استمر أكثر من ربع قرن، إذ نصحه طبيبه النفسي بهذه الزيارة لمواجهة ذكرياته هناك والشفاء منها. وفعلاً يقوم بهذه الزيارة بعد أن يشتري فندقاً معروضاً للبيع هناك، فيستقر في أحد غرفه برفقة صديقته الفرنسية "جوليا" لتبدأ سلسلة البوح والحكي بالخروج من كهف ذاكرته، "كنت أعلم أنني أقترف بعودتي المجنونة إلى هذه القرية خطأً فادحاً، وأن هذه العودة لا بدّ أن تحرّك بسخط كل ذكرياتي الراسبة. أعود إلى إغرم مضرجاً بأوجاع جديدة، أعود لأوقظ تعباً قد خلته إلى وقت قريب قد انطفأ نهائياً.. في إغرم - هذه القرية الغريبة والجميلة - سيشتعل فتيل الذاكرة، وسيحترق ذلك الحبل النحيل شيئاً فشيئاً، وستنتهي ناره إلى الحزام الناسف الذي يطوّق القلب المتعب".
هكذا يحكي عن "امحند" الرجل الأمازيغي الذي عثر عليه ملفوفاً بقطعة قماش بيضاء فتبنّاه، وأطلق عليه اسم "أوداد" الذي يعني "الوعل" بالأمازيغية، لكنه شعر دائماً بأنه غريب في هذه العائلة التي لم تخفِ عنه حقيقته منذ أصبح في الخامسة: "أنت منا، تذكر هذا جيداً، لكنك لست من دمنا". يكبر الطفل وسط مجتمع ينفر منه، فهو غريبٌ عنه، وكل ما يحدث في القرية من مصائب يعزى إلى وجوده بينهم. هذا ما يدفعه في النهاية إلى الهرب فيعيش في المدينة ويدرس هناك، ثم يلتحق بالجامعة، ويعيش تجربة مواجهة الطلبة المنتمين إلى اليسار مع السلطة، كما يعيش عدة علاقات جسدية وعاطفية، تكون أعنفها حكايته مع "خولة"، التي يتركها ويسافر إلى فرنسا ليكمل دراسته، وحين يعود يكتشف أنها كانت حاملاً منه، وحين لن تجد طريقة للتواصل معه قطعت شرايين يدها وانتحرت خوفاً من الفضيحة، تاركةً لحبيبها دفتر مذكرات دوّنت فيه الكثير من الأشياء. تسوء حالة "مراد" النفسية جداً، بعد كل هذا، ويشرف على علاجه طبيب نفسي هو الذي ينصحه في ما بعد بزيارة قريته.
تتداخل في السرد عدة أصوات، فمن جهة هناك "مراد" الشخصية الرئيسية والتي تدور باقي الشخصيات كلها حوله، والذي يروي حكايته، وهناك مذكرات "خولة" التي يفرد لها "مراد" مساحات ضمن حكايته، وأخيراً هناك الفصول المكتوبة على لسان "جوليا" إذ نكتشف أنها أتت إلى المغرب لتكتب رواية عنه، بعد أن التقت في باريس بطبيبه النفسي، وباع لها ملفه الطبي، وأعطاها محلولاً طبياً يحرّضه على البوح بكل ذكرياته. هكذا تبدأ "جوليا" بكتابة روايتها التي تسميها "مراد الوعل"، ولكنها تكتشف أنها غرقت في حبه شيئاً فشيئاً، وتبدأ بالإحساس بالذنب، وتشعر أنها المسؤولة عن قتله المعنوي، معترفةً في النهاية أنها فشلت في كتابة رواية عنه، وأنها كلما حاولت تجد نفسها تكتب عن هزيمتها على يد رجل عشقته، "وها أنا قد قتلته وكان ما كان.. ماذا بعد؟ تجري السنون دون أن أجد كوّة ولو بحجم ثقب إبرة، أنفذ من خلالها إليك وأكتبك على الرغم من أن في حوزتي كل ما يلزم لأفعل. كانت حياتك أكبر مني، أكبر بكثير ولم يكن يليق إلا بك كتابتها، أما أنا المغلوبة على حرفي، فمهما حاولت أن أتقمصك فلن أكون "أناك" بصدق، لذلك أجدني كلما حاولت أن أكتبك شرعت في الكتابة عني، واختزلت حياتك في ما دار بيننا وفرّت حيواتك الأخرى من بين يدي كالزئبق".
تضيع الحدود في هذه الرواية بين الواقع والخيال، بين التاريخ والأسطورة، وتحضر الأحداث السياسية التي عاشها المغرب كخلفية، وتنتهي الرواية دون أن نعرف حقيقة الكثير من الأشياء، إن كانت قد حصلت فعلاً أم أنها مجرد هلوسات جرت في رأس "مراد"، فبعد أن يكتشف حقيقة "جوليا"، يمر بمرحلة نفسية صعبة، يصادف خلالها "نوميديا" وهي فتاة أمازيغية خرساء، في غاية الجمال، يلتقي معها في موعد محدد يومياً، ويبثها لواعج قلبه، وكل خيباته وآلامه، ويرى فيها ما سيكون فيه شفاؤه، لكن ما الذي سيحدث حين تختفي؟ "نوميديا.. آه نوميديا.. أي سماء، أي قدر كفيفين أرسلاك الآن إلي؟ أي وجع قذف بك في طريقي؟ خذيني إليك أيتها البهية القاسية الجمال، أو دعيني أواجه مصيري بشجاعة. وصرخت: نوميديا! فلم تجبني غير الرعود وصهيل الحصان. أحببتك أيها الخرساء الجميلة حتى احترقت، وأحسنت أنت استغلال هشاشتي العاطفية.. هذا كل ما في الأمر. لكني تورطت في هذا الحب الجارف إلى درجة تجعلني الآن أشد تمسكاً بالخلاص، الذي أنشده على عتبات الهاوية".
طارق بكاري، كاتب مغربي وأستاذ أدب عربي، من مواليد مدينة ميسور في المغرب 1988. و"نوميديا" هي روايته الأولى. حازت جائزة المغرب للكتاب عن فئة السرديات والمحكيات، ورشحت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2016.
الناشر: دار الآداب/ بيروت
عدد الصفحات: 422
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية من: موقع النيل والفرات ومتجر جملون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...