"لا إله إلا الله، محمد رسول الله. توفي إلى رحمة الله تعالى الحاج محمود أبو موسى"، وقف شيخ الجامع الكبير بقريتي، كفر ميت العبسي، التابعة لمركز قويسنا محافظة المنوفية "دلتا مصر"، خلف مكبر الصوت ثم تنحّنح تمهيداً لإعلان خبر غير سار.
تلك صيغة معتادة في القرية للتعريف بالمتوفي، وإلى أي من العائلات ينتسب، وموعد الدفن والعزاء.
هو عم أبي، وكنت أناديه جدّي، أحد أبطال المشاة في حرب أكتوبر 1973، ودفن في الذكرى الـ 48 لعبور قناة السويس.
قبل ذاك التاريخ، أقصد يوم وفاته، كنت بعيدة تماماً عن حضور مراسم العزاء في القرية، ثمّة أمور تغيّرت.
الآن، أرى أرض مساحتها بضعة قراريط (القيراط الواحد يساوي 145 متراً) مزروعة ذرة تجرف ليتمكن العمال من نصب الصوان (سرادق العزاء) في مساحة كبيرة تتسع للوافدين من القرى المجاورة.
من طقوس العزاء في ريف مصر، تصوير تامر عباس
وفي محاذاة منزل العائلة، يستعد الشيف لوضع العدة الخاصة به: أوان كبيرة، وخضر، وأرز بسمتي، ولحم متبل للشواء، كما الوجبات المقدمة في العرس.قبل سنوات، كان الامتناع عن الطعام في عداد العادات المقدرة خلال العزاء، واشتهرت القرى بخروج النسوة من البيوت المجاورة ليقدمن إلى أهل المتوفي أواني ممتلئة بالطعام، لكنهن يخترن بين أصناف محددة، لا يصح أن يُطهى المحشي أو الملوخية أو المعجنات مثل الفطير، وتمنع الأسرة من خبز الكعك أو شراءه لمدة عام كامل.
والآن، أرى الطعام يقدم في أطباق ورقية مقسمة، بها قطعة من اللحم المشوي، والسلطة، وأرز، إضافة إلى المشروبات الساخنة، وزجاجات المياه المعدنية. اضطرب إحساسي خلال المناسبة، هل أنا في موسم فرح أم حالة حزن؟
من طقوس العزاء في ريف مصر، تصوير تامر عباس
سيارات فارهة تتراصّ أمام السرادق، يدخل من فيها إلى مقدمة الصِّوان، يجلسون بالقرب من القارئ، لهم مقاعد تشبه الكراسي المركونة بغرف المعيشة، مبطَّنة من الأطراف والخلف والأمام محل الجلوس، تعرف بالـ vip، فيما توجد المئات من المقاعد العادية للضيوف العاديين أو الأقل مكانة من كبار الزوار.أما اللقطة الأبرز فهي وجود مصور فوتوغرافي محترف لا يترك وجهاً إلا التقط له صورة، ووثّق حضوره، ماذا كان يرتدي؟ وإن كان متأثراً أم جاء بحكم العادة والعرف أو "تقضية واجب" كما نطلق عليها.
"صورت بدرون"
إسلام الشيخ، طالب بكلية الهندسة، احترف تصوير العزاء منذ ثلاث سنوات، دفعه حبه للاستماع إلى قراء القرآن، ورغبته في نشر مقاطع مصورة لهم إلى شراء كاميرا، وتوثيق العزاء بالفيديو.
بدأت طلبات الزبائن تتغير منذ عام 2018، طُلب منه عدم التركيز على الشيخ فقط في التصوير، بل كذلك على الحضور، فيديو وصور فوتوغرافية، إضافة إلى تصوير السرادق بكل تفاصيله.
"فيه ناس بتقابلني تقولي مش عارف ده عزاء مين... وفيه شباب بتقعد تهيّص... مش عارفين امتى يستعيذوا بالله (عند سماعهم للقرآن) "
يقول إسلام لرصيف22 إن مسألة تصوير العزاءات بشكلها الحالي شائعة جداً في المحافظات الإقليمية، بعيداً عن القاهرة والإسكندرية، وكانت إحدى القرى بمحافظة الشرقية "دلتا مصر" أول من ابتدعت ذلك الأمر.
ويطلب منه الزبائن أحياناً تصوير خمسمئة صورة إلى جانب الفيديو، فيضطر إلى أخذ ثلاث كاميرات: واحدة موجهة إلى القارئ، وثانية تتنقل بين الحضور، والأخيرة يتجول بها داخل السرادق لالتقاط الصور.
من طقوس العزاء في ريف مصر، تصوير تامر عباس
يذكر الشيخ أن قرية بالمنوفية أقامت عزاء بلغت تكلفته قرابة 200 ألف جنيه (12750 دولار)، وتم تصوير السرادق بـ "الدرون"، طائرة بدون طيار، وكان ذلك بالنسبة لأهل القرية حدثاً عصيّاً على النسيان. فرغم مرور عام لا يزال العزاء مجالاً لحكايات الناس، الذين حضروا للاستماع إلى ثلاثة قرّاء من الإذاعة المصرية، وأقيم على مساحة عشرين قيراطاً، وشاشة عرض كبيرة في مقدمة الصوان، إضافة إلى ذبح عدد كبير من المواشي، وتجهيزها بواسطة شيف محترف.كما يلاحظ حدوث تغيير في شكل القماش والسجاد والكراسي كل صيف، وحتى أساليب التصوير التي يتم استحداثها للخروج بنتائج أقرب إلى الأفراح.
وعن تكلفة التصوير وأبرز المحافظات التي تطلبه، يبيّن إسلام، الذي تخصص في تصوير العزاء فقط، أن الرسوم تختلف باختلاف عدد الكاميرات المطلوبة، وعدد الصور الفوتوغرافية. ويرى أن محافظة الشرقية الأكثر طلباً لتوثيق مناسبات الفقد، وكذلك محافظات المنوفية والقليوبية.
أما القاهرة والمحافظات الكبرى، بحسب إسلام، لا توجد بها روابط عائلية، ومقارنات كما في القرى. "لذلك لسنا مطلوبين في الحضر"، بحسب قوله.
أحدث صيحة
قديماً، كان لكل قرية بناء يسمونه "مضيفة"، وهو مكان ساهم في تشييده جميع الأهالي، يشبه دار المناسبات بشكلها الحالي، كان هذا البناء مخصصاً للعزاء، ويتكون من مقعد أسمنتي في المقدمة، يجلس عليه الشيخ أو "الفقي"، وفي الجوانب والمنتصف مقاعد أكبر حجماً بنيت من الطوب والأسمنت، جميعها متشابه، وتُخصَّص لأكابر القرية والطبقات الفقيرة.
الأمور لم تعد بهذه البساطة، بل قسّمت من الداخل إلى طبقات، فأعيان البلدة والتجار ومندوبو مجلس الشعب أحياناً لهم مقاعد مبطنة من الجانبين والخلف، ومغطاة بالجلد، يعرف الجميع مكانتهم الاجتماعية من موقعهم القريب من القارئ، فيما ينتشر المنحدرون من طبقات أقل مكانة في منتصف الصوان، ولهم مقاعد عادية بأرجل وظهر معدن.
من طقوس العزاء في ريف مصر، تصوير تامر عباس
منذ طفولته، كان أيمن القارح، أحد كبار العاملين في فراشة العزاء والأفراح، يذهب مع والده الذي امتهن هذه المهنة قبل عقود، يقول لرصيف22 إن القماش المستخدم في فرش العزاء كان يصلح للأفراح أيضاً إذ تم تصميمه بلون أزرق أو أحمر مزركش، كذلك السجاد والكراسي الخشبية.لكن في السنوات الأخيرة، ظهرت تصميمات جديدة من الفراشة، منها الأبيض المرسوم عليه الكعبة بلون أسود، أو الأسود المكتوب عليه الشهادة (لا إله إلا الله) أو (الله نور السموات والأرض) بلون ذهبي.
يقول: "أحدث صيحة هذه السنة في العزاء أن تكون الفراشة باللون الزيتي (إحدى درجات الأخضر)، لكنها جميعاً لا يختلفون في السعر".
لا يخفي القارح استياءه من ارتفاع أسعار الخامات المستخدمة في العزاء، خاصة أن ثمن "طقم الأنتريه" و"دكة القارئ" أصبح مرتفعاً لكنهما مطلوبان.
منذ عام 2013 ظهر اتجاه في القرى لتمييز أبناء العائلات الكبرى، بطلب مقاعد تليق بمكانتهم الاجتماعية، مما دفع العاملين في هذا المجال للتنافس على شراء كراسٍ تطغى عليها الفخامة.
ويضيف القارح: "الحالة المادية لأهل المتوفي وعلاقاتهم بمن حولهم، تحدد تكلفة العزاء، بمعنى أن تجار المواشي وأصحاب الأراضي الزراعية ومؤسسي شركات النقل تكون لهم علاقات بنواب مجلس الشعب، وبعض العائلات الكبرى بالقرى المجاورة، فيرغبون في صنع حدث يليق بمستواهم، حتى لو كانت مناسبة حزينة".
الشيخ فارق أحمد ضيف، القارئ باتحاد الإذاعة والتليفزيون، يقول إن السنوات الأخيرة شهدت أموراً دخيلة على العزاء، ففي الماضي كان من يحضر كاميرا إلى العزاء يلام على فعلته لأن التصوير كان مرتبطاً بمراسم الأفراح فقط، أما الآن فأصبحت أساسية ويتم الاتفاق عليها أثناء الاتفاق مع القارئ، ولوازم العزاء الأخرى.
يتم تصوير كل شخص حضر العزاء بشكل احترافي، لأن أهل الميت تركيزهم ضعيف أثناء العزاء، وهم يريدون أن يعرفوا من حضر، وكيف كان تأثره بموت الفقيد
وبحسب القارئ المصري، فإن التصوير "فتح أبواب رزق" للشباب، وأصبح مصدراً لكسب المال الذي يساعدهم على ظروف الحياة، لا سيما أنهم لم يفرضوا أنفسهم على أحد بل يطلبهم أهل المتوفي، ويبررون ذلك بأنهم يكونون في حالة ضعيفة من التركيز أثناء العزاء، والفيديو يمكن الرجوع له ومعرفة من حضر وواساهم ومن لم يحضر، مستدركاً أنه "لا يزال هناك من يرفض التصوير بكل أنواعه في العزاء".
من طقوس العزاء في ريف مصر، تصوير تامر عباس
ويذكر ضيف أنه لاحظ تغييراً في مشهد العزاء مقارنة بالماضي، حتى في المستمعين إلى تلاوة القرآن: "فيه ناس بتقابلني تقولي مش عارف ده عزاء مين بس أنا جاي أسمعك، وفيه شباب بتقعد تهيّص وخلاص، مش عارفين امتى يستعيذوا بالله (أثناء سماع أيات العذاب) وإمتى يسألوا الله الجنة، بيفضلوا يقولوا الله وخلاص، لكن زمان الناس كانت بتيجي تسمع، وكانوا واعيين أكتر من دلوقتي".
تطور مجتمعي
هدى زكريا، أستاذة علم الاجتماع بجامعة الزقازيق، ترى أن التغييرات التي طرأت على المناسبات الحزينة تمثل شكلاً من أشكال تطور المجتمعات الإنسانية وليست أمراً غريباً، وأرجعت هذا التطور إلى دخول وسائل التواصل الاجتماعي حياة الناس ومن ثمّ خلّفت رغبة لديهم في توثيق كل ما يمرون به من مشاعر ومناسبات على المنصات الإلكترونية، باعتبارها فرصة لتسجيل حياتهم.
وتقول لرصيف22: "التطور في وسائل الاتصال أثّر على طريقة الاحتفال والحزن، الناس مندهشة من التصوير ووجود شيف بالعزاء، ولكن ذلك كان يحدث منذ مائة عام في الصعيد، عندما يموت أحدهم يطبعون "كارت" يشبه دعوات الأفراح، عليه اسم المتوفي، واسم الذكرى التي سيحييها أهله، سواءً الأربعينية، أو السنوية".
وتلفت إلى أن المناسبات تعتبر فرصة لإظهار الوجاهة الاجتماعية، خاصة في الريف إذ توجد العائلة الممتدة، ليست الأم والأب فقط مثل المدينة، لذا مستوى الإنفاق يكون على مستوى العائلة الكبيرة ومستواها الاجتماعي، وليس العائلة الصغيرة.
ويتفق معها الشيخ ضيف، قائلاً: "التفاخر يعتبر دافعاً أساسياً للتكلفة العالية للعزاء"، ويختم حديثه بواقعة حدثت معه، إذ اتصل به أحد الزبائن، قائلاً: "أنا جايبك بس عِند في ابن عمي؛ عشان كان متفق مع الشيخ فلان يُحيي عزاء عمي، وقولت لازم أجيب حد أحسن منه لعزاء والدي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...