كان من المفترض أن أكتب هذا المقال، وأنا في عمّان، وكنت أنوي أنا أقول فيه كيف طحنتني عمان بصخبها وصعوبتها، لكنني اليوم بعيدة عنها، وها قد أتممت شهراً كاملاً وأنا أتابعها من خلف الشاشة، وقد أهدتني الحياة فرصة أن تكون عمّان ذاكرةً دافئة وحميمة بدلاً من أن تظل بالنسبة إليّ مرتبطةً بالعقبات، والخوف، والبحث عن الأمان.
منذ الأيام الأولى لي في عمان، فهمت أنها ليست مدينتي. في الواقع لا أعرف كيف يقرر الواحد منا من هي مدينته، فقد كانت مكاني المؤقت الذي سأنتقل منه إلى دولة ثانية، وعلى الرغم من ذلك اتّبعت قوانين الإقامة فيها؛ وجدت وظيفةً جيدة تؤمن لي دخلاً يكفي احتياجاتي والتزاماتي، ثم بدأت أتخفف من صداقات القرية السهلة، وأغوص في تجارب الصداقة الصعبة فيها. سقطت كثيراً، لكنني بعد عام من الإقامة، أحطت نفسي بعدد قليل من الأصحاب يؤنسون القلب، ويحنّون علي، ففي عمّان تحديداً تتضاعف الحاجة إلى الحنان والعطف. كنت أشعر بجبروت عمّان في كل تفصيلٍ حياتيٍّ أعيشه، وأتعجب من قدرتها على تمييز الغرباء، لكنني غير قادرة على كتابة هذه الأمور الآن، وكأن عمّان أهدتني فرصةً للاعتراف بحبّها، حتى وإن تأخر الوقت قليلاً، وأعطتني مهلةً كافية كي أتخفف من ثقل المشاعر التي عانيت منها حين كنت هناك.
كنت أشعر بجبروت عمّان في كل تفصيلٍ حياتيٍّ أعيشه، وأتعجب من قدرتها على تمييز الغرباء، لكنني غير قادرة على كتابة هذه الأمور الآن، وكأن عمّان أهدتني فرصةً للاعتراف بحبّها، حتى وإن تأخر الوقت قليلاً، وأعطتني مهلةً كافية كي أتخفف من ثقل المشاعر التي عانيت منها حين كنت هناك
في وقت متقدم من رحلتي في عمّان، أصبحت قادرةً على إدارة ملفات حياتي بشكل مثالي -حسب ما أعتقد- فقد تعلمت فيها الأمومة بمفردي، وبدأت أتقبّل فكرة أن أعيش وحيدةً كامرأة مستقلة يطل عليها حبيبها مرة كل شهر، ثم يختفي، ثم تمدنّت قليلاً بفضل صديقاتي اللواتي علمنني كيف أستغلّ خيارات عمّان الواسعة، وأخيراً بدأت أخطط لتحسين حياتي فيها. وبما أنني قروية الأصل، ارتبط لدي التقدم المعيشي بإضافة تغييرات على ديكور المنزل أولاً، فغيّرت شكل صالة المعيشة، وغرفة المكتب، ورتّبت زاوية المكتبة التي نقلتها من القرية إلى عمّان، بعد ثلاث سنوات من الإقامة فيها، ثم بدأت أوسع نشاطي الاجتماعي الذي تراجع بسبب الأمومة، وعدت إلى العمل على إصدار كتابي الشعري الجديد، وتقبلت أخيراً أنني سأكمل حياتي في عمّان، وآمنت بأن فيها فرصاً كثيرة تحتاج إلى محاولات بسيطة لتتحقق.
احتجت إلى ثلاث سنوات كاملة كي أشعر بأن عمّان مدينتي الجميلة، ولتتوسع مداركي لاستيعاب تناقضات العاصمة وجنونها، وأنني مستعدة لتقبّل التغيّرات التي حدثت للقروية القديمة التي كنتها، لكن العاصمة المعجونة بالمفاجآت شعرت بأن نصيبي من التجربة فيها قد اكتمل، فلوّحت لي برضا وحب حين لمحت تأشيرة سفر قادمة نحوي.
في عمّان تحديداً تتضاعف الحاجة إلى الحنان والعطف.
أعترف لعمّان اليوم بفضلها عليّ، فقد كنت أملك رفاهة أن أشتمها، وأشتم رأسمالية أرباب العمل فيها، وأسبّ على انتهاكات حقوق المرأة والطفل هناك، وعلى اجتماعات المثقفين، وعلى الأمسيات الشعرية التي نذهب إليها مجاملة، أو رد واجب، وعلى أزمة السير الخانقة، وعلى غلاء الأسعار.
في عمّان حملت مشاعر متناقضة، ومتّقدة؛ شوق، وحب، وفشل، وحزن، واستياء، تكفي لسنين طويلة بمشاعر هادئة، وكنت محاطةً بدوائر أمان حقيقية، منحتني فرصة أن أفجّر تلك المشاعر، كما أن عمّان بخفة ظلّها، وجرأتها، استطاعت أن تغيّر إيقاع القرية في رأسي، وتفرض إيقاعها، فهذّبت بعض طباعي؛ لم تسمح لي بأن أصرخ، فلا أسمع غناءها، ولا أن أتذمر كي لا تفوتني جماليات تفاصيلها الصغيرة، ولا أن أشعّ فأتجاهل وهجها. صرت أكثر دماثةً، وتدرّبت جيداً على الاستماع، فلم يكن لدي ما أقوله أصلاً، لقد هضمتني، وأعادت تشكيلي لتصدّرني إلى مكان آخر.
منحتني عمّان الكثير، فقد أحاطتني بالعائلة، وتنعمّت بحبها، ففيها أمي وأبي وأخواتي، والعائلة الصغيرة التي كانت تنتشلني في كل مرة أكاد أغرق فيها، ومدّت لي أمي يدها حين سحبني اكتئاب الأمومة لأعماقه، وقوّتني أختي حين مرض الحب في قلبي، ولم يبخل عليّ والدي بلحظة عطف واحدة تنزع عني الشعور بالوحدة، أو الحظ السيء. لم أفهم ذلك الحب بشكل واضح مثل اليوم، فقد كنت حينها أصدّر عاطفتي إلى مكان آخر، ها أنا أعيش فيه اليوم، ويبدو أنني سأمكث هنا طويلاً.
أعترف لعمّان اليوم بفضلها عليّ، فقد كنت أملك رفاهة أن أشتمها، وأشتم رأسمالية أرباب العمل فيها، وأسبّ على انتهاكات حقوق المرأة والطفل هناك، وعلى اجتماعات المثقفين، وعلى الأمسيات الشعرية التي نذهب إليها مجاملة، أو رد واجب، وعلى أزمة السير الخانقة، وعلى غلاء الأسعار
شكراً عمّان، فقد خلقتِ لدي الشعور بالامتنان؛ أصبحت أقول شكراً حقيقيةً لكل شيء بسيط يحيط بي، ولو كان ابتسامة ابنتي، أو لحظة هدوء في منتصف النهار. ها أنا أجلس بين من عرفتهم عن بعد، وأتحدث عن عمّان وأبتسم، وأتذكّر محالّها، وشوارعها، وغضبها، وضحكها، فأطمئن. لقد قست عليّ فصرت أقوى، وحنّت عليّ فصرت ألين. كانت الدرس الأصعب بين دروس الحياة جميعها، والتجربة الأغنى على جميع المستويات. لقد جعلتني امرأةً أكثر، وأمّاً جيدةً، وصديقةً حقيقية، وابنةً بارّةً. في المحصلة، ها أنا اليوم إنسانة أفضل. وداعاً عمّان الحبيبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...