شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
”يعدّون أوراق الخسّ ويقسمون الفجلة”... حكايات سكّان بيروت حول عربات الباعة المتجولين

”يعدّون أوراق الخسّ ويقسمون الفجلة”... حكايات سكّان بيروت حول عربات الباعة المتجولين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 22 أكتوبر 202102:23 م

يعدّون أوراق الخسّ ويرجعون دزّينة المناشف. يسألون عن سعر مرطبان العسل وينتظرون استعادة الألف ليرة بعد أن أخطأ البائع في الحساب. الأمّ توقع كيس الطماطم، وهي تحاول أن تسكت رضيعها. والجدّ يشتري السكاكر لحفيدته. حول عربات الباعة يلتقي سكّان بيروت. يتناقشون ويسلّم بعضهم على بعض كما يفعلون منذ سنوات. ومن خلال طلباتهم، يعكسون قدراتهم المادية والأحوال العامّة والخاصة.

هذه العربات الشاهدة على المدينة وتقلّباتها منذ عقود، مرّت بالناس وأخبارهم ومرّت عليها الحروب. واليوم، هذه العربات نفسها تجول في عزّ الانهيار.

لكل صاحب عربة قصّة. هناك من هو متعب ومن هو متفائل، وهناك من يرضخ للواقع ويتبدّل بتبدّله. من طريق الجديدة وسوق صبرا وصولاً إلى الحمراء، نورد في ما يلي قصص الباعة المتجولين في بيروت. قصص تعكس أجواء المدينة، وما بقي منها وما تبدّل.

"الناس بيتديّنوا الكعكة... والمصاري متل المي والهوا"

بجانب عربته المركونة في الشارع الممتد من مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، يجلس محمّد علي جواد (66 عاماً) بالقرب من عربته المليئة بالكعك. يُشعل سيجارته ويبتسم. تمرّ قربه امرأة تعرفه. تصرخ أثناء التقاطه الصورة: “أبو علي صار مشهور”. يضحك ويردّ: “كلّن بيعرفوني، صرلي 40 سنة هون”. يؤكّد على هذه المعرفة عبر مشاركة قصّة تحطيم عربته قبل عامين.

حينذاك، قرّرت إحدى الجهات المسؤولة أنه لا يحق لأبو علي بيع الكعك من دون الحصول على رخصة فتمّ تحطيم عربته. يومذاك، تضامن سكّان المنطقة مع أبو علي الذي شعر أنه شخصية مشهورة. وبعد انتشار قصّته حصل على عربة جديدة.

اليوم، الجهات المسؤولة نفسها لا تعترض على عمله، وبحسب تفسيره، فإن السبب نابع من الانهيار الحاصل. يقول: “ماذا سيحطّمون؟ لم نعد نملك شيئاً. إذا تعرّضوا للباعة فسيشنون حرباً عليهم لأن الناس جاعت”.

محمّد علي جواد. تصوير نغم شرف

حين كان يبلغ من العمر 13 عاماً، هرب محمد من منزل عائلته بعد وفاة والده، وتشرّد في الشارع. شهد المعارك القاسية أثناء نومه في العراء. واتّخد من عربة الكعك مهنة له. يروي قصّته لرصيف22: “من عربة الكعك ربّيت عائلتي وصرت جدّاً. في الأعوام الأخيرة وبسبب الانهيار تغيّرت الأحوال. بعض زبائني يستدينون كعكة الصعتر. يدفعون ألف ليرة لبنانية ويسدّدون ما تبقى من المبلغ في اليوم التالي. الكعكة التي كنت أبيعها بألف ليرة صار اليوم سعرها ستة آلاف”.

يرى أبو علي أنه محظوظ لأنه انتقل من منطقة النبعة إلى منطقة خندق الغميق، فأصبح أقرب إلى الفرن الذي يبتاع منه الكعك، وصار يوفّر 40 ألف ليرة يومياً من بدل إيجار الطريق، يقول: “العربة تبيت هنا، في هذا الشارع الفرعي. والفرن صار بقربي أقصده الساعة الرابعة صباحاً وأتوّجه من بعدها إلى عربتي”.

هؤلاء الذين يمرّون بيننا ولا نلاحظهم إلا إذا رغبنا في الاطلاع على ما وضع على عرباتهم. يجولون المدينة ما بعد سن التقاعد ويشهدون مسار الانهيار من خلال مهنتهم، وهم أوّل من يعلمون العابرين بارتفاع الأسعار وانخفاضها 

عند سؤاله عن ملاحظاته حول الوضع العام والتقلّبات التي يمر بها الناس. أجاب: “كرامة الإنسان تأتي من المال. الحياة هي المال الذي هو مثل الماء والهواء. كلّما أراد المرء الوصول إلى مبتغاه مدّ يده نحو جيبه. لن يأخذ أمواله معه بعد موته. لكن من الجميل أن يدخل إلى الدكان ويشتري قطعة الحلوى. راهناً، لم يعد الأب قادراً على مساعدة ابنه ولا الابن على مساعدة أبيه. بإمكاننا أن نأكل ونشرب فقط وذلك بمساعدة الناس الطيّبين. هكذا تلاشى جزء كبير من سعادتنا. الناس يعيشون بالقلّة من دون أن يفعلوا ما يحبّونه. لذلك أحاول أن أعمل، وأن لا أحتك بأحدهم أو بأي حالة من حالات الانهيار. أهتم بعائلتي وأديّن الناس كعكة الصعتر كي يسعدوا قليلاً... لست برجل أعمال لكن بإمكاني الدخول إلى الدكّان”.

نصف ربطة فجل وأوراق خس معدودة

تقف السيدة العشرينية قرب بسطة الخضار وتسأل عن كل الأسعار. بيدها 20 ألف ليرة فقط. هذا الورقة هي ثمن الغذاء الذي ستعدّه لعائلتها. تمر امرأة أخرى بجانب العربة وتقول إنها دفعت 200 ألف ثمن هذه الأغراض فقط. ترفع الأكياس القليلة التي تحملها في الهواء وتنتظر رداً. تضيف: “من سنتين كنت بعبّي البرّاد على أسبوع بهالمبلغ”. تقرّر السيدة الأولى أن تبتاع نصف كيلوغرام من اللوبياء فقط، تنتظر وتُعلم البائع أنه أخطأ بالحساب وعليه أن يعطيها ألف ليرة إضافية. يعتذر ويستدير ليرد على المرأة التي مرّت بجانبه: “إذا لقيتي سوق أرخص، قليلنا”.

في أول شارع سوق صبرا من جهة طريق الجديدة في بيروت يضع محمّد مخلوف (63 عاماً) بضاعته على العربة التي يستأجرها بسبعة آلاف ليرة في اليوم الواحد. يقول: “كنت أملأ العربة بـ100 ألف ليرة، اليوم أدفع مليوناً، لا تمتلئ، ولا أربح ليرة واحدة. آكل وأشرب وأتنقّل فقط. ذلك لأن الزبائن لم يعد بإمكانهم شراء الطعام والخضار والتجّار لا يرحموننا”.

محمد ملحم. تصوير نغم شرف

يعمل محمّد بائع خضار متجوّلاً في بيروت منذ 30 عاماً. يقسم أنه صار يستدين المال من الناس كي يدفع بدل إيجار منزله المستمر بالارتفاع شهرياً. يقصد سوق صبرا يومياً ويلتقي جاره وشريكه في العمل محمد ملحم (32 عاماً) المقيم في منطقة الدامور. يقول الأخير إنه ترك قريته في البقاع وقصد بيروت بهدف العمل لأن لا وظائف سوى في العاصمة. يشتري الخضار من التجّار بالجملة ويبيعها بالمفرّق للناس في ظل الانهيار الاقتصادي. يحكي: “الناس ما معها تشتري ربطة فجل، بقلولي قصها بالنص. صاروا عم بعدّوا أوراق الخسّة بس حتّى يطعموا أولادن”. ويضيف: “الحالة صعبة على الجميع والتجّار الذين يرفعون الأسعار يتاجرون بحياتنا نحن الباعة وبحياة الناس الذين لم يعد بإمكانهم تناول الطعام”.

منشفة واحدة بدل النصف دزينة

“كل شيء تغيّر من الناس إلى الأبنية. والعيش صار مستحيلاً. كي أتنقّل من برج البراجنة إلى الحمراء، أدفع يومياً 75 ألف ليرة. إذا استمر سعر الوقود بالارتفاع فسأضطر إلى ركن سيارتي التي أعتاش منها”.

في العام 1982 قصد علي عباس اسماعيل (64 عاماً) منطقة الحمراء وركن فيها سيارته المليئة بالمناشف والجوارب. اتّخذ من هذا التجوال اليومي مهنة له، ومن سيارته مكتباً يجلس فيه يومياً من الساعة السابعة صباحاً حتى الساعة السابعة مساءً.

في البداية، ركن علي السيارة حيث يقع الآن مبنى فندق التوليب ومن ثمّ راح يركنها في الموقف المقابل له. لكن حين أُقفل الأخير بهدف استثماره بمشاريع مربحة انتقل إلى موقف في منتصف شارع مقدسي. يقول: “سبحان الله، رزقي هنا في هذا المربّع منذ أيام الحرب حتى أيام الانهيار”.

عن تبدّل الأوقات خلال كل هذه السنوات. يعلّق: “الله لا يرجّع إيام الحرب. كان في مصاري صح مش متل هلّق بس الله لا يرجعها. الأمان أهم من الفقر”.

علي عباس اسماعيل. تصوير نغم شرف

عن الناس والتغييرات التي حلّت عليهم من النواحي المادية والتي يلاحظها هو خلال عمله، يقول: “في السابق كانت الزبونة تأتي وتشتري نصف دزينة مناشف. المنشفة الكبيرة كان سعرها 10 آلاف ليرة، اليوم صار 120 ألفاً. الآن، صارت الزبونة نفسها تشتري منشفة واحدة فقط. أما المنشفة الصغيرة فارتفع سعرها من خمسة آلاف إلى 65 ألفاً. الأسعار ترتفع والمعاشات ثابتة ونحن نأكل الضرب. الله يعين الناس”.

على الرغم من أنه بلغ سن التقاعد، وأولاده كبروا، لم يزل محمد كما كل من صادفتهم مولعاً بمهنته ولا يريد التخلّي عنها، إلا في حال وصلت الأمور إلى ذروتها ولم يعد بإمكانه التنقّل بسبب أزمة المحروقات.

في نهاية الشارع نفسه، يقف كمال جريس (77 عاماً) قرب سيارته البيضاء المحمّلة باليقطين.

زهور لعيد الأمّهات ويقطين لهالووين

يصف كمال المدينة بأنها صارت خالية من البحبوحة. الأموال في المصارف اختفت والفائدة أيضاً، وكذلك اختفى اليافعون من الأحياء. يقول: ”في السابق كان الشارع حولنا مليئاً بالشابات والشباب الذين يقصدونني لشراء الهدايا والورود. اليوم كلّهم هاجروا. زبائني صاروا من كبار السن المجبرين على البقاء في لبنان. هذا التغيير أثّر على عملي. قبل عامين، في موسم الهالووين، كان يقصدني تلامذة من الجنسية الأردنية يدرسون في الجامعة الأميريكية في بيروت، ويشترون الملابس لهم ولذويهم. هذا العام لم يأتوا. لذلك بدلاً من الملابس أبيع اليقطين“.

تتبدّل بضاعة كمال بحسب المواسم، في عيد الأم يبيع الزهور. في عيد الطفل يبيع الألعاب، وفي عيد الميلاد يبيع الزينة. يقول إنه يحب عمله، فهو الذي تخرّج من الجامعة نفسها التي يبيع تلامذتها، إذ درس إدارة الأعمال ويعمل بائعاً متجوّلاً منذ 40 عاماً. يحزنه أن الشباب رحلوا وأن القدرة الشرائية انخفضت، وصار عليه أن يلتزم قوانين الانهيار المفروضة على الجميع.

كمال جريس. تصوير نغم شرف

كمال مثله مثل كل من صادفتهم، يحاول أن يحيا وأن يحافظ على عمله الذي تعب وكدّ فيه سنوات طويلة. يُقفل سيارته الساعة الخامسة مساءً ويعود في صباح اليوم التالي ليفتحها، يقول إنه يفتقد المحال التي أقفلت أبوابها، وإنه يتأقلم عبر ملء صندوق سيارته بما يناسب الناس وقدرتهم المادية. مضيفاً أنه على الرغم من عدم عرضه الزهور على السيارة لديه نبتة جميلة في مدخل المبنى المجاور.

الناس يعيشون بالقلّة من دون أن يفعلوا ما يحبّونه. لذلك أحاول أن أعمل، وأن لا أحتك بأحدهم أو بأي حالة من حالات الانهيار. أهتم بعائلتي وأديّن الناس كعكة الصعتر كي يسعدوا قليلاً

هؤلاء الذين يمرّون بيننا ولا نلاحظهم إلا إذا رغبنا في الاطلاع على ما وضع على عرباتهم. يجولون المدينة ما بعد سن التقاعد ويشهدون مسار الانهيار من خلال مهنتهم، وهم أوّل من يعلمون العابرين بارتفاع الأسعار وانخفاضها من خلال بضائعهم. فيمر الرجل بالقرب منهم ويسألهم عن أسعار اليوم قبل دخوله الدكّان كي يعرف فقط ما ينتظره.

من هؤلاء الباعة من ركن عربته، ومن يستمر بتجواله اليومي، ومن يحاول أن يزور شوارع جديدة بحثاً عن رزق جديد. يعرفون السكان ويحفظون الحكايات ويدورون على الأحياء حاملين السلع المختلفة فوق عرباتهم وقصصهم عن بيروت تملأ ذاكرتهم وواقعهم. ويؤكّدون لنا حين نسمعهم، أنهم، من خلال عربتهم التي تأخذهم إلى كل الأمكنة، يعرفون تفاصيل المدينة وحياة ناسها، أكثر من سواهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard