كثيراً ما أشعر بالذنب والتقصير، وأجلد نفسي لعدم اهتمامي بخطبة صلاة الجمعة؛ ألا أستطيع التركيز لدقائق؟ فلربما انتفع، ولربما أتّعظ... وتمر الجمعة تلو الجمعة، وتتكرر السيناريوهات دون جدوى، إلى أن توصلت إلى أن العيب ليس عيبي، وحاشا الله أن يكون تقصير مني، ولكن الأمر وما فيه، هو ضعف الخطيب، وخطبته، وموضوع خطبته، وفتورهم، وبهتانهم، وإن كان هناك من يُلام، فهو ذلك الخطيب الذي أخجل من تسميته خطيباً، فالخطابة شأن عظيم، وليس كل من خلق الله له لساناً، يصحّ أن يكون خطيباً.
توصلت إلى أن العيب ليس عيبي، وحاشا الله أن يكون تقصير مني، ولكن الأمر وما فيه، هو ضعف الخطيب، وخطبته، وموضوع خطبته
نرجع إلى قصة سيّدنا موسى، فعلى الرغم من أنه كليم الله، إلا أنه أصرّ على أن يخطب أخوه بدلاً منه في الناس، وأن يتكلم نيابةً عنه، لأنه أفصح منه، وقد جاءت الآية صريحةً، إذ قال عزّ وجلّ" (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُون) [القصص: 34-35].
أتذكّر حين شاركت للمرة الأولى، أفكاري مع الأصدقاء، تهجم عليّ أحدهم بالسباب، والغضب، والوعيد بالنار، قائلاً: "أتظن أنك أفقه من هؤلاء العلماء الجهابذة؟"، وأخذ يمدح، ويمدح، حتى ظننت أنه سيركع لهم، وحاشا الله أن أظن أنني أفقه في علوم الدين منهم، فمعلوماتي الدينية محدودة، ومقتصرة على ما قدر ما ينفعني من أحكامٍ يومية بسيطة، يسهل حتى على من هو على الفطرة السليمة معرفتها. ولكن عزيزي قد لا أكون طباخاً ماهراً، إلا أني على الأقل متذوق له رأي، وأستطيع أن أمدح طبقاً، وأستطيع ألا أكمل غيره لمذاقه، وقد كفل الله لي حق حرية الرأي، ما دام قد أعطاني عقلاً، فلا تأتِ وتسلبني إياه لمجرد تأقلمك مع حياة البهائم التي لا تشكو، حتى أنها، والله، إذا لم يعجبها الأكل، تأكل ما يبقي عليها رمقاً، وتترك البقية، وأنت تأتي، وتكفّرني، وتخرجني من رحمة الله، وتغلق أبواب الجنّة في وجهي، وكأنك، والعياذ بالله، معك مفاتيحها، وهذا كله لأنني شرعت في قول رأي لم أنتهِ منه حتى التزمت الصمت، إذ لا جدوى من النقاش مع البهائم.
قد لا أكون طباخاً ماهراً، إلا أني على الأقل متذوق له رأي، وأستطيع أن أمدح طبقاً، وأستطيع ألا أكمل غيره لمذاقه، وقد كفل الله لي حق حرية الرأي، ما دام قد أعطاني عقلاً، فلا تأتِ وتسلبني إياه لمجرد تأقلمك مع حياة البهائم التي لا تشكو، حتى أنها، والله، إذا لم يعجبها الأكل، تأكل ما يبقي عليها رمقاً، وتترك البقية
كل ما في الأمر أنني سئمت من سماع خطب عن حب الوطن، والمولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، ورمضان، وشعبان، ورجب، وصفر. سئمت من الخطب نفسها والقصص عينها، والشواهد ذاتها. تتكرر الخطب وكأن الدين قد خلا من المواضيع.
تتكرر قشور الدين كل جمعة، من دون الخوض في ما قد يمس شؤون المسلمين، فكم علمنا أن شهر رمضان أُنزِل فيه القرآن؟ وكم علمنا أن الرسول أُخرِج من مكة؟ وكم علمنا أن أُحُدَ جبلٌ يحبّنا، ونحبّه؟ وكم علمنا أن شهر شعبان تُرفع الأعمال فيه، فنبدأ شهراً قبله نكرر الأمر، وكأن الدين شعبان؟
كل ما في الأمر أنني سئمت من سماع خطب عن حب الوطن، والمولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، ورمضان، وشعبان، ورجب، وصفر.
مشكورة الدولة على قرار الخطبة الموحَّدة، فقد يكون هذا هو الأمر الصائب الوحيد في صلاة الجمعة. ولكن أين المواضيع التي تلائم حيواتنا؟ ففي ظل موجات التحرش، لم نسمع خطبةً واحدةً تنبّه الناس وتحذّرهم، ولم نسمع خطبةً واحدةً توقظ الجهّال من الناس من الجهّال المدّعين الذين ينصبون على الناس بالدجل والشعوذة، ولم نسمع خطبةً واحدةً عن التنمّر، وقد جاء قول الله صريحاً: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)... أنخاف من قول الحق الذي عمّمه الناس باطلاً؟ لم نسمع خطبةً واحدةً تتناول أحكام حياتنا اليومية، ولم نسمع خطبةً واحدةً عن النمّ، أو الكذب، أو الغش، فتذكيرك بأن شهر شعبان تُرفع فيه الأعمال لمدة أربعة أسابيع، أهم من تذكيرك بالأعمال، وأهم من توعيتك، وأهم من تنبيهك، وربما قالوا هذا كله، ولكننا لم نسمع.
ربما تحدّث الخطيب عن التنمّر، لكن لانخفاض صوته، وضعف شخصيته، وسوء تحضيره لخطبته، لم أسمع، أو لم أهتمّ لأسمع. ولماذا أسمع من لا يجيد التحدّث، إذ كيف سيجيد الخطابة؟
وهنا يجب أن نسأل: على أي أساس يتم انتقاء الخطباء؟ هل بطول اللحية؟ أم بعدد الأجزاء المحفوظة؟ أم بعدد سنوات الدراسة؟ أم بعدد الرسائل المنشورة؟ فمن الواضح أن الفصاحة، والبلاغة، والإبداع، شروط مهمشة. ولماذا يكون الخطيب فصيحاً، وبليغاً، ومبدعاً؟ ما الأهمية؟ هي مجرد ثانويات سواء توفرت أم لم تتوفر، فهذا ليس مهماً، المهم ألا يكون أخرسَ، ثم تأتي الشروط الأخرى.
على أي أساس يتم انتقاء الخطباء؟ هل بطول اللحية؟ أم بعدد الأجزاء المحفوظة؟ أم بعدد سنوات الدراسة؟ أم بعدد الرسائل المنشورة؟ فمن الواضح أن الفصاحة، والبلاغة، والإبداع، شروط مهمشة
وما الفرق أكان أخرسَ أم لا؟ ففي الحالات كلها لم تصل الرسالة، ولم يتحقق هدف خطبة الجمعة، ومرّت مرور الكرام، ولربما ضاع ثوابها؟
حتى أن عدد خطب الجمعة التي انتفعتُ بها، واستمتعت بها، لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة.
أرجو أن تكون هناك أسس أفضل لاختيار الخطباء، ومواضيع أنفع للخطابة. أريد خطيباً يجبرني على الاستماع إليه لروعته، وتهزّ وجداني بلاغته، ويقشعر بدني من موضوع خطبته، لعلّني أتّعظ، ولعلّني أنتفع.
أصبح حلماً لي، أن أستمتع بخطبة جمعة، وأن أخرج منها مستزيداً ثواباً، وفضلاً، وعلماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...