شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
مات صديقي غرقاً ومعدتي تئن جوعاً... طعم الحزن الذي حلمتُ بالتهامه

مات صديقي غرقاً ومعدتي تئن جوعاً... طعم الحزن الذي حلمتُ بالتهامه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 22 سبتمبر 202105:42 م

"حين ولدت

سهت أمي عني دقيقة

فالتهمني الحزن ثم بصقني

ومنذ ذلك اليوم بت ألتهم كل شيء"

هذا مقطع من قصيدة كتبتها الشتاء السابق، سميتها "الحزن"، أفكر هل بصقني فعلاً أم التهمني تماماً؟ كنت قد أنهيت هذه القصيدة بجملة: "ولم أستطع التهام الحزن"، أتساءل هل للحزن مذاق؟ وإن كان له مذاق فترى كيف سيكون طعمه؟

يحزن أخي فيفقد شهيته تماماً، بينما أنا لا، تستمر معدتي في الصراخ، أنا جائعة، فأُتهم أحياناً بأن حزني غير صادق.

أسترجع في ذاكرتي الجمل المأثورة في ثقافتنا عن الأكل وتأثيراته الصحية، مثل: "لو عرفوا الستات فضل الجرجير لزرعوه تحت السرير"، "كل فسفور عشان تنور"، "الكوارع بترم العضم"، "اللي كواها البين تطبخ المحشي".

نعم، ثقافتنا مليئة بالحديث عن الطعام والوصفات الشعبية التي تزيد من القدرة الجنسية، أو التي تعلم المرأة كيف تصل للرجل عن طريق معدته. لم أجد ولو إشارة واحدة عماذا يمكن أن يأكل الحزين.

بقدونس وطماطم

كنت أعرف جيداً ماذا علينا ألا نأكل، فمثلاً في طنطا، كسائر مدن دلتا مصر، التي عشت فيها فترة، حين يموت أحدهم يُمنع إعداد المحشي، والمعجنات، والكيك. كما يُمنع الكعك وأشباهه أو حتى شراؤه من الخارج من ستة أشهر إلى سنة لأن هذه الأكلات تدل على الفرح.

حتى القهوة في العزاء تكون بدون سكر، أما في الصعيد فيعدون ما يسمى بـ "الفكة"، وهي من لحم وملوخية وخبز فقط، لأن صنع أصناف متعددة أمر غير لائق.

هذا ما وجدته عن الطعام والحزن حين بحثت على غوغل، حديث عن طقس جماعي، وعادات شعبية، في حدث جلل، لكن ماذا عن الفرد؟ ماذا عن شهوة الطعام المجنونة المرتبطة بالأحزان الشخصية العادية (لو كان يمكننا أن نسميها هكذا) كيوم عمل سيئ، أو الرسوب بالجامعة، أو عراك صاخب مع صديقتي أو أمي، أو الأرق الذي يلازمني لأيام هو واليأس والخوف من المستقبل، وصديقي الذي فقدته في البحر لكن لا أحمل الشجاعة للموت وراءه؟

أشعر بالجوع عندما أحزن، وحلمت بالتهام هذا الإحساس مع الأكل... جعتٌ عندما رسبتُ بالجامعة، وفي عراك صاخب مع صديقتي أو أمي، وصديقي الذي فقدته في البحر لكني لا أحمل الشجاعة للموت وراءه؟!

بعكس صديقاتي لا يمكن أبداً للشوكولاته أن تحسن مزاجي، بل بالعكس تزيدني حزناً وخمولاً. قرأت في مواقع محلية عن دراسات أثبتت أن من يتناولون الشوكولاته الداكنة بمعدل حصة أو حصتين خلال اليوم هم أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب بنسبة 70%.

ولكني لست من الـ 70% هذه، ربما لهذا السبب مازحني أصدقائي دائماً، بكلمات مثل: "إنتي في عيد الحب يجيلك بقدونس وطماطم بدل الشوكولاته والورد".

مأساة أن يكون لك إحساس خاص مختلف عن الشعور الجمعي المرتبط بالطعام وحالاته، فالمقليات مثلاً أشعر وكأنها تثبتني في الأرض كصخرة، ورغم حبي للحوم (غصباً عني بحكم عشق الجميع لها) كانت تذكرني بالموت، مرة لأنها جاءت إليّ عن طريق قتل هذا الحيوان الذي ألتهمه، ومرة لأنها الطعام الرسمي للمآتم، حتى أنني ربما اكتشفت الآن، وأنا أكتب كيف يمكن أن يكون طعم الحزن، هل يكون كطعم اللحم المسلوق؟

أحب الطعام والطبخ، وأحب اكتشاف وصفات جديدة من دول مختلفة، آكل اللحوم بأنواعها المختلفة، وأتفنن في طهوها، ولا أشعر أنها جريمة بحق الحيوانات (أو ربما هذا ما أعتقده) لا أهتم بالطعام الصحي، ولا بالسعرات المحسوبة، ولا بوزني الزائد، أتبع المثل القائل: "كل ما بدك، بكرة بتكبر وسنانك بتوقع"، أما حين أشعر بحزن فلا أستطيع أن أتذوق أي شيء سوى الخضر والفاكهة، وما عداهما يصيبني بالغثيان، ولسنوات لم أفهم السبب.

الطبيخ الغامق والخرشوف

كان الأسطى رضا، سواق التاكسي الذي قام بتجسيد دوره الفنان محمود عبد العزيز في فيلم "الدنيا على جناح يمامة"، يصرخ في زوجته دائماً حين تقع مصيبة، قائلاً: "قلتلك بلاش طبيخ غامق، باتشائم، نجمي مش جاي معاه".

ها أنا وجدت أحداً يشبهني ولو قليلاً، فأنا أيضاً أتشاءم من أكل السمك يوم الإثنين تحديداً، بينما أحبه بقية أيام الأسبوع.

توفت "ستي" فتحية، والدة أمي، يوم الإثنين، وكانت قد أكلت سمكاً يومها، لم يكن للسمك علاقة بموتها، مع ذلك لا نأكل السمك يوم الإثنين مطلقاً، لا أنا ولا أمي.


ولأني شخص يراقب نفسه كثيراً، ولأنني مؤمنة أني لن أستطيع فهم نفسي إلا عن طريق التجربة والناس، قررت أن أسأل بعض أصدقائي عما يأكلون وقت حزنهم.

في البداية لم يفهم الكل سؤالي بشكل صحيح، كنت أجد تهكمات غريبة، وأحياناً نظرات لوم، "هو الواحد ساعتها بيكون له نفس ياكل"، شعرت ببعض الضيق، لكن أكملت ما بدأته، علني أجد من يشاطرني تجربتي.

أخيراً، تلقيت الإجابات، أكثر ما أسعدني هو أنني لست وحدي، أنا لست غريبة الأطوار، لكل منا فعلاً عادة غذائية مختلفة وقت الحزن.

وكانت الإجابات شديدة التنوع والغرابة، وكل واحد منهم كان يبرر اختياره برؤية فلسفية مختلفة، قد يراها الآخر محض هذيان أو تفلسف غير ضروري، لكنني كنت على يقين تام بأن لولا هذه الطرق التي يتبعونها لما استطاعوا المقاومة.

صديقتي مي عامر (33 عاماً)، باحثة في الأغنية الشعبية، قالت: "لما بزعل باكل كريمة عشان حنينة"، وأخرى قالت: "عيش ورز عشان بحس إني لما باكون أتخن بكون أقوى".

وأجابت فاطمة (25 عاماً)، تعمل في مجال التسويق بشركة شوكولاته: "ميلك شيك، وحلويات كتير، ودهون كتير"، وآخرون يطهون أكلات لها ذكريات معهم، كأكلات الجدات والأمهات، أو أكلة أكلوها ذات مرة مع شخص عزيز.

"يعني هعمل إيه؟ أموت من الجوع؟ ما أنا لازم أكل".

أما صديقي مهند (24 عاماً)، مدير دار نشر، الذي كان يأكل، مهما كان الأمر محتدماً، قال: "هعمل إيه؟ يعني هعمل إيه؟ أموت من الجوع؟ ما أنا لازم أكل وهفضل برضه زعلان بس لازم أكل"، وحين سألته ماذا يفضل أن يأكل في هذه الأوقات، قال: "نواشف. سندويتشات كده، حاجات مش محتاجة مجهود، مانا مش هبذل مجهود في الحزن، وكمان في الأكل".

كنت أستمع إلى أصدقائي وأتعجب أحياناً، وأضحك أحياناً، لكن في كل الإجابات شعرت بالحب والدفء، وكيف يمكن للطعام والذكريات أن تحتضننا، لكنني لم أجد بعد أي خيط أعرف من خلاله نفسي، ولم كان لهذه الخضر هذا التأثير عليّ، حتى تحدثت أنا وصديقتي خلود (24 عاماً)، معيدة في قسم لغة عربية بجامعة القاهرة.

أخبرتها أنني أكلت اليوم كشري، وأشعر أنه أكلة غير مناسبة للحزن تماماً، ورغم أن أنا التي طلبته، أريد الآن أن أفترش الأرض وأبكي، لأنه ضاعف أحاسيس الحزن داخلي بشكل غريب، ثم سألتها ماذا تأكل هي في مثل هذه الأوقات؟

كانت إجابتها بمثابة المفتاح الذي فتحت به باباً من أبواب روحي، التي تختبئ مني باستمرار: "في الأوقات دي بطبخ خرشوف... باحسه بيواجه الأحزان بدون صخب".

بدأت أفكر في الخرشوف، أراه كثيراً حين أذهب للسوق، جميل يشبه الزهرة، وما هو بزهرة، لونه زاهٍ ومبهج، ويمكن أن يؤكل بأكثر من طريقة، لا أعرف لمَ لم أجرؤ ولو مرة على شرائه.

أنهيت الحديث مع صديقتي، لكن لم أتوقف عن التفكير بالخرشوف، أو بألوان الخرشوف، بقيت كذلك وأنا أحضر سلطة الجرجير والرمان، وهي تتكون من الجرجير، الطماطم، الرمان، جبنة الفيتا، بإضافة دبس الرمان والليمون والملح، ونظرت للطبق فجأة، فإذا هو خليط ألوان سعيد ومتناسق.

"لما بزعل باكل كريمة عشان حنينة"، "باكل عيش ورز عشان بحس إني لما باتخن بكون أقوى"، تقول نساء ورجال لرصيف22، فماذا عنكم/ن، هل تشعرون/ن بالجوع في أوقات الحزن والمصائب؟ وماذا تأكلون؟

قفزت في المطبخ من الفرح، عرفت السر، عرفت السر، كان ما يحذبني هو الألوان، الفواكه والخضر ملونة لأنها تحتوي على مركبات كيميائية تسمى الكاروتينات، تمتلك بدورها منطقة تسمى الكروموفور، التي تمتص الضوء، وتحتوي الخضروات الورقية على الأوميغا 3، وحمض الفوليك مما يساعد في إفراز هرمون السعادة.

كل الألوان

منذ زمن وأنا أريد أن أتحول فراشة، أن أخرج من شرنقة الأفكار والخوف، حين أحزن تكون روحي قاتمة وصماء، فأحاول تلوينها، حبة فراولة تعيد اللون إلى وجنتي، وأوراق السبانخ تنبت لي أفرعاً وكأن لي أكثر من ذراع أحمل بها أعباء الحياة بلا ملل، والشمندر ينبت لي الجناحين، فأصير أكثر خفة وأطير.

أسمع كثيراً كيف يتحدث الطهاة في برامج الطبخ: "لازم الطبق يبقى فيه كل الألوان"، أي أن يحتوي على كافة العناصر الغذائية، أنا لا أهتم بهذا، آخذ الألوان فقط، ويجب أن تكون طبيعية 100% وإلا فسيعلم جسدي أني أخدعه، ووقتذاك قد يسقط ويتهشم لآلاف القطع بعد أن كان يحلق سعيداً.

مع كل شوكة من طبق السلطة أشعر بنمو وردة صغيرة حمراء أو بنفسجية خلف أذني، أفرح وأتحسسها كما لو كانت موجودة بالفعل، وأعود للشعر من جديد، وأتذكر قول الشاعر أحمد الطحان:

"وأنت حر

يا تبقا وردة جمب ودني

يا تبقى عاهة مستديمة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image