(*) لم تكن سارة عادل تعتقد أن بدايتها في رياضة الجري (العدو) ستكون كلفتها المادية أكبر مما يحتمله راتبها. بدأت سارة الجري رغبة منها في ممارسة رياضة تناسب إمكانياتها بعد شهور من قلة الحركة في أعقاب بدايات جائحة كورونا، عندما اتخذت قرارها، بدأت تبحث عن مكان مناسب في مدينة القاهرة، للجري نصف ساعة في المساء مرتين أسبوعياً علَّهما تخففان عنها ضغوط العمل.
واجهت سارة، التي تعمل صحافية بإحدى الصحف الخاصة الصادرة في القاهرة، مشكلتان؛ أولاهما – كما تقول لرصيف22-: "كان نفسي أجري جداً لكن معظم الفعاليات بالنهار وأنا شخص أحب النشاط الليلي"، أما الثانية فهي "لم أكن أعرف أين أجري ،وتخيلت أنه لا وجود لمكان أستطيع الجري به ليلاً، حتى تعرفت على فريق ‘نايت رانرز’ بالصدفة بمركز شباب الجزيرة، عن طريق صديقة لي".
خلال السنوات الثلاثة الماضية، تغير شكل الشوارع وأغراضها في القاهرة. يرى خبراء في العمران والفضاء العام أن القاهرة تغدو يوماً بعد الآخر مدينة للمركبات، ولا مكان للراجلة (المشاة) فيها. تتراجع سريعاً الحدائق ومساحات المشي وممارسة الرياضة، من دون الحاجة إلى الاشتراك في الساحات الرياضية الخاصة والأندية. صار كورنيش النيل الذي مثَّل متنفساً لراغبي المشي والعدو، مشروعاً قومياً جديداً تحت الإنشاء باسم "ممشى أهل مصر"، تنتصب فيه "الكافيهات" والمطاعم في المساحات التي كانت متاحة للمشاة والعدائين، وبالمثل أخذت مساحات الترجل في القاهرة تتلاشى تدريجياً.
بتعرفها على مجموعة "نايت رانرز" وإيجاد مساحة رخيصة نسبياً للجري داخل مركز شباب الجزيرة، ظنت سارة أن العوائق بينها وبين ممارسة رياضتها المختارة قد انتهت، لكن عائقاً أكبر بات ينتظرها.
خصخصة الرياضة
ممارسة الجري كرياضة وعادة يومية، يؤكد على أهميتها الدكتور عمر حسونة طبيب القلب والأوعية الدموية بمجمع الإسماعيلية الطبي ويقول "جمعية القلب الأمريكية تنصح بممارسة رياضة خفيفة مثل الجري أو المشي لمدة نصف ساعة يومياً، للحفاظ على صحة القلب والتخلص من الوزن الزائد، وإن كنت لا تستطيع ممارسة الرياضة بشكل يومي، يفضل ثلاث مرات أسبوعيا لمدة 45 دقيقة في كل مرة".
ويعتبر البعض أن الجري هو "أرخص" الرياضات البدنية، أي أقلها تكلفة؛ كل ما تحتاجه هو زوج من الأحذية المناسبة وصحة جيدة لتبدأ، ولكن تكلفة الجري بحساب سعر الملابس والأحذية الرياضية بالإضافة إلى الرسوم التي باتت مطلوبة للاشتراك في المجموعات الرياضية أو السباقات الموسمية، باتت تخرج بالرياضة عن نطاق قدرات الرياضي متوسط الدخل.
يعتبر البعض أن الجري هو "أرخص" الرياضات البدنية، وأن كل ما تحتاجه هو زوج من الأحذية المناسبة وصحة جيدة لتبدأ، ولكن تكلفة الجري بحساب التغيرات الاقتصادية والتنظيمية الأخيرة في مصر، باتت تخرج عن نطاق قدرات الرياضي متوسط الدخل
تقول سارة عادل: "في البداية كانت رسوم دخول المركز 20 جنيهاً، ولكن المركز قرر إلغاء دخول غير الأعضاء بنظام التذاكر، وألزم الراغبين في الإشتراك في أي نشاط رياضي داخلي بدفع 180 جنيهاً شهرياً (11.45 دولار) إلى جانب الاشتراك في الفريق، ومن دون هذا الاشتراك، لا أستطيع الجري مرتين أسبوعياً".
تتابع عادل: "الجري ليس مجرد هواية، إنما عادة للحفاظ على صحتي وتخفيف ضغوط العمل، ولكني في بداية التدريب كنت أعتقد أن الرياضة لا تحتاج مصروفات عالية، ولكن مع الوقت وجدت أن كلفة الجري مرتفعة، بداية من شراء الملابس الرياضية المخصصة للجري وأيضاً الأحذية، اعتدت شراء الأحذية الرياضية لأنها مريحة في المشي والعمل، ولكن مع الرياضة فوجئت بارتفاع الأسعار، أقصي ما كنت أفكر في إنفاقه كان 900 جنيهاً، إلا أن أسعار الأحذية المناسبة تصل إلى 4 آلاف جنيه (ضعفي الحد الأدنى للأجور)، بالتأكيد لن أفكر في شراء مثل هذا الحذاء".
في البداية اشترت عادل حذاءاً بلغ سعره 400 جنيهاً ليكون مناسباً لميزانيتها، لكنه لم يكن مناسبا لممارسة الرياضة وتسبب في آلام بقدميها فاضطررت إلى شراء حذاء جديد "مؤقتاً"، ما مثّل تكلفة إضافية. تقول: " ضعف الميزانية والاختيارات الخاطئة جعلاني أدفع نقوداً أكثر".
ارتفعت أسعار الأحذية الرياضية ضعفين على الأقل منذ قرار الحكومة المصرية تحرير سعر الصرف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 تنفيذاً لبرنامج الإصلاح المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي والذي حصلت مصر بموجبه على قرض بلغ 12 مليار دولار لتعويض الفقد الكبير الذي أصاب العملة الأجنبية. وبعدها، توالت قرارات رفع الرسوم الجمركية على العديد من السلع وصنفت الأحذية الرياضية باعتبارها من سلع الرفاهية، وفرضت عليها رسوماً جمركية بلغت 60 % من سعر الحذاء بالإضافة إلى ضريبة القيمة المضافة التي تبلغ 14% من السعر الكلي المضاف إليه الجمارك ومكاسب البائع، ما قفز بأسعار الأحذية الرياضية، إلى حد بلغ المتوسط منها راتب شهرين على الأقل لشخص ينتمي إلى الطبقة الوسطى مثل سارة.
بالتزامن مع ضربة الغلاء التي طالت المستلزمات الرياضية – كباقي السلع في مصر- بدأ الاهتمام بالاستثمار في الرياضة يتسع، خاصة مع تكرار مناسبات ظهور الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ممارساً رياضات مختلفة منها العدو وركوب الدراجات، قبلها وفي العام 2012، ظهرت مجموعات لتنظيم فعاليات رياضية مثل كايرو رانرز عام 2012 وتكررت التجربة في مدن الإسكندرية والمنصورة والإسماعيلية، لكن مع وصول الرئيس المصري إلى الحكم رسمياً في 2014، وحرصه على إظهار اهتمامه البالغ بالرياضة وحثه المتكرر على ضرورة ممارستها حتى تكون "أجسام المصريين مثالية"، بدأ تنظيم الفعاليات المدفوعة، مع ظهور شركات متخصصة تعمل في الاستثمار الرياضي، باعتباره صار ذا أولوية على أجندة الدولة.
بالمثل قفزت أسعار الاشتراكات بالنوادي الرياضية، وتحولت مراكز الشباب التي أنشئت في أعقاب حركة الضباط عام 1952 لتكون ساحات رياضية شبه مجانية لأبناء الفقراء، إلى ساحات استثمارية، تغلق أبوابها دون غير الأعضاء، بعد زيادة أسعار الاشتراكات من 30 جنيهاً، لتتجاوز في أحيان 40 ألف جنيه للفرد.
بالتزامن مع ضربة الغلاء التي طالت المستلزمات الرياضية؛ بدأ الاهتمام بالاستثمار في الرياضة يتسع، وبالمثل قفزت أسعار الاشتراكات بالنوادي الرياضية، وتحولت مراكز الشباب إلى ساحات تغلق أبوابها دون غير الأعضاء
لهاث استثماري
بداية كايرو رانرز جاءت عام 2012، وبدأ بناء على دعوة من رياضيين وهواة الجري صباح الجمعة، وتركز اهتمام المجموعة في ابتكار أماكن جديدة للجري في مدينة القاهرة، مثل جزيرة الزمالك وكوبري قصر النيل، وحول سور الكلية الحربية في مصر الجديدة، أو شوارع المعادي المحاطة بالأشجار.
بدأت المجموعة بعدها في تنظيم فعاليات للجري برسوم مدفوعة وصلت وقتها إلى 90 جنيهاً، يحصل مقابلها كل من يشارك على ملابس رياضية وميدالية تذكارية، وخدمات دعم على الطريق تتمثل في توزيع زجاجات مياه مرطبة وتمور.
محمد سعد، مهندس يمارس رياضة الجري، يقول لـرصيف 22: "أهوى الجري منذ كنت أمارس رياضة الكاراتيه والملاكمة في صغري، الآن أتطلع للمشاركة في سباقات دولية للمسافات الطويلة، اتدرب جيداً ولكن المشاركة في السباقات دوريات أصبحت مرهقة مادياً".
يفضل سعد المشاركة في سباقات الجري لمسافة نصف ماراثون (21كيلو متر)، ومع ارتفاع رسوم الاشتراك في السباقات، أصبحت مرات مشاركاته أقل.
صار كورنيش النيل الذي مثَّل متنفساً لراغبي المشي والعدو، مشروعاً قومياً جديداً تحت الإنشاء باسم "ممشى أهل مصر"، تنتصب فيه "الكافيهات" والمطاعم في المساحات التي كانت متاحة للمشاة والعدائين
ارتفاع رسوم الاشتراك في الفعاليات الرياضية التي تنظمها شركات خاصة مثل "تراي فاكتوري أو كايرو رانرز"، أو جهات رسمية مثل الاتحاد المصري لألعاب القوى، يفسره محسن عبد المعبود المشرف المسؤول عن فريق "نايت رانرز"، بقوله: "الشركات المنظمة للفعاليات الرياضية أصبحت مضطرة لرفع قيمة رسوم الإشتراك، بسبب وقف تنظيم مسابقات الجري في الشوارع مثلما كان يحدث قبل خمس سنوات. وانتقل التنظيم إلى أماكن تلزم المشاركين بدفع رسوم للدخول، مثل ماراثون الأهرامات أو القري السياحية بالجونة وسهل حشيش وسوما باي والعين السخنة، لتكون مناسبة للجري وقضاء عطلة نهاية الأسبوع على البحر".
ويضيف: "عن نفسي (بشكل شخصي) أحب المشاركة في فعاليات الجري بكثرة لإشباع هواية جمع الميداليات القيمة، وأحيانا كثيرة لا أشارك بسبب تكلفة السباق والسفر، وأسعى من خلال أصدقائي في فريق الجري للحصول على تخفيض مناسب للفريق لنتمكن من المشاركة". ويضيف عبد المعبود: "رسوم الاشتراك في الفعاليات الرياضية تختلف من حيث موقع الفعالية، وتكلفة الميدالية التذكارية، وجودة خامات الملابس التي توزع في السباق، وأيضا نسبة الربح للشركة المنظمة، لأنها ليس منوطاً بها دعم الرياضيين، هو دور الدولة ممثلة في وزارة الشباب والرياضة، والاتحاد المصري لألعاب القوى". يضاف إلى ذلك أن الموقع المستضيف للفاعلية يطلب عادة مقابلاً مادياً كبيراً، بالإضافة إلى فرض الاتحاد المصري لألعاب القوى ووزارة الشباب تحصيل رسوم اشتراك من كل لاعب تحصل لخزانتها، من دون أن تشارك في التنظيم. ويتم تحميل كل هذه الرسوم بالإضافة إلى أرباح الشركة المنظمة وأجور موظفيها، على الهواة والراغبين في المشاركة
بيزنس الاتحاد
يطالب الرياضيون اتحاد اللعبة بدعم العدائين، ولكن الاتحاد بدأ في فرض رسوم للإشتراك في مسابقاته الرسمية المؤهلة للمنتخب القومي. ونشر اتحاد ألعاب القوى دعوة للفائزين ببطولة الجمهورية من مواليد عام 2005 للإشتراك في اختبارات الانضمام للمنتخب القومي، ويلزم اللاعب المشارك بدفع 200 جنيه عن كل سباق يخوضه خلال الاختبارات.
يقول عبد العزيز عتريس عضو اللجنة الإعلامية بالاتحاد المصري لألعاب القوى: "هناك اتجاه لكل اتحاد رياضي أن يبحث عن طريقة لدعم ميزانيته من خلال المسابقات. ولذلك بدأنا في فرض رسوم على الاشتراك في البطولات، وأيضا تنظيم فعاليات للهواة بسعر رمزي، على أن يذهب نصف المبلغ إلى خزينة الإتحاد، ويسترد المتسابق باقي المبلغ في صورة ميدالية أو خدمات طوال مسافة السباق".
أين تجري في القاهرة
لا تزال هناك – في الوقت الحالي- أماكن رخيصة صالحة للجري في القاهرة، منها المركز الرياضي بمنطقة الشيراتون مقابل رسوم دخول تبلغ 10 جنيهات، ومركز شباب الجزيرة ولكنه منع دخول غير الأعضاء أو غير المشتركين في نشاط داخلي، وشوارع ضاحية المعادي، وحديقة الميريلاند بمصر الجديدة (خاضعة للتجديدات ولها رسم دخول 20 جنيهاً)، ومحمية وادي دجلة، وحي الزمالك، وفي الإسكندرية يعتبر الرياضيون أنفسهم محظوظون بوجود الكورنيش حيث يمكنك أن تجري وتستمتع بأمواج البحر بجانبك.في المساحات القليلة التي لا تزال غير مغطاة بالأسوار.
فعاليات رياضية مجانية
تقام في مصر فعاليات رياضية للجري يشترك فيها الرياضيون مجاناً، أو مقابل إشتراك رمزي، مثل سباق زايد الخيري الذي تدعمه دولة الإمارات وأقيمت آخر دورة له في مدينة السويس عام 2019، مقابل إشتراك يبلغ خمسين جنيهاً، وحصل 400 عداء خلال الدورة الاخيرة على جوائز وصلت إلى 100 ألف جنيه للمركز الأول و1000 جنيه في المركز 400.
وبدأت وزارتي الشباب والرياضة والسياحة العام الماضي في تنظيم تحدي رياضي لمدة شهر، يكمل فيه المشاركون مسافات للجري تصل إلى 100 كيلو و50 كيلو بالإضافة إلى مسافات للمشي وركوب الدراجات، يحصل فيها المتسابق بعد نهاية الشهر على ميدالية تذكارية مجانية تصل إليه بالبريد.
نعود لمحسن عبد المعبود الذي شارك كمنظم مع وزارة الشباب في تحدي " 30 يوم رياضة"، هذه الفعاليات جيدة للرياضيين الهواة، أتمنى أن تدعم الوزارة فعاليات أكبر مع الاتحاد المصري لألعاب القوى".
ويشرح عبد المعبود أن التحدي في العام الجاري يستهدف مشاركة 5000 لاعب، في ثلاث رياضات، وقد شارك في العام الماضي 3000 لاعب أكمل منهم 70% تقريبا التحدي.
-----------
الصور جميعها من تصوير محمد عوض*
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...