عقب إنهاء دراستها الجامعية في 2011، فكرت نسمة أحمد* في استكمال دراستها العليا في مجال التربية والتدريس، إلا أنها ككثير من الشابات المصريات انشغلت سريعاً في بناء بيتها الجديد، ثم رعاية الوافديْن الصغيريْن إلى أسرتها. رغم ذلك، لم تنس طموحها وعادت بعد خمس سنوات من تخرجها في كلية التربية بإحدى الجامعات الحكومية خارج القاهرة، إلى بدء دراستها من جديد وباشرت إعداد الدبلوم في مجال رياض الأطفال.
تحلم نسمة بافتتاح مركز تربوي متخصص في رعاية الأطفال الموهوبين من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقدمت للحصول على شهادات جديدة تتصل بالتخصص الذي تريد استثمار طاقتها فيه، إلا أنها فوجئت عند عودتها أن المصروفات المطلوبة للالتحاق ببرامج الدراسات العليا قد تضاعفت كثيراً رغم لجوء الجامعة إلى عقد المحاضرات عبر برامج التواصل عن بعد "زوم" نتيجة جائحة فيروس كورونا المستجد.
استطاعت نسمة بمساعدة زوجها أن توفر المصروفات المطلوبة للتقدم إلى الدراسات العليا، لكنها تخشى مع القفزات المتوالية في أسعار الرسوم أن لا تتمكن من الحصول على شهادة الدكتوراه عقب إنهاء رسالة الماجستير التي تعدّها حالياً.
تروى نسمة تفاصيل تجربتها لرصيف22: "المصاريف زادت بصورة مبالغ فيها. في العام الماضي دفعت 3500 جنيه (نحو 220 دولاراً أمريكياً) شاملة الكتب الدراسية الخاصة بالدبلوم وكانت في السنة السابقة لا تتخطى 1200 جنيه (نحو 80 دولاراً)، هذا العام بلغت الرسوم 3900 جنيه (نحو 285 دولاراً) بخلاف أسعار الكتب، ما شكل عبئاً كبيراً على أسرتي إذ نعتمد على راتب زوجي الذي هو موظف حكومي".
توسعت الدولة في توجيه مؤسسات وأجهزة الخدمات العامة في مجالات الصحة والتعليم والأمن وغيرها، إلى استيلاد سبل للحصول على التمويل، فتوسعت الأجهزة الخدمية في زيادة الرسوم والمصروفات الخاصة التي يسددها الجمهور
مخاوف نسمة بشأن المستقبل تحققت في حالة هناء سعيد* التي اضطرت إلى التوقف عن استكمال الدراسات العليا وقررت الاكتفاء تكتفي بالدبلوم العام (الدبلوما) كي تتقدم بأوراقها للعمل معلمةً في إحدى المدارس وتترك العمل بإحدى حضانات الأطفال الخاصة. تقول: "بعد ما شهدناه من 'بهدلة'؛ إذا كانت لدي نية لاستكمال الدراسات العليا لن أكمل، إذ لا قيمة للشهادات حالياً، والتعليم قائم على المال فحسب".
تقول هناء الملتحقة ببرنامج الدراسات العليا في كلية التربية بجامعة حلوان (حكومية): "تسببت زيادة مصاريف الدراسات العليا بضياع حلمي في الحصول على الدكتوراه، راتبي لا يتخطى 1500 جنيه شهرياً (نحو 94 دولاراً) وصرت غير قادرة على دفع الرسوم المطلوبة".
اللافت هو تفاوت الرسوم المقررة للبرامج الدراسية في الجامعات الحكومية التي تتبع جميعها إدارياً ومالياً المجلس الأعلى للجامعات، ففي حين لن تتخط الرسوم في بعض الجامعات 3500 جنيه (220 دولاراً) خارج القاهرة، بلغت مصروفات البرنامج نفسه في جامعة حلوان (جنوب القاهرة) 8000 جنيه (500 دولار تقريباً) بخلاف أسعار الكتب.
وتضيف هناء: "فوجئت بمصاريف خرافية، في وقت الدفعة التي كانت تسبقنا عام 2019 دفع الطالب نحو 3000 جنيه، وقد أصبحت 8000 لدفعتي بعد عام واحد، وعليه لم يتقدم لنيل الدبلوما سوى 40 طالباً. وحينما توجه مجموعة من زملائنا لوكيل الكلية لمطالبته بخفض المصاريف رفض".
ومع ارتفاع التكلفة، عجز زملاء هناء ممن تقدموا للدراسة عن سداد المصروفات في المواعيد المقررة، تقول: "عجز زملاؤنا عن دفع المصاريف وحجبت نتائج التيرم الأول، ولم تعلن إلا بعد سداد مبلغ الدبلوما كاملاً".
نظراً للتكلفة "المبالغ فيها" تراجعت هناء عن حلم استكمال الحصول على دبلوم خاص وماجستير، مشيرة إلى أن الجامعة ألزمت الطلاب بالحصول على شهادة التحول الرقمي المعادلة لـ ICDL بتكلفة 850 جنيهاً، ومدتها خمس سنوات، فيما بلغت المصروفات على الماجستير 15 ألف جنيه (نحو ألف دولار) والدكتوراه 18 ألفاً.
طالبة دراسات عليا: "بعد ما شهدناه من 'بهدلة'؛ إذا كانت لدي نية لاستكمال الدراسات العليا لن أكمل، إذ لا قيمة للشهادات حالياً، والتعليم قائم على المال فحسب"
سياسة مركزية
بحسب تصريحات رسمية، لم تزد ميزانية البحث العلمي في مصر عن 1% من إجمالي الدخل القومي، بل تقل عنها أحياناً. ويفرض الدستور الساري على السلطة التنفيذية وضع ميزانية لا تقل عن 1% من الدخل القومي على أن تزيد تدريجياً حتى تصل إلى "الحد العالمي".
وافق البرلمان في أيار/ مايو 2020 على تطبيق رسوم جديدة من شأنها أن تضيف 15 مليار جنيه إلى الموازنة العامة.
بدأ سريان هذه المادة الدستورية عام 2014. وعلى غرار المواد الخاصة بحدود الإنفاق على الصحة والتعليم، لم تنجح السلطات في الوفاء بالحد الأدنى وزيادة المخصصات.
ومع تزايد الضغوط الاقتصادية على الموازنة العامة، تراجع الإنفاق على التعليم والصحة مقابل زيادة الإنفاق على فوائد الديون نحو 437.6 مليار جنيه، في وقت لم تزد مخصصات التعليم الجامعي وما قبل الجامعي والبحث العلمي عن 172.6 مليار جنيه بنسبة 2.42% من الموازنة، مقارنة بنسبة 6% المقررة دستورياً حداً أدنى.
وتوسعت الدولة في توجيه مؤسسات وأجهزة الخدمات العامة في مجالات الصحة والتعليم والتنظيم والنظافة والأمن وغيرها إلى استيلاد سبل للحصول على تمويل لميزانياتها، فتوسعت الأجهزة الخدمية في زيادة الرسوم والمصروفات الخاصة التي يسددها الجمهور، فشهدت السنوات الأربع الماضية زيادات كبيرة ومتسارعة في رسوم الخدمات التعليمية والصحية والأمنية المقدمة من أجهزة الدولة إلى المواطنين لتعويض فارق التضخم ونقص النيزانيات أو ثباتها. كما تفرضالسلطات مركزياً رسوماً جديدة بالتزامن مع التوسع الضريبي لرفع حصيلة الخزانة العامة من خلال تمويل المواطنين المباشر.
ووافق البرلمان في أيار/ مايو 2020 على تطبيق رسوم جديدة من شأنها أن تضيف 15 مليار جنيه إلى الموازنة العامة.
الرئيس السابق لجامعة دمياط: مصاريف الدراسات العليا زادت 300% وقرار زيادتها ضد البحث العلمي. الأساتذة في كلية زراعة دمياط لم يجدوا باحثين دراسات عليا ليدرسوهم هذا العام
وتنفيذ لا مركزي
قصر الزعفران - المبنى الإدارى لجامعة عين شمس - مروة حافظ - ويكي كومونز
يقول الدكتور علي أبو الحمايل، الرئيس السابق لجامعة دمياط (حكومية)، لرصيف22 إن قرار زيادة مصاريف الدراسات العليا يصدر عن مجلس كل جامعة بشكل منفرد، ويفسح في المجال للكليات التابعة زيادة مصروفاتها عن الحد الذي قررته الجامعة على أن تعتمد الجامعة قرار مجالس الكليات.
ويؤكد أبو الحمايل ان الزيادات وصلت في بعض الكليات هذا العام إلى 300% برغم تغيّر آليات الدراسة نتيجة جائحة كورونا. ويلفت بناءً على مشاهداته كأستاذ في كلية الزراعة إلى أن "عدداً كبيراً من الباحثين لم يكملوا مشوار الدراسات العليا في مختلف الكليات التابعة للجامعة، وظهر هذا في كلية الزراعة، قسم البساتين، هذا العام، إذ امتنع الباحثون من خارج الكادر الجامعي عن استكمال الدراسات منذ راوحت المصاريف بين 5000 و7000 جنيه في العام، بينما تخطت مصاريف الدراسات العليا في كلية الطب 15 ألفاً وزادت عن ذلك في بعض الجامعات".
ويرى أبو الحمايل قرار رفع مصاريف الدراسات العليا "غير مناسب ضد مصلحة البحث العلمي" في وقت صرح رئيس الجمهورية أنه يولي اهتماماً خاصاً للبحث العلمي في مصر.
ويضيف: "الأساتذة في كلية زراعة جامعة دمياط لم يجدوا باحثين دراسات عليا ليدرسوهم هذا العام، إذ إن الباحثين هم في الأساس موظفون يقتطعون من تكاليف حياتهم اليومية ليدرسوا ويرفعوا من درجاتهم الوظيفية، وبالتالي بعد رفع المصاريف لن يستطيعوا أن يكملوا رحلتهم العلمية". منوهاً بأن طلاباً واعدين سحبوا أوراقهم بعد عام دراسي واحد لعدم قدرتهم على سداد المصروفات المطلوبة. ويطالب أبو الحمايل بـ"إعادة النظر في تقدير مصاريف الدراسات العليا وتخفيضها للنصف، خاصة للباحثين في الكليات العلمية".
أستاذ بكلية الطب: "البحث العلمي عنصر أساسي في نمو الأمم، وعدم تمكن البعض من استكمال دراستهم العليا كان باباً خلفيا لتزوير البعض شهادات الدكتوراه والماجستير"
يتفق معه الدكتور صلاح عبد الغني، عضو هيئة التدريس في كلية الطب- جامعة الأزهر، ويضيف: "للبحث العلمي أهمية قصوى لخريجي كليات الطب. فإذا لم يحصل الباحث على فرصته في التسجيل، فلن يكون على القدر العلمي المناسب للتعامل مع المريض، مما يعرضه للمساءلة القانونية نتيجة أخطاء طبية قد تحدث، وهو ما ينعكس على المجتمع كله". ويتابع: "لو منع الطالب من التسجيل لظروف مادية، فسيؤثر عليه ذلك تأثيراً سلبياً مادياً ومعنوياً".
ويتابع عبد الغني: "البحث العلمي عنصر أساسي في نمو الأمم، وعدم تمكن البعض من استكمال دراستهم العليا كان باباً خلفيا لتزوير البعض شهادات الدكتوراه والماجستير".
يتوقع الطبيب الأكاديمي تراجع "الحالة الاقتصادية" لكثير من المواطنين نتيجة جائحة فيروس كورونا، استناداً إلى الدراسات الاقتصادية الدولية ذات الاعتبار "لذا كان على الجامعات القيام إعفاء الباحثين من المصاريف أو تخفيضها خلال فترة الجائحة ليتمكن كل طالب علم من استكمال مشواره العلمي".
وحصل رصيف22 على مستندات داخلية تشير إلى أن رسوم التسجيل للدكتوراه في كلية الصيدلة بجامعة المنصورة ارتفعت خلال العام الجاري إلى 36096 جنيهاً (2296 دولاراً) وهو ما يوازي 18 ضعفاً الحد الأدنى المقرر للأجور في مصر. بينما بلغت مصاريف الماجستير المهني في المناعة والطب التجددى بنظام الساعات المعتمدة باللغة الإنجليزية في جامعة المنصورة 36186 جنيهاً أي ما يعادل 2302 دولارات.
الدكتور عماد أبو الدهب عميد كلية العلوم في جامعة حلوان يرى أن هناك مبالغة في النظر إلى زيادة الرسوم المطلوبة من طلاب الدراسات العليا، ويقول لرصيف22: "الزيادة لم تتخط 20% من المبالغ المقررة في العام 2020"، وينفي أن تكون الزيادات قد أثرت على إقبال الطلاب بشكل كبير، موضحاً "شهدنا إقبالاً ببعض الدبلومات مثل دبلوما الكيمياء الحيوية. لذا نعمل على وضع قواعد محددة للقبول نظراً للزيادة الملحة عليها، مشيراً إلى أن أسعار الدراسات العليا في كلية العلوم للدبلومات لم تتخط الـ6000 جنيه (نحو 500 دولار).
لكن الدكتور رضا فضل، المدرس في جامعة الأزهر، يقول: "لا بد من أن تكون هناك لائحة للزيادة تحددها وزارة التعليم العالي على نحو يراعي ظروف الباحثين، مع إعفاء المعيّنين من الجامعات الأخرى والذين يدرسون في جامعات لا يعملون فيها حتى لا تشكل عائقاً أمام الباحثين الراغبين في الاستزادة من تخصصات غير متاحة في جامعاتهم".
مطالبات بالدعم
أما النائب ضياء الدين داوود، عضو مجلس النواب المسؤول عن مناقشة وإقرار الموازنة العامة، فيقول: "من حق الباحثين أن يحصلوا على دعم من الدولة ليستمروا في البحث العلمي، وألا توضع أمامهم العراقيل المادية التي قد تدفع البعض لعدم استكمال الدراسة". متابعاً: "الدول التي تقدر البحث العلمي تذلل الصعاب أمام الباحثين وفقاً لخطة ممنهجة، علماً أن الزيادة المبالغة أمر مستغرب وغير مقبول، يستوجب التدخل وعودة الأمور إلى نصابها مجدداً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...