لم يظهرْ قط فاتحون ساروا بالتسامح والاعتدال تجاه المغلوبين، أبعد مدى مما سار عرب الأندلس، فلغة العرب غدتْ منذ القرن العاشر، لسان المسلمين واليهود والنصارى المشترك، وصار الزواج المختلط كثير الوقوع، على الرغم من معارضة النظام الكنسي الكهنوتي (الإكليروس).
زال ما للدراسات اللاتينية والكنسية من نفوذ تماماً، ومن ذلك ما رُئي من أمر الأساقفة الذين كانوا ينظمون الشعر العربي، مراعين جميع دقائق اللغة والوزن.
ما سبق مقتبسٌ من كلام المؤرّخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان في كتابه "ابن رشد والرشدية".
ويضيف رينان: "وفي مجال العلم والدراسات، انسجم الباحثون والعلماء من المسلمين واليهود، حتى أن أكاديمية قرطبة خضعت لرئاسة اليهود في بعض الأحيان".
كما شارك اليهود في الوظائف العامّة والكبرى للدولة، واشتهر منهم حسداي بن شبروط، الذي كان طبيباً للخليفة عبدالرحمن الناصر (300-350هـ/912-961م)، ثم وزيراً له، وغيره.
لم تكن الأحياء اليهودية تتسع للمزيد من السكان، بل توسّعتْ أحياؤهم، لكثرة اليهود الوافدين على الأندلس من أنحاء شتى، لينعموا بالعيش هناك، بحسب كتاب "اليهود تحت حكم المسلمين في الأندلس" لخالد يونس الخالدي.
بعد انهيار الخلافة الأموية في الأندلس، وبداية عصر ملوك الطوائف، ومن ثم فقدان مدن وأراضٍ لصالح المسيحيين، بدت الفاجعة على المسلمين واليهود معاً، ونلحظ ذلك في شعر الاستغاثة والاستصراخ "العربي والعبري" في الأندلس، الذي يبدو فيه الحنين للوطن الأندلسي، وطلب النجدة والغوث من الواقع الجديد.
كيف كان شكل هذا الشعر "العربي والعبري"؟ وهل اختلفت أشكاله أو معانيه؟ بمن استغاث العرب في شعرهم؟ وبمن استغاث اليهود؟
أعدّ أستاذ الأدب العبري في القرون الوسطى عبدالله طرابيح، دراسة بعنوان "موضوعات طلب الغوث والفداء في القصائد العربية و العبرية في إسبانيا خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر -"The Themes of Calling for Help and Redemption in Arabic and Hebrew Poems from Medieval Spain during the Eleventh and Twelfth Century".
في رثاء المدن، عبّر شعراء عرب عن شعور جماعي بالحزن على تدمير ديارهم، وصرخوا مشاعرهم الخاصّة بالخسارة والشوق، وغصّت بعض الأشعار بدعوات الوحدة والخلاص والانتقام من عدوّهم.
الشاعر ابن حمديس الصقلي، وُلد ونشأ في صقلية، ثم تركها حين استولى النورمان عليها، وسقط الحكم العربي هناك، ورحل بعد ذلك إلى الأندلس، وأقام فيها لفترة، ثم شُرِّد إلى المغرب الأوسط وإفريقيا.
لا يختلف العدوّ الذي أسقط قرطبة كعاصمة الخلافة الأموية الأندلسية بالنسبة لابن حمديس، عن العدوّ الذي استولى على وطنه الأصلي صقليّة، وهو شاب، والنتيجة أنه صار متجوّلاً بلا وطن، يُنشد الشعر، ويدعو للانتقام من العدو، ويستنهض همم المسلمين للحفاظ على أوطانهم، واسترداد مدنهم الأندلسية التي سقطت.
وفي ذلك يقول:
دعوا النومَ إني خائفٌ أن تدوسَكمْ دَواهٍ، وأنتم في الأماني مع الْحُلمِ
وفي نفس القصيدة يقول:
فرُدوا وجوهَ الخيلِ نحو كريهةٍ مُصَرِّحةٍ في الرُّوم بالثُّكْلِ واليُتْمِ
ثم يقول في بلاغة، إن الأوطان البديلة، حتى لو تكلّم أهلها بنفس اللسان، واعتنقوا نفس الدين، فإنها لا تعوّض أبداً الوطن الأصلي، كما لا تعوّض الخالةُ حنانَ الأم:
فإنَّ بلادَ النَّاسِ ليستْ بلادَكمْ ولا جارُها والخلمُ كالجارِ والخلْمِ (والخلم الصديق الخالص)
أعَنْ أرضكم يغنيكم أرضُ غيركم وكَمْ خالةٍ جَداء لم تُغْنِ عن أُمِّ
كذلك يمكننا أن نلمس النداء للاستيقاظ وحب الوطن، في شعر أبوالبقاء الرندي (1204-1285)، حين انتهى حكم إشبيلية، حيث دعى المسلمين في شمالي إفريقيا لدعم الأندلسيين في إسبانيا:
لكل شيء إذا ما تــمّ نقصــان فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ إن كنت في سنةٍ فالدهرُ يقظانُ وماشيـاً مرحــاً يلهيـه موطنـهُ أبَعد حِمصٍ تغـرُّ المرءُ أوطــانُ أعندكم نبأٌ من أهلِ أندلُسٍ فقد سرى بحديثِ القومِ ركبانُ كم يستغيثُ بنا المُستضعفُونَ وهم قتلى وأسرى فما يهتزَّ إنسانُ لمثلِ هذا يبكي القلب من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
ومن بين الاستغاثات أيضاً، ما قاله ابن الأبّار (1199-1260) لملك الدولة الحفصية، في تونس، أبو زكريا بن أبي حفص، في أعقاب نهاية حكم العرب في فالنسيا (بلنسية)، ومما قاله:
نَادَتْــكَ أنْدَلُسٌ فَــلَبِّ نِــداءَها واجْعل طَواغيتَ الصّليبِ فِداءَها صَرَختْ بِدَعوَتك العليّة فاحْبُها من عاطِفاتك ما يقي حوْباءها خَلَعَتْ قُلُوبُهُمُ هُنــاك عزَاءَها لمّا رأتْ أبْصارُهُم مَا ساءها
ثم يقول:
إيهٍ بَلَنْسيَةٌ وفي ذكراكِ ما يمري الشؤون دماءَها لا ماءَها كيف السّبيلُ إلى احتِلال معاهدٍ شبّ الأعاجِم دُونها هيْجاءها
ويُنظَرُ إلى الشعر العبري في الأندلس، كأحد أهمّ الفصول في تاريخ الأدب العبري عموماً، وتعود البدايات الأولى لازدهاره، عندما كانت قرطبة عاصمة للخلافة الأموية، ثم بلغ ذروته خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، في فترة ملوك الطوائف، واستمرّ الأمر حتى طُرد اليهود من الأندلس، مع سيطرة المسيحيين على كافّة مدن إسبانيا، يقول طرابيح.
ويوضّح أن أحد أهم الابتكارات التي قام بها الشعراء اليهود الأندلسيون، هو أنه إلى جانب الشعر الليتورجي (الطقوسي أو الديني) التقليدي، بدؤوا أيضاً بتأليف قصائد علمانية، لم تكن مخصّصة للدراسة ولا لاستخدامها في طقوس الصلاة.
هذا النوع الجديد من الشعر العلماني العبري زاد الزخم لبلورة نوعٍ جديد من الشعر الطقوسي العبري، المكتوب في أشكالٍ شعريّةٍ مبتكرة، والتي تميّزت بتغييرات أسلوبية وموضوعية، جعلت من الصعب وضع حدودٍ دقيقة بين الشعر العلماني، والشعر الطقوسي الديني اليهودي في الأندلس.
كان من الموضوعات المهمّة في شعر ما بعد سقوط خلافة قرطبة، هو شعر الاستغاثة والاستصراخ، والحنين إلى الوطن.
الشاعر الأندلسي البارز واللغوي الشهير موسى بن عزرا (1055-1138) كان من هؤلاء المتباكين، حيث كتب باللغة العبرية، قصائدَ بين الدينيّة والعلمانيّة، تحتوي على رثاء نموذجي لمعاناة اليهود في المنفى، تلاها تعبير عن الأمل في الخلاص من المنفى وتحقيق الوعد الإلهي المتعلّق باليهود.
وفي نفس الوقت كتب أشعاراً يحن فيها إلى غرناطة العربية، حيث مسقط رأسه، متباكياً على حاله وهو في بلاد المنفى بين المسيحيين الإسبان.
فمرّة نلحظه يصوّر إسرائيل (اسم النبي يعقوب، وهو هنا رمز لليهود عموماً) كحمامة مسكينة مطرودة من عشها. ثم يستغيث طالباً النجدة مما هو فيه، فيقول، ما معناه باللغة العربية:
صرختُ مستغيثاً من حفرة بلا ماء، غرقتُ فيها، وصرختُ رافعاً قلبي مع يدي داعياً. صفقتُ وأتيتُ مبكراً أبواب الجنة. آه لو استجاب لي خالق الفاكهة على الشفاه، بعدها سيرى عدوّي كيف سيُغَطّى بالعار.
وعن حاله في المنفى، وبُعده عن غِرناطة، حيث ثقافة أخرى ونمط حياة مختلف تماماً عما كان عليه، وأناس لا يفهمهم ولا يستطيع التكيف معهم، يقول، ما معناه:
هذا اليوم ذو المرار الطافح، يوم الرحيل، تركني مخموراً بنبيذ اللوعة. كئيب أنا الآن، أسكن بين البِغالِ، حيث لا أنيس لروحي... أدعو يساراً فلا مجيب، أدعو يميناً فلا مجيب.. لا شيء إلا الغرباء.
هذه الشعور بالوحدة والغربة، نستطيع أن نجده في أشعار أخرى له تحمل طابعاً دينياً، ومنها مناداته لربه ليخلّصه مما هو فيه، ليقول ما معناه:
استمعْ إلى صراخ شخصٍ يطالبك بالظهور، اجعلْ رياح رحمتك تهبّ، اقهرْ عدوّاً يريد ضرري. لأنك الرب المقدس... هل ستتخلّى عن عبدٍ فقيرٍ، يرتجفُ، يأمل، مكسوراً بين الناس، محبوساً بين الأسود؟ إلى متى سيظلّ وادي الرؤية مسكوناً بالحَمِير البرية، والخراب، وإلى متى ستظلّ طرق صهيون في حالة حداد؟ أعدائي وضعوا عظامي على النار، ورفعوا أصواتهم ضدي ولم يتوقفوا. بوحشية، أزالوا حدائق عنبي، أخذو خمرهم، ولم يتركوا لي ولو حبّة.
هذا المنفى جعل ابن عزرا يحنّ إلى الحلم اليهودي، بإقامة وطن إسرائيل، حيث يقول ما معناه:
الشخص الواقع في المنفى متيقّظ، نومه طويل للغاية، قضى عملاً شاقاً في خدمة المسيحيين والمسلمين.
متى سيخدم الأصغر (إسماعيل) ابن الخادمة (يقصد النبي إسماعيل، جد العرب) أخيه الصغير إسحاق (جدّ اليهود)؟
متى تأخذا واحداً من مدينة، واثنين من قبيلة، وتحضرهم إلى صهيون؟
ولكنه في نفس الوقت يحنّ إلى غرناطة ويصف حاله السعيد بها، ويقول ما معناه:
ذات مرّة كانت أيام حياتي مشبعةً بعسل زهور الحب، مخمورةً بنبيذ الشباب، في أرض بها سحر ليس في سواها، خلق سكانها كما أرادوا.
ويقول أيضاً، متمنياً العودة إلى غرناطة، ما معناه:
إذا أراد الرب وعدتُ إلى غرناطة فيالسعادتي! كم تمنيتُ لو أشرب وأشبع من نهر شينير، حتى عندما تأتي تياراته الفرحة وهي عكرة. أرض كانت حياتي فيها حلوة، وكريماً كان الوقت. سأترقّب فرج الله لأنه لا شيء يمنعه من إعلان عتقي وتحريري.
موسى ابن عزرا، كان يمزج بين حنينين، أحدهما إلى الحلم بوطنه الديني (إسرائيل)، والآخر حنين إلى وطنه العلماني "غرناطة"، على العكس من الشاعر يهوذا هاليفي- وشهرته أبو الحسن يهوذا اللاوي (1075-1141)، الذي لم يكن يفكّر إلا في حلمه بوطنه الديني.
ولد يهوذا في طليطلة في إسبانيا المسيحية، ولكنه عاش لفترة من الوقت في إسبانيا المسلمة، قبل أن يتخلّى عن شبه الجزيرة الأيبيرية عموماً في نهاية حياته، وينضمّ بشكل مؤقّت إلى اليهود المصريين في الإسكندرية، ثم يحجّ إلى فلسطين ويموت بالقدس.
كان يهوذا يتوق إلى مملكة صهيون أو ما يزعم أنها أرض اليهود المقدسة، ليس فقط في أعماله الطقسيّة ولكن أيضاً في العديد من قصائده العلمانية.
ومن بين قصائده ما تسمى بـ "الصهيونية"، التي لم يكن المقصود منها أصلاً أن تكون جزءاً من الشعر الديني الطقوسي، ولكنها صارت منه. ومن ذلك أيضاً قصائده المكتوبة أثناء رحلة الحجّ إلى القدس، والتي يُعرف أنه قام بها خلال الجزء الأخير من حياته، ربما كنتيجة لإبعاده عن الثقافة الأندلسية، يقول عبدالله طرابيح.
كما رأينا كانت استغاثات الشعراء العرب المسلمين موجّهة إلى بني جلدتهم، أما اليهود فقد استغاثوا بربّهم.
لكن في هذه الفترة من الأزمات السياسية، عاش المسلمون واليهود على حد سواء، نفس الإحساس بالغربة والنفي، والحنين إلى الوطن، فتشابكت أحوالهم في نفس الأماكن ونفس الأزمان.
صورة المقالة اعتمدت على صورة (معدلة) من كتاب El Libro de los Juegos الذي أمر الملك ألفونسو العاشر بتأليفه.
في الأندلس، "في مجال العلم والدراسات، انسجم الباحثون والعلماء من المسلمين واليهود، حتى أن أكاديمية قرطبة خضعت لرئاسة اليهود في بعض الأحيان".
كيف كان شكل شعر الاستغاثة والاستصراخ "العربي والعبري" في الأندلس؟ وهل اختلفت أشكاله أو معانيه؟ بمن استغاث العرب في شعرهم؟ وبمن استغاث اليهود؟وناقش طرابيح أعمالاً مختلفة تتباكى وترثي مدن الأندلس التي وقعت بيد المسيحيين، لشعراء عرب ويهود شعروا بالفزع والحنين إلى مدنهم، ويطلبون الغوث والنجدة مما هم فيه من واقع مؤلم. قدّم الباحث لمحة عن حياة شاعرين في هذه الفترة، أحدهما مسلم والآخر يهودي، كلاهما كانا ناشطين في إسبانيا المسلمة في نفس الفترة، وشاركا نفس مصير النفي والتجوّل والاستغاثة، وهما الشاعر الصقلي العربي ابن حمديس (1056 - 1133م)، وفي المقابل، الشاعر اليهودي الإسباني موسى بن عزرا (1055-1138)، بالإضافة إلى شعراء آخرين.
كيف بكى العرب مدنهم؟
كان انهيار الخلافة الأموية في قرطبة وقيام عصر ملوك الطوائف مؤلماً، فقد أدّى مع الوقت إلى فقدان مدن الأندلس واحدة تلو الأخرى لصالح المسيحيين، حتى انتهى الحكم السياسي للعرب نهائياً من هناك مع نهاية حكم مملكة غرناطة عام 1492، وفي نفس الوقت أخرج اليهود أيضاً.في رثاء المدن، عبّر شعراء عرب عن شعور جماعي بالحزن على تدمير ديارهم، وصرخوا مشاعرهم الخاصّة بالخسارة والشوق، وغصّت بعض الأشعار بدعوات الوحدة والخلاص والانتقام من عدوّهم
في رثاء المدن، عبّر شعراء عرب عن شعور جماعي بالحزن على تدمير ديارهم، وصرخوا مشاعرهم الخاصّة بالخسارة والشوق، وغصّت بعض الأشعار بدعوات الوحدة والخلاص والانتقام من عدوّهم.
الشاعر ابن حمديس الصقلي، وُلد ونشأ في صقلية، ثم تركها حين استولى النورمان عليها، وسقط الحكم العربي هناك، ورحل بعد ذلك إلى الأندلس، وأقام فيها لفترة، ثم شُرِّد إلى المغرب الأوسط وإفريقيا.
لا يختلف العدوّ الذي أسقط قرطبة كعاصمة الخلافة الأموية الأندلسية بالنسبة لابن حمديس، عن العدوّ الذي استولى على وطنه الأصلي صقليّة، وهو شاب، والنتيجة أنه صار متجوّلاً بلا وطن، يُنشد الشعر، ويدعو للانتقام من العدو، ويستنهض همم المسلمين للحفاظ على أوطانهم، واسترداد مدنهم الأندلسية التي سقطت.
وفي ذلك يقول:
دعوا النومَ إني خائفٌ أن تدوسَكمْ دَواهٍ، وأنتم في الأماني مع الْحُلمِ
وفي نفس القصيدة يقول:
فرُدوا وجوهَ الخيلِ نحو كريهةٍ مُصَرِّحةٍ في الرُّوم بالثُّكْلِ واليُتْمِ
ثم يقول في بلاغة، إن الأوطان البديلة، حتى لو تكلّم أهلها بنفس اللسان، واعتنقوا نفس الدين، فإنها لا تعوّض أبداً الوطن الأصلي، كما لا تعوّض الخالةُ حنانَ الأم:
فإنَّ بلادَ النَّاسِ ليستْ بلادَكمْ ولا جارُها والخلمُ كالجارِ والخلْمِ (والخلم الصديق الخالص)
أعَنْ أرضكم يغنيكم أرضُ غيركم وكَمْ خالةٍ جَداء لم تُغْنِ عن أُمِّ
كذلك يمكننا أن نلمس النداء للاستيقاظ وحب الوطن، في شعر أبوالبقاء الرندي (1204-1285)، حين انتهى حكم إشبيلية، حيث دعى المسلمين في شمالي إفريقيا لدعم الأندلسيين في إسبانيا:
لكل شيء إذا ما تــمّ نقصــان فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ إن كنت في سنةٍ فالدهرُ يقظانُ وماشيـاً مرحــاً يلهيـه موطنـهُ أبَعد حِمصٍ تغـرُّ المرءُ أوطــانُ أعندكم نبأٌ من أهلِ أندلُسٍ فقد سرى بحديثِ القومِ ركبانُ كم يستغيثُ بنا المُستضعفُونَ وهم قتلى وأسرى فما يهتزَّ إنسانُ لمثلِ هذا يبكي القلب من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
ومن بين الاستغاثات أيضاً، ما قاله ابن الأبّار (1199-1260) لملك الدولة الحفصية، في تونس، أبو زكريا بن أبي حفص، في أعقاب نهاية حكم العرب في فالنسيا (بلنسية)، ومما قاله:
نَادَتْــكَ أنْدَلُسٌ فَــلَبِّ نِــداءَها واجْعل طَواغيتَ الصّليبِ فِداءَها صَرَختْ بِدَعوَتك العليّة فاحْبُها من عاطِفاتك ما يقي حوْباءها خَلَعَتْ قُلُوبُهُمُ هُنــاك عزَاءَها لمّا رأتْ أبْصارُهُم مَا ساءها
ثم يقول:
إيهٍ بَلَنْسيَةٌ وفي ذكراكِ ما يمري الشؤون دماءَها لا ماءَها كيف السّبيلُ إلى احتِلال معاهدٍ شبّ الأعاجِم دُونها هيْجاءها وماذا عن اليهود؟
تأثّر الأدب العبري في الأندلس بنظيره العربي بشكلٍ كبيرٍ، حتى أن مؤلفين يهود كتبوا موشحات عبرية، لم تكن تحاكي الموشحات العربية بشكل عام فحسب، وإنما قلّدت موشحات عربية بعينها دون تعديل أو تحوير.يُنظَرُ إلى الشعر العبري في الأندلس، كأحد أهمّ الفصول في تاريخ الأدب العبري عموماً، وتعود البدايات الأولى لازدهاره لقرطبة عاصمة للخلافة الأموية، ثم بلغ ذروته خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، في فترة ملوك الطوائف
ويُنظَرُ إلى الشعر العبري في الأندلس، كأحد أهمّ الفصول في تاريخ الأدب العبري عموماً، وتعود البدايات الأولى لازدهاره، عندما كانت قرطبة عاصمة للخلافة الأموية، ثم بلغ ذروته خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، في فترة ملوك الطوائف، واستمرّ الأمر حتى طُرد اليهود من الأندلس، مع سيطرة المسيحيين على كافّة مدن إسبانيا، يقول طرابيح.
ويوضّح أن أحد أهم الابتكارات التي قام بها الشعراء اليهود الأندلسيون، هو أنه إلى جانب الشعر الليتورجي (الطقوسي أو الديني) التقليدي، بدؤوا أيضاً بتأليف قصائد علمانية، لم تكن مخصّصة للدراسة ولا لاستخدامها في طقوس الصلاة.
هذا النوع الجديد من الشعر العلماني العبري زاد الزخم لبلورة نوعٍ جديد من الشعر الطقوسي العبري، المكتوب في أشكالٍ شعريّةٍ مبتكرة، والتي تميّزت بتغييرات أسلوبية وموضوعية، جعلت من الصعب وضع حدودٍ دقيقة بين الشعر العلماني، والشعر الطقوسي الديني اليهودي في الأندلس.
كان من الموضوعات المهمّة في شعر ما بعد سقوط خلافة قرطبة، هو شعر الاستغاثة والاستصراخ، والحنين إلى الوطن.
كتب الشاعر الأندلسي البارز واللغوي اليهودي الشهير موسى بن عزرا أشعاراً يحن فيها إلى غرناطة العربية، حيث مسقط رأسه، متباكياً على حاله وهو في بلاد المنفى بين المسيحيين الإسبان.
الشاعر الأندلسي البارز واللغوي الشهير موسى بن عزرا (1055-1138) كان من هؤلاء المتباكين، حيث كتب باللغة العبرية، قصائدَ بين الدينيّة والعلمانيّة، تحتوي على رثاء نموذجي لمعاناة اليهود في المنفى، تلاها تعبير عن الأمل في الخلاص من المنفى وتحقيق الوعد الإلهي المتعلّق باليهود.
وفي نفس الوقت كتب أشعاراً يحن فيها إلى غرناطة العربية، حيث مسقط رأسه، متباكياً على حاله وهو في بلاد المنفى بين المسيحيين الإسبان.
فمرّة نلحظه يصوّر إسرائيل (اسم النبي يعقوب، وهو هنا رمز لليهود عموماً) كحمامة مسكينة مطرودة من عشها. ثم يستغيث طالباً النجدة مما هو فيه، فيقول، ما معناه باللغة العربية:
صرختُ مستغيثاً من حفرة بلا ماء، غرقتُ فيها، وصرختُ رافعاً قلبي مع يدي داعياً. صفقتُ وأتيتُ مبكراً أبواب الجنة. آه لو استجاب لي خالق الفاكهة على الشفاه، بعدها سيرى عدوّي كيف سيُغَطّى بالعار.
وعن حاله في المنفى، وبُعده عن غِرناطة، حيث ثقافة أخرى ونمط حياة مختلف تماماً عما كان عليه، وأناس لا يفهمهم ولا يستطيع التكيف معهم، يقول، ما معناه:
هذا اليوم ذو المرار الطافح، يوم الرحيل، تركني مخموراً بنبيذ اللوعة. كئيب أنا الآن، أسكن بين البِغالِ، حيث لا أنيس لروحي... أدعو يساراً فلا مجيب، أدعو يميناً فلا مجيب.. لا شيء إلا الغرباء. "هل ستتخلّى عن عبدٍ فقيرٍ، يرتجفُ، يأمل، مكسوراً بين الناس، محبوساً بين الأسود؟" هكذا بكى اليهود غربتهم عن وطنهم الأندلس
هذه الشعور بالوحدة والغربة، نستطيع أن نجده في أشعار أخرى له تحمل طابعاً دينياً، ومنها مناداته لربه ليخلّصه مما هو فيه، ليقول ما معناه:
استمعْ إلى صراخ شخصٍ يطالبك بالظهور، اجعلْ رياح رحمتك تهبّ، اقهرْ عدوّاً يريد ضرري. لأنك الرب المقدس... هل ستتخلّى عن عبدٍ فقيرٍ، يرتجفُ، يأمل، مكسوراً بين الناس، محبوساً بين الأسود؟ إلى متى سيظلّ وادي الرؤية مسكوناً بالحَمِير البرية، والخراب، وإلى متى ستظلّ طرق صهيون في حالة حداد؟ أعدائي وضعوا عظامي على النار، ورفعوا أصواتهم ضدي ولم يتوقفوا. بوحشية، أزالوا حدائق عنبي، أخذو خمرهم، ولم يتركوا لي ولو حبّة.
هذا المنفى جعل ابن عزرا يحنّ إلى الحلم اليهودي، بإقامة وطن إسرائيل، حيث يقول ما معناه:
الشخص الواقع في المنفى متيقّظ، نومه طويل للغاية، قضى عملاً شاقاً في خدمة المسيحيين والمسلمين.
متى سيخدم الأصغر (إسماعيل) ابن الخادمة (يقصد النبي إسماعيل، جد العرب) أخيه الصغير إسحاق (جدّ اليهود)؟
متى تأخذا واحداً من مدينة، واثنين من قبيلة، وتحضرهم إلى صهيون؟
ولكنه في نفس الوقت يحنّ إلى غرناطة ويصف حاله السعيد بها، ويقول ما معناه:
ذات مرّة كانت أيام حياتي مشبعةً بعسل زهور الحب، مخمورةً بنبيذ الشباب، في أرض بها سحر ليس في سواها، خلق سكانها كما أرادوا.
ويقول أيضاً، متمنياً العودة إلى غرناطة، ما معناه:
إذا أراد الرب وعدتُ إلى غرناطة فيالسعادتي! كم تمنيتُ لو أشرب وأشبع من نهر شينير، حتى عندما تأتي تياراته الفرحة وهي عكرة. أرض كانت حياتي فيها حلوة، وكريماً كان الوقت. سأترقّب فرج الله لأنه لا شيء يمنعه من إعلان عتقي وتحريري.
موسى ابن عزرا، كان يمزج بين حنينين، أحدهما إلى الحلم بوطنه الديني (إسرائيل)، والآخر حنين إلى وطنه العلماني "غرناطة"، على العكس من الشاعر يهوذا هاليفي- وشهرته أبو الحسن يهوذا اللاوي (1075-1141)، الذي لم يكن يفكّر إلا في حلمه بوطنه الديني.
ولد يهوذا في طليطلة في إسبانيا المسيحية، ولكنه عاش لفترة من الوقت في إسبانيا المسلمة، قبل أن يتخلّى عن شبه الجزيرة الأيبيرية عموماً في نهاية حياته، وينضمّ بشكل مؤقّت إلى اليهود المصريين في الإسكندرية، ثم يحجّ إلى فلسطين ويموت بالقدس.
كان يهوذا يتوق إلى مملكة صهيون أو ما يزعم أنها أرض اليهود المقدسة، ليس فقط في أعماله الطقسيّة ولكن أيضاً في العديد من قصائده العلمانية.
ومن بين قصائده ما تسمى بـ "الصهيونية"، التي لم يكن المقصود منها أصلاً أن تكون جزءاً من الشعر الديني الطقوسي، ولكنها صارت منه. ومن ذلك أيضاً قصائده المكتوبة أثناء رحلة الحجّ إلى القدس، والتي يُعرف أنه قام بها خلال الجزء الأخير من حياته، ربما كنتيجة لإبعاده عن الثقافة الأندلسية، يقول عبدالله طرابيح.
كما رأينا كانت استغاثات الشعراء العرب المسلمين موجّهة إلى بني جلدتهم، أما اليهود فقد استغاثوا بربّهم.
لكن في هذه الفترة من الأزمات السياسية، عاش المسلمون واليهود على حد سواء، نفس الإحساس بالغربة والنفي، والحنين إلى الوطن، فتشابكت أحوالهم في نفس الأماكن ونفس الأزمان.
صورة المقالة اعتمدت على صورة (معدلة) من كتاب El Libro de los Juegos الذي أمر الملك ألفونسو العاشر بتأليفه. رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...