شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حين تبخّر البحر على جلودهن

حين تبخّر البحر على جلودهن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 29 يناير 202202:11 م

حياكة الكلام


اسودت أوجه النساء وأصابهن الوهن. حلت الكارثة منذ أيام، عندما بدأ رجال البلدة يسقطون، واحداً تلو الآخر، ضحية المرض الذي افترس أعضائهم التناسلية. كانوا يصرخون من الألم، بينما تشكو النساء من قلة الحيلة، قاموا بعمل المستحيل لهزم المرض بلا جدوى، أخبرهم الطبيب أن هذا الفيروس النادر لا علاج له داخل المدينة أو خارجها، وأنه أيضاً لا يستطيع علاج نفسه.

كل مساء، تجلس النساء يبكين على حالهن، ينتظرن فرج الله، بينما يجتمع الرجال على أحد المقاهي يفكرون في حل للمصيبة التي حلت بهم، داوم الرجال على الصلاة واستمرت النساء في الدعاء.

"خيبتنا كبيرة وأصبحت سيرتنا على كل لسان": قالت زوجة عمدة البلدة، ناظرة إلى النساء اللاتي يجلسن في حضرتها، كل امرأة تمصمص شفتيها ولا تجد ما تقوله، واحدة منهن نظرت حولها تدقق النظر فيهن، واشتعلت عينيها غيظاً لتقول: "وهل سيكون هذا قدرنا الأبدي؟".

طأطأت النساء رؤوسهن واستمر الصمت لدقائق، عاودت خلالها زوجة كبيرهم النظر إلى كل واحدة منهن لتقول باسطة يديها للسماء: "لنكرر الدعاء عل الله يرفع البلاء".

الرجال رضخوا للأمر الواقع. بات كل واحد منهم ينظر في المرآة ليرى نفسه تحول إلى طفل صغير، وأن مصدر فخره بات هزيلاً. شعرت النساء أن رجالهن أصبحوا عبئاً ثقيلاً عليهن.

حلت الكارثة منذ أيام، عندما بدأ رجال البلدة يسقطون، واحداً تلو الآخر، ضحية المرض الذي افترس أعضائهم التناسلية... مجاز في رصيف22

جلست إحداهن تشاهد التليفزيون في غرفتها وزوجها ينام على السرير يقضم أظافره، ينظر إليها بين الحين والآخر، يتأمل عباءتها الواسعة التي ترتديها في غرفة النوم، أغمض عينيه يتذكر رداء نومها الذي كانت تغيّره باستمرار لتفاجئه بألوان زاهية يحبها، سألها بغضب: "ما هذا الذي ترتدينه؟".

نظرت إليه زوجته في دهشة وأسندت رأسها بيدها وردت بنبرة يغلب عليها المعايرة: "وماذا أرتدي لسيد الرجال الجبار؟".

لم يطق زوجها هذه السخرية، منها فانهال عليها ضرباً وأسقطها أرضاً، وتركها بعد ذلك غارقة بدمائها، بينما كانت تعايره بضعفه وعجزه وبسوء حظها الذي أوقعها فيه، وعندما جاء المساء وجدت زوجها منتحراً في غرفته.

تكررت هذه المشاهد بين الحين والآخر، ودبت الخلافات بين الأزواج، قامت سيدة عجوز تعمل بالعطارة بعمل مشروب قالت إن فيه الشفاء، وماتت آمال الرجال والنساء بعد شهر من تناوله دون فائدة، وبعد مرور شهرين انتحر كل رجال البلدة.

بكت النساء. لعنت كل امرأة سوء قدرها، واتشحن بالسواد. عويلهن ملأ كل أرجاء البلدة، كانت الجمل مكررة لا تغيير فيها. التفّ صغارهن حولهن يبكون بصوت عال، يذكرون آباءهم، وتعالى صوت البكاء، حتى توقفت إحداهن فجأة لتضحك، مثيرة الاستنكار لثوان ثم تحول الاستنكار إلى استهجان لواقعة مدت أذرعها لتنتقل إلى الأخريات.

اجتمعن في منزل زوجة العمدة للتفكير في طريقة للتخلص من الجثث المتكومة في منزل كبيرهم، وسألت إحداهن: "كيف سندفن هذا العدد من الرجال؟".

ارتفعت أصوات النساء في وقت واحد، كل امرأة تقول رأيها، واحدة تؤكد على ضرورة دفنهم بطريقة شرعية تليق بهم، بينما صرخت فيها الأخرى تقول إنها لن تقدر على القيام بأي مجهود، وأن زوجها لا يستحق أي تكريم، فقاطعتهن زوجة العمدة قائلة: "لن ندفنهم، سنجتمع هنا ليلاً ونقوم برمي الجثث في البحر".

 اجتمعن في منزل زوجة العمدة وسألت إحداهن: "كيف سندفن هذا العدد من الرجال؟"... مجاز في رصيف22

كانت العتمة تملأ الشوارع حينما بدأت كل امرأة تحمل زوجها بمساعدة الأخرى لترميه في البحر، وتكرر الأمر حتى انتهت الجثث وامتلأ البحر. خيّم الحزن على النساء لفترة، بدأت كل واحدة تشكو الملل ورتابة الأيام، حتى جاءت تلك الليلة التي أعلنت فيها إحداهن: "لقد ذهبت أمس إلى البحر لن تصدقن إحساسي وأنا بداخله، نشوة غريبة".

نظرت إليها النساء طويلاً، واسترسلت المرأة في وصفها للمياه التي أعادت الدماء إلى وجهها، ورغم أن بعضهن لم يصدقن ما قالته. عندما جاءت ليلة الخميس، خرجن جميعاً من بيوتهن عرايا، وألقين بأنفسهن إلى البحر، كل منهن تحتلّ جزأها الخاص، تمنحه دفئا صامتاً وتأخذ منه ما تستطيع. وبعد مرور ساعات، وقبل أذان الفجر خرجن، كل منهن تستر عورتها لتعود إلى منزلها، بعضهن سكارى من الفرحة وأخريات يبكين دون كلام.

وتكرر الأمر كل ليلة خميس. يخرجن من منازلهن مسرعات ليسقطن داخل البحر، حتى الباكيات منهن في المرات السابقة يذهبن، ولم تحك واحدة منهن ما يحدث لها داخله، احتفظت كل امرأة بسرها الخاص، وبدأت الحياة تعود لجمالها السابق قبل أن يزهق الفيروس أرواح أزواجهن.

بدأت النساء مجدداً ينظرن للمرآة. تجلس كل امرأة بالساعات تتغزل في جمالها وحسنها. حتى تأتي اللحظة ليسلمن أنفسهن للبحر دون تردد، ثم بدأ عددهن يقل. لاحظت واحدة منهن ذلك وقالت: "اختفت ثلاث نساء منا ولا نعرف أين ذهبن".

يبتلع البحر واحدة منهن كل مرة، ورغم حالة الخوف التي دبت بينهن، لم تتخلف واحدة من الباقيات عن الذهاب إلى هناك. وكن في كل مرة يخرجن مسرعات يخفين عورتهن ويعدن إلى منازلهن دون البحث ورائهن عن المختفية الجديدة التي أكلها البحر.

وفي يوم جديد لم تشرق فيه شمس النهار، خرجن للبحر ليجدنه تبخر تماما واختفى. جلست النساء على الشاطئ، بكت بعضهن ولطمن خدودهن، وضحكت الأخريات، ثم عدن إلى منازلهن، ولم تخف أي واحدة منهن تلك الليلة عورتها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image