انتقلنا إلى منزل جديد مع بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، وأخذنا من أحد الأحياء الشعبية في منطقة الهرم في مصر، مستقراً لنا. هنا، يغمرك شعور بالدفء والأمان عندما تتحسس صوت أناسٍ من حولك يتحدثون في الشارع عن أعباء حياتهم اليومية، وارتفاع أسعار بعض السلع، ورواتبهم الضعيفة التي باتت لا تكفي شيئاً. ينتابك شعور بالخوف عندما تتأمل ملامحهم المليئة بالمعاناة، لكنهم على الرغم من ذلك يبتسمون. في صباح أحد الأيام، وقفتُ وطفلتي إيميليا، التي تبلغ من العمر 19 شهراً، على شرفة المنزل، الواقعة في الطابق الثامن، والتي ترتفع عن الأرض 50 متراً على الأقل، ولاحظت بشكل مفاجئ أن ابنتي خائفة وتضمّني بقوة. لم أفهم السبب، واصطحبتها إلى الداخل، وجلبت لها بعض الحلوى لكي تهدأ.
نعم، الصوت مزعج، ولكن؟ قلت في نفسي أيعقل أن طفلةً لم تكمل العامين، تخاف من صوت الأذان بهذه الطريقة؟!
في اليوم الثاني لنا، في المنزل الجديد، وتحديداً عند موعد آذان الظهر، كانت ابنتي تلعب منفردةً، وفور أن سمعت صوت المؤذّن، أسرعت إلى مكان جلوسي، وأمسكت بملابسي بقبضة قوية، وشدّتني كي أحملها بين ذراعيّ. فعلت ذلك بالطبع، ووجدت ذراعيها يلتفّان حول رقبتي، وهي تغمض عينيها. للمرة الثانية، لم أفهم سبب هذا الخوف كله، لكن في البداية ظننت أنها خائفة من المنزل كونه جديداً، ومكاناً غريباً عنها.
تكرر الموقف للمرة الثالثة، وأنا أجلس بالقرب منها، لكن هذه المرة اكتشفت أنها خائفة من ضجيج مكبّرات الصوت في المسجد المجاور! نعم، الصوت مرتفع للغاية. نعم، الصوت مزعج، ولكن؟ قلت في نفسي أيعقل أن طفلةً لم تكمل العامين، تخاف من صوت الأذان بهذه الطريقة؟! أنا نفسي بالكاد أنزعج من هذا الصوت المرتفع الذي لا يُطاق، لكنه لا يخيفني، فلماذا إذاً يخيف الطفلة؟ لا أعلم.
راقبت طفلتي منذ بداية الشهر، وحتى يومنا هذا، على أمل أن تعتاد على الصوت المرتفع، فلا يصبح مخيفاً لها بعد ذلك، طالما أنه من الصعب أن أطلب من المسؤول في المسجد أن يخفض الصوت قليلاً، حتى لا أعرّض نفسي للمشكلات. لكن ظنّي لم يكن في محله، فالطفلة كلما رفع المؤذّن صوته عبر مكبّرات الصوت، تخاف وتجري نحوي كي تطمئن، ولا أملك إلا أن أقول لها "لا تخافي، أنا في جوارك، اطمئني".
اعتقدت أن الصوت يصلنا إلى داخل البيت بقوةٍ مزعجة، بسبب وجودنا في الطابق الثامن من المنزل، ومكبّرات الصوت دائماً ما يتم وضعها فوق المآذن، حتى إذا تم رفع الأذان، يصل النداء إلى الجميع، لكن عند نزولي إلى الشارع في أحد الأيام، قبيل أذان العشاء، برفقة ابنتي، وحين بدأ المؤذّن نداءه، أسرعَت نحوي خائفةً، بعدما كانت تلعب مع قطة، ومشغولة معها. الصوت، حتى في الأسفل، مرتفع أيضاً، لأنهم يضعون مكبّرات صوت أخرى على جوانب المسجد، بخلاف المكبّرات الموضوعة في الأعلى.
في اليوم الثاني لنا، في المنزل الجديد، وتحديداً عند موعد آذان الظهر، كانت ابنتي تلعب منفردةً، وفور أن سمعت صوت المؤذّن، أسرعت إلى مكان جلوسي، وأمسكت بملابسي بقبضة قوية، وشدّتني كي أحملها بين ذراعيّ
يسألني سائلٌ: لماذا خافت الطفلة بعد انتقالنا إلى منزل جديد في منطقة شعبية، والمدن في مصر كلها فيها مساجد؟ وهذا يعني أن المدينة التي كنا نعيش فيها سابقاً، كانت فيها مساجد أيضاً، فلماذا لم ألاحظ مخاوفها هذه هناك، مثلاً؟ في الواقع، كنا نعيش قبل شهر في مدينة الشيخ زايد، والبنايات في تلك المدينة متباعدة عن بعضها البعض، وغير متجاورة، والمساجد ليست ملتصقةً بالمنازل، مثل المناطق الشعبية، وصوت المؤذّن غالباً ما يكون رقيقاً وهادئاً، وأصوات المكبّرات غير مرتفعة إلى هذه الدرجة.
ربما لا تكون مكبّرات الصوت في المساجد مشكلة طفلتي وحدها، فهي مشكلة الآلاف من طلاب الثانوية العامة الذين تتزامن امتحاناتهم آخر العام، مع شهر رمضان الذي تصدح فيها أصوات المساجد منذ صلاة العشاء وحتى أذان الفجر، فكيف لطالب يصوم طوال النهار، وينتظر الليل حتى يراجع دروسه التي دفع أهله من قوت يومهم حتى يأخذها، ولا يستطيع مراجعتها بسبب مكبّرات الصوت؟ ما ذنب رجل مريض لا يتحمل الضجيج، ليسمع طوال الليل مكبّرات الصوت؟ لماذا لا تتم الصلاة من دون مكبّرات صوت؟
هل ينهار العالم، ويغضب علينا الإله، إن أخفضنا صوت الأذان قليلاً، أو حتى قمنا بإلغاء مكبّرات الصوت في المساجد؟!
أتذكر عندما كنت طالبةً في الصف الثالث الإعدادي، كان مدرّس اللغة العربية يحكي لنا سبب رسوبه في إحدى المواد الدراسية، عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية، وقد تزامنت امتحاناته مع شهر رمضان، وكان يصوم، فلا يكون قادراً على الدراسة في أثناء النهار، وفي المساء لا يعرف كيف يدرس كلمةً واحدة، بسبب صوت الشيخ في المسجد. ولما فكّر في الذهاب إلى أحد أقاربه، اكتشف أن الآخرين بجوارهم مسجد أيضاً، وفي النهاية رسب في الاختبار!
أنا لست ضد الأذان، ولست ضد إقامة الشعائر الدينية لأي شخص، ولأي دين، فلا فرق عندي بين بوذي، أو هندوسي، أو مسلم، أو مسيحي. كل شخص حر في ما يعتقد، لكنني ضد الضجيج، وضد الصوت المزعج، وضد عدم مراعاة ظروف البعض، سواء أكانت امتحانات، أو ظروفاً مرضية، أو أي شيء آخر... هل ينهار العالم، ويغضب علينا الإله، إن أخفضنا صوت الأذان قليلاً، أو حتى قمنا بإلغاء مكبّرات الصوت في المساجد؟!
المشكلة أن المصريين يقدّسون الرموز الدينية، فهم يرون أن الحجاب هو الإسلام، واللحية والمسبحة رموز للالتزام، ومكبّرات الصوت في المساجد، خلال شهر رمضان، هي رمضان نفسه، وهي شعيرة من شعائر التقرب إلى الله. ما ذنب رجل قضى طوال نهاره في العمل، وعاد إلى بيته مساءً حتى يرتاح من متاعب اليوم، فلم يستطع النوم بسبب مكبّرات الصوت؟ تقول لي: ولماذا لا يذهب إلى المسجد حتى يصلّي، وينام بعد الصلاة؟ ربما لا يصلّي من الأساس، فهل نحن أرباب كي نحاسب الناس على أفعالهم؟! ربما مسيحي، وليس من واجبه أن يتحمل هذا الصوت المرتفع، فهل نفرض عليه أن يتحمل رغماً عن أنفه؟!
لست ضد الأذان، ولست ضد إقامة الشعائر الدينية لأي شخص، ولأي دين، فلا فرق عندي بين بوذي، أو هندوسي، أو مسلم، أو مسيحي. كل شخص حر في ما يعتقد، لكنني ضد الضجيج، وضد الصوت المزعج، وضد عدم مراعاة ظروف البعض
وإن طلبت من الجهات المسؤولة أن تمنع مكبّرات الصوت في المساجد، وأظهر الإعلام هذه الدعوات، تجدهم يصيحون، ويهللون، ويعدّون مثل هذه الدعوات حرباً على الإسلام، بل إنهم يريدون أن يمنعوا بيوت الله من ذكر اسمه فيها.
الآن، أنا أواجه مشكلةً بالفعل، ولا أعرف لها حلاً، وهي سلامة طفلتي النفسية التي قد تتعرض للتشويش بسبب مكبّرات الصوت في المسجد المجاور، وأظن أنّ وجود شيء يخيفها بهذه الطريقة، سيخلق لديها مشكلةً نفسيةً مستقبلاً. فكيف أتصرّف يا ترى، وقد أجبرتنا الظروف على ترك المدينة السابقة التي ربما كانت العودة إليها من جديد هي أنسب الحلول، للتخلص من هذه المشكلة؟
هل يا ترى الأطفال الآخرون الذين يعيشون معنا في الشارع نفسه، يواجه آباؤهم وأمهاتهم هذه المشكلة، أم أنهم نشأوا عليها، فلم تعد مشكلةً بالنسبة إليهم؟ لكن ما أظنه بالفعل، هو أن أي صوتٍ يخرج عن إطار المقبول، يكون مخيفاً، وليس مزعجاً فحسب، ولا أجرؤ على تقديم طلبٍ لخفض درجة ارتفاع مكبّرات الصوت في المسجد. ربما ذلك يجعلني ألقى سخطاً وسخريةً غير معقولة، لكنني أسعى بكل ما أملك إلى عدم تعريض طفلتي لأي عبء، أو عقدة نفسية تحدث لها في الصغر، وتعيش معها في الكبر، وتظل حاجزاً بينها وبين الاستمتاع بحياتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...