شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حين أدى المسلمون واليهود صلاة مشتركة... ما هي قصة

حين أدى المسلمون واليهود صلاة مشتركة... ما هي قصة "التزييق"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 13 نوفمبر 201801:48 م
كان الفيلسوفُ والطبيبُ والحبر موسى بن ميمون، رئيسُ الطائفة اليهودية في مصر، يعمل طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين الأيوبي وابنه أبو الحسن علي. والأهم أن ابنَ ميمون كان يُدَرّس في الجامع الأزهر، بحسب ما يؤكدُ الموقع الرسمي لجامعة الأزهر. قد يكون ما سبق تمهيداً مناسباً للحديث عن رباطٍ جمع بين المسلمين واليهود في مصر، خلالَ الدولة الأيوبية (1174 – 1252م)، وبدايةَ العصر المملوكي، امتد إلى التأثير والتأثّر الديني، الذي بان أثرُه في شعيرةٍ صوفية يهوديةٍ إسلاميةٍ مشتركة. بروفوسير التاريخ والأديان والحضارات الشرقية بجامعة بولونيا، جوزيبي سيسيري Giuseppe Cecere، أعد دراسةً بعنوان: "Tarfīq versus Tazyīq.On a Rare Sufi Term in Ibn Baṭṭūṭā and Jewish-Muslim Interactions in Medieval Egypt". تناول جوزيبي في دراسته التقاربَ اليهوديَّ الإسلامي في العصر الأيوبي وبداية العصر المملوكي، منطلقاً من قصتين حكاهما الرحالةُ المغربيُّ ابن بطوطة، وسجلهما في كتابه الشهير "رحلة ابن بطوطة". ويرصدُ ابن بطوطة من خلال القصتين، طقسَ "التَزْيِيق" أو "التَزَيُّق"، الذي كان يمارسه متصوفةٌ من الطرفين "الإسلامي واليهودي". وهو عبارة عن ممارسةٍ روحانيةٍ، يضع فيها الصوفيُّ رأسَه بين ركبتيه وهو جالسٌ، ويدخل في تأملٍ مع الله. وجاء المصطلحُ في بعض نسخِ رحلةِ ابن بطوطة، مرةً باسم "التَّزْيِيق"، وأخرى باسم "التَّرْفِيق". رغم أن المصادرَ تؤكدُ وقوعَ الممارسة نفسها (وضع الرأس بين الركبتين) عند المتصوفةِ اليهودِ والمسلمين، بصرف النظر عن مسمَّاها. لكن جوزيبي اجتهدَ لإثبات أن الممارسةَ كانت عند المسلمين هي نفسُها بمسمّاها "اليهودي"، قبل أن يسوقَ أدلةً أخرى من مصادرَ إسلاميةٍ، تؤكد أنها كانت طقساً أصيلاً عند تيارٍ صوفيٍّ مصريٍّ واسع، امتد إلى أرجاءَ مختلفة من العالم الإسلامي، بل كان له وجودُه قبل رحلة ابن بطوطة بقرون. وما سبّبَ الخلطَ بين المسمَّيين أن رحلةَ ابن بطوطة (1304 – 1377م) (703 - 779هـ) لم يدونها بيده، إنما أملاها على محمد بن جزي، الذي كتبها بخطِّ يده (عصر ما قبل الطباعة)، وحين تحولت إلى كتابٍ مطبوعٍ وتُرجمت إلى لغاتٍ مختلفة حديثاً، وقع خلافٌ بين المحققين حول المصطلح الذي نتناوله، بسبب النسخ اليدوي، وعدم درايةِ الناسخِ بالممارسة الصوفية نفسها، مع غرابة المصطلحين.

تزييقٌ في الإسكندرية ودمياط

لنرصد أولاً ما ذكره ابن بطوطة "بنصه"، حين نزل الإسكندريةَ ورأى الشيخَ خليفة، صاحبَ الكرامات والمكاشفات، الذي يحكي أن النبي زارَه في المنام وقال له: زرنا، فرحل خليفة إلى المدينة المنورة، وأتى المسجدَ الكريم، فدخل من باب السلام وحيا المسجدَ وسلّم على رسولِ الله وقعد مستنداً إلى بعض سواري المسجد، ووضع رأسَه بين ركبتيه، وذلك يسمّى عند المتصوفة: "الترفيق" -وفي نسخ أخرى من الكتاب: وذلك عن المتصوفة يسمى "التزييق". فلما رفعَ (خليفة) رأسَه وجد 4 أرغفةٍ وآنيةً فيها لبن، وطبقاً فيه تمر، فأكل هو وأصحابُه وانصرف عائداً إلى الإسكندرية، ولم يحجّ هذا العام. القصةُ الثانيةُ التي ذكرها ابن بطوطة كانت في دمياطَ، التي زارَها بعد الإسكندرية، حين شاهدَ زاويةَ (مسجد صغير) الشيخِ جمال الدين الصاوي، الذي حلقَ شعر لحيتِه وحواجبِه ورأسِه، كعادة أتباع الطريقة القلندرية الصوفية. وحكى ابنُ بطوطة أن الصاوي كان يجلسُ في المقابر (كعادة القلندرية)، وحين مرَّ عليه القاضي ابن العميد، قال له: أنت الشيخُ المبتدع؟ فردَّ: وأنت القاضي الجاهل، تمر بدابتك بين القبور، وتعلم أن حرمةَ الإنسان ميتاً كحرمته حياً. فردَّ القاضي: وأعظمُ من ذلك حلقُك للحيتك. فقالَ له إياي تعني. و"زعق" الشيخ ثم رفع رأسه، فإذا هو ذو لحيةٍ سوداء. و"زعق" الشيخ ثم رفع رأسه، فإذا هو ذو لحيةٍ بيضاء. ثم "زعق" ثالثةً ورفع رأسه، فإذا هو على هيئته بلا لحية. وفي نسخةٍ أخرى من كتاب ابن بطوطة استبدلت كلمةُ "زَعَقَ" بـ"حنى رأسه على ركبتيه".

لماذا "التزييق" وليس "الترفيق"؟

اعتمد المستشرقُ رينهارت دوزي Rheinart Dozy، المهتمُّ برحلة ابن بطوطة منذ أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر، على مخطوطةٍ للرحلة اكتشفها الإسبانيُّ باسكال دي جانيوس "Pascual de Gayangos y Arce (1809- 1897)، وجاء بها "تزييق" لا "ترفيق". وفي معجمه الشهير "تكملة المعاجم العربية - Supplément aux dictionnaires arabes"، قال دوزي، في إطار حديثه المتشكك عن كلمة "ترفيق" ومصدرها "رِفْق": ترفيق عند الصوفية، أي أسندَ رأسه على ركبتيه (مستشهداً برحلة ابن بطوطة)، غير أني أرى أن الصوابَ "تزييق" بحسب ما جاء في مخطوطة دي جاينجوس عن الرحلة. ويستشهد دوزي على ذلك بأن الكلمة (زَيَق) تكررت ثلاثَ مراتٍ (يقصد موقف جمال الدين صاوي) في رحلة ابن بطوطة، ويعقبها دائماً: "ورفع رأسه"، مشيراً إلى أنها وضعت في النص "زعق ورفع رأسه"، والمقصود "زيق": أي وضعَ رأسه بين ركبتيه ثم رفعها. لكن الناسخَ لم يفهمها فوضعها "زعق"، لأن من الصعب تبديلَ كلمة "رفق" بـ"زعق" ويبدل الناسخ حرفين، لكن يمكن أن يحدثَ ذلك مع "زَيَق" ويبدل حرفاً واحداً. من حيث المصدر أو الجذر اللغوي فإن "تزييق"، تبدو لها علاقةٌ بديهيةٌ بالرقبة، فمصدر الكلمة "زيق" من معانيه ما يحيطُ بالعنق من القميص، ونحن هنا نتكلم عن إحاطة الرقبة بالركبتين. أما كلمةُ "الترفيق" فهي مأخوذةٌ من المصدر "رفق"، ولا يبدو أن الكلمةَ بحد ذاتها مكتوبةٌ في نصوص القرون الوسطى أو القواميس العربية. كما أن العلاقة الدلالية بين المعاني الأساسية بجذر الكلمة ووضع "الرأس بين الركبتين" ليست واضحة. ولكن يمكن أن يكون الذين كتبوها اعتقدوا أن تكون الكلمة مأخوذة من كلمة "مرفق" أي ما يصل الذراع بالعضد (الكوع). وقد يكون السبب هو إرفاق الرقبة إلى الركبتين. وقد يكون السبب تفسير الكلمة على أنها من تصريفات "الرِّفْق"، أي "رفق الله بالعبد وهو في هذا الوضع". في العالم العربي، انقسم الباحثون بين التزييق والترفيق، فالنسخةُ التي حققها طلال حرب في بيروت عام 1987 لرحلة ابن بطوطة، استخدم فيها "التزييق"، بينما استخدم محمد العريان، ومصطفى القصاص في نسختيهما مصطلح "الترفيق".

اكتشافٌ حاسم في نصّ يهودي مكتوب باللغة العربية

في مقال نشره المستشرق باول فنتون Paul Fenton عام 1990 عن الصوفية في الإسلام واليهودية، أظهر أن "التزييق" أو "التزَيُّق" كان مصطلحاً صوفياً فنياً يهودياً، وورد ضمن شرحٍ عربيٍّ (مصري) للكتاب اليهودي المقدس "the Haftarot". هذا الشرح قدمه الحبرُ اليهودي حنانيل بن شموئيل Ḥanan’el ben Shēmū’ēl، (حوالي عام 1215 م)، وحُفظ هذا الشرحُ في مخطوط بالمتحف البريطاني. وقد كان حنانيلُ حما الحاخام أبراهام (تـ 1237)، ابنِ الحبر والفيلسوف اليهودي الشهير موسى بن ميمون. واتبع أبراهام وحنانيل بن شموئيل "الصوفيةَ اليهودية". وفي شرحه يستحضر حنانيل ممارسةَ الصوفية اليهود، لوضع الرأس بين الركبتين، في محاكاةٍ لما جاء في الرواية التوراتية حول انحناء النبي إيليا للربّ على جبل الكرمل في فلسطين: وصعد إيليا إلى قمة الكرمل، وسجد على الأرض ووضع وجهه بين ركبتيه. وعلق المؤلفُ اليهوديُّ المصري المتصوف على النص، قائلاً: إن إيليا ألقى بنفسه على الأرض امتناناً للرب الذي خلقه، وكذلك لأنه دمر أعداء الرب، كذلك توسلاً إليه لإسقاط المطر، بعد ذلك جلس إيليا ووضع "وجهه بين ركبتيه" لإبعاد انتباهه عن كل الخليقة وتكريس نفسه للتأمل. و"اتخذت الأمم هذه الممارسة من جانبنا وتزينوا بها". وفي "الأمم" هنا إشارةٌ للمتصوفة المسلمين الذين حاكوا هذه الممارسة، يقول فنتون. ثم قال حنانيل في نصّه: وسموا هذه الممارسة "تَزَيُّق".
كلمة "التزييق" لها علاقة بالرقبة، فمصدرها "زيق" من معانيه ما يحيطُ بالعنق من القميص، ونحن هنا نتكلم عن إحاطة الرقبة بالركبتين.. و"التزييق" شعيرةٌ صوفيةٌ يهوديةٌ إسلاميةٌ مشتركة
يستحضر حنانيل ممارسةَ الصوفية اليهود، لوضع الرأس بين الركبتين، في محاكاةٍ لما جاء في الرواية التوراتية حول انحناء النبي إيليا للربّ على جبل الكرمل في فلسطين
كان "التزييق" موضوع العديد من الكتابات في الأدب الرباني والصوفي اليهودي، منها: في نصٍّ تلمودي ، يلجأ حاخام إلى وضع رأسِه بين ركبتيه من أجل استحضار معجزةٍ من الله، وشفاءِ طفل مريض.

تزْيِيق عند القلندرية والشاذلية المصرية

إشارةُ ابن بطوطة إلى الشيخ القلندري جمال الدين الصاوي مثيرةٌ للاهتمام بشكلٍ خاص، لأسبابٍ كرونولوجية (زمنية)، فقد عاش هذا المتصوفُ في نفس الحقبة التي عاش فيها الحاخام حنانيل بن شموئيل، مؤلفُ النص اليهودي "العربي" المذكور سابقاً، أي أن المتصوفةَ اليهود والمسلمين، كانوا يمارسون طقساً تعبدياً مشتركاً في نفس التوقيت، يقول جوزيبي. مع ذلك، فإن إشارةَ ابن بطوطة إلى "الشيخ خليفة" قد تكون مثيرةً للاهتمام في منظور التفاعل بين اليهود والمسلمين، فهذا الشيخ هو خليفة بن عطية الإسكندراني (تـ 734/1333 أو 735/1335)، حسبما يرجّحُ هاميلتون جيبHamilton Gibb، في ترجمته وتحقيقه لمخطوط رحلة ابن بطوطة. وكان خليفة فقيهاً مالكياً مشهورًا بتقواه، وجاء ذكرُه في أكثر من مصدر معتبر، كـ"الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني (تـ852/1449)، حيث قال ابنُ حجر عنه: كان فقيهاً مالكياً درس تحتَ علماءَ مثل العز بن عبدالسلام، وابن الخطيب المزّة، وقطب الدين القسطلاني (الصوفي المعروف)، ثم عمل شيخاً ومعلماً بالإسكندرية. وكان خليفةُ من المتيمين بالصوفي الشهير وربما الأكثر تأثيراً في مصر أبي الحسن الشاذلي، مؤسسِ الطريقة الشاذلية في القرن الثالث عشر الميلادي، صاحبة التأثير الكبير في العالم الإسلامي السنّي. ومن المفارقات أن أولَ خليفةٍ للشاذلي في رئاسة الطريقة الشاذلية كان أبو العباس المرسي (توفي 686/1287)، الصوفيُّ الشهير، صاحبُ المسجد الكبير و"المولد الشهير" في مدينة الإسكندرية، تلك المدينة التي عاش بها خليفة، ومن بعده ترأس الطريقة الصوفي الشهير أيضا ابن عطاء الله "السكندري".  وتحدث الكتاب الصوفي الشهير "طبقات الأولياء" لابن الملقن، عن الشيخ خليفةِ بن عطية الإسكندراني كزاهدٍ عابد، وصوفيٍّ بارز في الطريقة الشاذلية، بعد أن تتلمذ على يد أبي العباس المرسي، وخليفتِه ابن عطاء الله السكندري، حتى أن الأخير اعتبره بمثابة خليفةٍ له، حين قال له: "أنت أنا". لم يترك الشاذلي أو المرسي أي إرثٍ مكتوب، ويعتبر ابنُ عطاء الله السكندري هو المؤسسُ الحقيقي للطريقة الشاذلية، والتي شهدت اتساعاً كبيراً في عهده، وربما ساعد على ذلك انتشار أشعاره وأدبياته الصوفية، والتي حظيت ولا تزال تحظى بشهرةٍ واسعةٍ على نطاق العالم الإسلامي كله، يقول جوزيبي. وتبين أن وضع الرأس بين الركبتين لم يمارسه الشيخ خليفة فقط، ولكنه كان طقساً شاذلياً بامتياز، فقد قال ابنُ عطاء الله في كتابه "مفتاح الفلاح"، في سياق وصاياه للمريدين بآداب مجالس الذكر: ومن الأدب أن يجلسَ (المريد) بين يدي سيده جلوسَ ذليلٍ خاضعٍ، ويقعد قعوده مفتقراً متواضع، وأن يجعل "رأسه بين ركبتيه"، وأن يسدَّ عن المحسوسات عينيه، فبهذه الجلسة يجتمع القلب ويتصفى من الأكدار، وتأتيه الأنوار واللوائح والأسرار... ومن المثير أن الشيخَ محمد بن علي السنوسي (تـ1859)، مؤسسَ الطريقة السنوسية في ليبيا، الذي تتلمذ على مشايخ من الشاذلية، كان لا يزال يمارس هذه الأذكارَ الشاذليةَ حتى القرن التاسع عشر، وينسبها إلى شيخه الأكبر أبي الحسن الشاذلي، أي أن هذا الطقس استمر منذ القرن الثالث عشر حتى التاسع عشر، وربما إلى ما بعد ذلك بين الشاذلية، بحسب فونتون.

من أين أتت الشاذلية بتلك الممارسة؟

هل أحضر الشاذلي هذه الطقوسَ معه من المغرب العربي، أم أنه "اكتشف" ذلك في مصر، حيث كان يُمارس بالفعل في ذلك الوقت - على الأقل من قَبْل الطريقة القلندرية في دمياط، ومن قِبل الصوفية اليهودية بزعامة أبراهام موسى بن ميمون وحنانيل بن شموئيل في القاهرة؟ اتضح أن المسألة قديمةٌ في الممارسات الصوفية الإسلامية عن اعتماد الشاذلية لهذا الطقس، ولكن تبيّنَ أنها أقدمُ لدى اليهود. كتابُ الرسالة القشيرية، للإمام أبي القاسم القشيري الشافعي(تـ. 465/1072)، من المصنفاتِ الصوفية التي تحظى بشعبيةٍ واسعة، وجاء فيه أن الجنيدَ البغدادي -أحد أشهر وأكثر الشخصيات الصوفية تبجيلا- وصف مجموعةً من الصوفية يضعون "رؤوسهم على ركبهم، منهمكين في التأمل" في مسجد الشونيزية في بغداد. كما يحكي القشيري أن النبيَّ الخضر قابل ولياً في المدينة المنورة، يمارس هذه العادةَ ويجلس في حضرة الله حين يفعلها. وفي كتاب "تذكرة الأولياء" للصوفي الشهير فريد الدين العطار، يُذكر أن الصوفيَّ الفارسي الشهير أبواليزيد البسطامي (تـ. 234/848 أو 261/875) كان "يضع رأسه على ركبتيه" حين يدخل في "حالٍ" روحيٍّ خاص، وفي هذا الحال قد تظهر الكراماتُ على يديه.

في القرن الحادي عشر في بغداد، رأى الحاخام هاي جاوون (939-1038م) أن الصعودَ إلى السماء ومقابلةَ الرب هي مسألةٌ روحانية لا جسدية، وضمن التحضير لها يضع المتصوفُ رأسه بين ركبتيه

وفي موضعٍ آخر من الكتاب يحكي العطار عن ارتباطٍ واضح بين لقاءات البسطامي بالله –حسبما كان يقول- وإخفاء رأسِه في رقبته أو في ياقة ثيابِه الموجودة حول رقبته. ومثل هذا الوصف لعمل البسطامي يتطابقُ بشكلٍ لافتٍ مع شرح الجذر اللغوي لكلمة "تزييق".

الممارسة أقدم عند اليهود

رجح فنتون أن تكون ممارسةُ وضع الرأس بين ركبتين مأخوذةً من انحناء النبي إيليا على جبل الكرمل في فلسطين، أي قبل الإسلام بقرون، كما جاء في كتابة الحبر حنانيل. وأظهر فنتون أن هذا الأمرَ كان موضوع العديد من الكتابات المختلفة في الأدب الرباني والصوفي اليهودي، منها: في نصٍّ تلمودي ، يلجأ الحاخام حانينا بن دوسا (شخصية صوفية كاريزمية بالقرن الثاني الميلادي) إلى وضع رأسِه بين ركبتيه من أجل استحضار معجزةٍ من الله، وشفاءِ طفل مريض. في نصوص صوفيةٍ، نقرأ أن هيخالوت زوتراتي. Heykhalôt Zutratî، الذي يُنسَب عادة إلى الحاخام عقيبة في القرن الثاني الميلادي، يقرن هذا الوضع (الرأس بين ركبتين) بالصيام والاعتكاف، كجزءٍ لا يتجزأ من طقوس الاستعداد لـ "استحضار اسم الله". في القرن الحادي عشر في بغداد، رأى الحاخام هاي جاوون (939-1038م) أن الصعودَ إلى السماء ومقابلةَ الرب هي مسألةٌ روحانية لا جسدية، وضمن التحضير له يضع المتصوفُ رأسه بين ركبتيه. ونلاحظ أن ما قالَه هاي جاوون، هو نفسُه ما كان يفعله أبو اليزيد البسطامي حين يقابلُ الله، بحسب ما ذكر فريد العطار. وزَعْم البسطامي أنه كان يقابلُ الله ويتكلم معه، هو أمرٌ شهيرٌ سماه الصوفية بالشطح.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image