"وجدت سعادتي بين القبور، الناس يرونها رمزاً للموت والخوف، وأنا أراها رمزاً للحياة، هنا أجد رزقي، وأتذكر دائماً أن الحياة فانية"، يقول العم صالح (60 عاماً)، متحدثاً عن عمله كـ "دهَّان" قبور حسب الطلب في مناطق الريف التونسي، والمقابر التي لا تقع تحت سلطة البلدية.
ويضيف لرصيف22: "قضيت نصف عمري أتجول بين القبور، أقوم بدهنها، وتنظيفها، وعندما أشعر بالتعب أجلس بينها، أحكي همومي للموتى، أشعر أنهم يسمعون ما أقوله، فأحس براحة لا توصف".
"لن أغير مهنتي"
بدأ العم صالح عمله كدهّان للقبور قبل أكثر من ثلاثين عاماً، ويتقاضى مقابل دهن القبر الواحد حوالي سبعة دولارات، يقول إن "الطلب على دهن القبور يزدهر خصوصاً في فصل الصيف، بينما تقل فرص العمل في الشتاء، ورغم ذلك لم أفكر يوماً في تغيير مهنتي".
"أحكي همومي للموتى، أشعر أنهم يسمعون ما أقوله، فأحس براحة لا توصف"
يواصل حديثه وهو يبتسم: "أستغرب كثيراً ممن يرون المقابر مصدراً للخوف، ويربطونها عادة بالأرواح والشر، أنا أجد فيها السكينة وراحة البال، فبكل بساطة الميت لا يؤذي بل الأحياء هم يؤذون بعضهم بعضاً".
"عندما أدهن قبراً قديماً أشعر وكأنني أهب الحياة من جديد للميت، وأحس بسعادة وأنا أقوم بعملي، وبحكم خبرتي الطويلة أصبحت أعرف أهالي الموتى، وأحزن لحزنهم، وأشعر بهم. ببساطة أنا أبحث عن الحياة بين القبور، وعملي ليس غريباً كما يراه كثيرون"، يختم العم صالح حديثه.
"الموت يهبنا الحياة"
"الموت يمكن أن يهب حياة للآخرين، تعيش مئات الأسر من العمل في المقابر وأنا شخصياً درّست أبنائي من عملي كحفَّار للقبور"، يقول العم محمد الطيب (55 عاماً)، يعمل هو الآخر في مناطق الريف التونسي.
ويضيف متحدثاً عن تجربته المهنية: "بدأت العمل رفقة شقيقي قبل سنوات طويلة، في محافظات تونس الكبرى، وأصبحنا معروفين في هذا المجال".
ويتابع: "هو عمل عادي مثل كل الأعمال. المهم أننا نجني لقمة عيشنا في ظل وضع اقتصادي واجتماعي صعب تعيشه بلادنا منذ سنوات، صحيح أن الموت يُسبّب الحزن والألم، لكنه أيضاً مصدر لكسب الرزق".
ويستدرك: "هذا لا يعني أنني لا أشعر بألم عائلات الموتى، فأنا فقدت أحبائي، لكن تلك هي سنّة الحياة، فيمكن أن يكون الموت مصدراً لحياة عشرات العائلات".
ملاذ المتشردين الآمن
لطالما كانت المقابر في كل البلدان العربية ملاذاً آمناً للمشردين، وفاقدي السند، في حين تعيش آلاف الأسر والعوائل في مصر والعراق في مراقد الموتى منذ سنوات طويلة وسط عجز حكومي عن التصدي لهذه الظاهرة.
وفي تونس أيضاً يلجأ مشردون وفقراء إلى المقابر للنوم فيها ليلاً، فعندما يحلّ الظلام، وتصبح الشوارع خالية من المارة، ومن ضجيج الأطفال، يحمل العم عبد الله كيس ثيابه، وبعض الطعام، الذي جاد به عليه المارة، ويتسلل إلى مقبرة "دوار هيشر" في محافظة منوبة، ليقضي فيها ليلته. يقول: "أعيش على هذه الحال منذ حوالى سبع سنوات، لم أجد بيتاً يفتح لي أبوابه أو أحداً من الأحياء يستضيفني في منزله، لكنني وجدت هنا الملاذ الآمن، واستقبلني الموتى".
ويضيف: "وجدت نفسي دون منزل يؤويني من برد الشتاء وحرارة الصيف، لم يستقبلني الأحياء في بيوتهم، واحتضنني الموتى في مقبرتهم، لست سعيداً لكنني على الأقل وجدت مأوى آمناً".
حارس المقبرة
العم بلحسن (60 عاماً) أمضى هو الآخر معظم عمره بين الموتى، يعمل حارساً في مقبرة بمحافظة أريانة التونسية، ويقول: "بدأت عملي قبل 30 سنة، أقضي ستة أيام في الأسبوع في المقبرة، أتجول بين القبور، وأتفقدها، وأحرسها من المشعوذين بعدما كثر الحديث عن سحر المقابر في الأشهر الأخيرة".
"جرَّدني عملي في حراسة المقابر من الإحساس بالموت، الذي أراه يومياً، وجعلني لا مبالياً بالحياة"
ويضيف: "حياتي تتلخص في تجوالي بين القبور، وتعزية أهالي الموتى، ورواد المقابر، فهم من مختلف الفئات والأعمار لكن أكثرهم نساء، وقد حفظت وجوههن عن ظهر قلب حتى إنني أتقاسم معهن الآلام لدى تفقد أحبائهن الراحلين".
ويتابع العم بلحسن: "عملي يبدو سهلاً في ظاهره، لكنه جردني من الإحساس بالموت الذي أراه يومياً في كل ركن من أركان المقبرة، وأثّر فيّ جداً حتى أصبحت إنساناً لا مبالياً بهذه الحياة".
ويواصل: "يستغرب كثيرون عندما يعلمون أنني أنام بين الموتى، أحرسهم ليلاً، وأتفقد قبورهم نهاراً، لكنني أجيب دائماً بأن الميت لا يخيف ولا يؤذي، فمن عملي في المقبرة قمت بتربية أطفالي وتدريسهم وأجني الأموال بعرق جبيني".
مهن عادية
يعلق برهان اليحياوي، الكاتب المهتم بشؤون الفقراء والمهمشين: "العمل طريق يحقق من خلاله الإنسان استقلاليته المادية، والمعنوية، ولذلك يلج إلى عالم الأعمال لتحقيق طموحاتهم أو جزء منها". ويضيف: "ينظر كثيرون لبعض المهن على أنها غريبة أو مخيفة مثل الأعمال في المقابر وحفر القبور ودهنها وحراستها ليلاً، وذلك باعتبار أننا ننظر إلى المقابر على أنها مصدر للموت والخوف فقط".
ويكمل برهان اليحياوي، وهو مؤلف كتاب "أنا وظلال" عن فقراء محافظة القصرين، لرصيف22: "هي مهن عادية، يلجأ إليها كثيرون من أجل كسب المال، وأحياناً تكون متوارثة عن الآباء والأجداد، لكن هذا لا ينفي لجوء السحرة والمشعوذين إلى المقابر لممارسة أعمال الدجل، وهذا يصنف في خانة الإجرام، لذا نحتاج إلى حراس المقابر لمنع هذه الظواهر الغريبة، التي انتشرت بشكل لافت".
ويعتبر اليحياوي أن هذه المهن ازدهرت كثيراً في السنوات الأخيرة، إذ يلجأ إليها تونسيون بسبب الضغط الاقتصادي الذي تعيشه تونس، ومن جهة أخرى يتخذ البعض من حفر القبور ودهنها مهنة ثانوية، كي يتمكنوا من مجاراة غلاء المعيشة، وكسب لقمة العيش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...