الألوان المائية
لمسة أخيرة باللون الأحمر أضفتها فاستدار وجه الشمس، ثم أشرقت اللوحة وبرزت فيها امرأة فوق بساط الاقحوان الأحمر. امرأة بوجهها البدر وعينيها الواسعتين و شعر طويل فاحم يغطي جزءاً من جسدها الأبيض، وشفتين مصبوغتين باللون الأحمر. ظللت أتأمل اللوحة التي يطغى عليها اللون الأحمر وأصوات الماضي قد انبثقت من اللوحة.
الطفولة
فكرت أني منذ كنت طفلة أحببت اللون الأحمر، فإذا ما هل الربيع رافقت أختيّ إلى حقول قريبة تضج بالأقحوان والرّمان. كنا نرتع هناك لساعات كثيرة وأنا سعيدة، وقد طغى اللون الأحمر على بصيرتي. وحين يأتي الليل، ما كنت أحلم إلا بالألوان الحمراء ومشتقاتها، وفي المدرسة كنت أحدق في علم بلادي الأحمر، فأفخر بوطني أيما فخر.
كانت جل أغلفتي حمراء، كذلك الطباشير، كنت أحب الرسم وأفضل أن أرسم فتاة بفستان أحمر وأرسم شمساً حمراء وبساطا أخضر تغطيه زهور حمراء. وفي المنزل، حين تغيب أمي، أتسلل إلى بيتها وأضع على شفاهي أحمر شفاه فاقع، ولساعات أظل أتأملني في المرآة وأنا في قمة السعادة، وكم كنت أنتظر العطلة بفارغ الصبر حتى أضع طلاء أحمر على أظافري، ذلك أن المعلم يعاقبنا لو فعلنا ذلك أيام الدراسة.
ذات ليلة، أحسست برغبة جامحة لوضع أحمر الشفاه، لكن أمي لم تغادر المنزل منذ أيام، فلوّنت وجهي بقلم زينة لبدي أحمر، وحين رأتني أمي شهقت وهددت بعقابي، ليلتها لم يذهب الأحمر من وجهي إلا بعد أن اهترأ جلدي.
يوم العيد
ذات عيد اشترى لي أبي فستاناً أحمر لكنه اقتنى لي بالوناً أخضر، وبالوناً أصفر لأختي ربيعة، أما الأحمر فكان ويا لحظي من نصيب أختي سلوى. غضبت يومها غضباً شديداً لأن البالون الأحمر ليس لي، وكرهت سلوى، وعاتبت أبي، وطلبت من أختي أن نتبادل البالونات، ولكنها رفضت بشدة، فبقيت أبكي وطال عتابي المزعج. وأخيراً حاولت خطف البالون الأحمر من سلوى، لكنها تشبثت به وهي تصرخ، وهكذا انفجر البالون الأحمر وعاقبني أبي عقاباً شديداً. ليلتها نمت باكية مرددة: "أريد البالون الأحمر، البالون الأحمر"، في صبيحة الغد، فوجئت أن أبي ملأ غرفتنا بالبالونات الحمراء.
رأيت ليلتها شيئاً غريباً، وأناساً يرقصون بلون دم أحمر في قماش أبيض، وفهمت بعد قليل أنّ ذلك اللون الأحمر هو ما يزعمون أنه عفة العروس قبل الزواج، ومن غيرها ستسيل دماء القتل... مجاز في رصيف22
الأحمر في بعض الأحيان شديد القسوة
كبرت قليلاً و رأيت القتل في التلفاز والدماء الحمراء، وعلمت أن الأحمر يكون في بعض الأحيان مؤلماً وقاسياً بطريقة لا توصف، لكن أبي فاجأني بأدوات رسم قائلاً: "هيا فجري موهبتك، فقد لاحظت أنك تعشقين الرسم". عندها ما كنت أدري أني سأكون رسامة وستكون لي هذه اللوحة التي أتأملها وأنا أتذكر الماضي.
زمن المراهقة
أصبحت شابة وتكوّرت أشياء في صدري، وبدأت أرتدي خفية قميص نوم أمي الأحمر الشفاف، لكن ذات يوم حدث شيء أزعجني، فقد اكتشفت أن لوناً أحمر يسيل من أسفلي مع آلام في بطني، وأحسست أن ذاك الأحمر غير مرحب به من قبلي، ذاك الضيف الثقيل الذي سيظل يزورني كل شهر، فوا أسفي. ولأشهر ظللت لا أتقبل ذاك الأحمر حتى علمت أن رفيقاتي أصابهن ما أصابني، وبدأت أعتاد.
ليلة الصدمة
ذات صيف، حضرت عرساً في إحدى القرى مع عائلتي، رأيت ليلتها شيئاً غريباً، وأناساً يرقصون بلون دم أحمر في قماش أبيض، وفهمت بعد قليل أنّ ذلك اللون الأحمر هو ما يزعمون أنه عفة تلك العروس قبل الزواج، وأن من غيرها ستسيل دماء القتل، وكم دهشت ليلتها وكرهت نفسي. وبعد تلك الصدمة أقسمت ألا أتزوج. هكذا ظللت لأيام حائرة أمقت جهل أصحاب العرس. ومرت سنوات أخرى فيها التأم ذاك الجرح، وتأملت حال الدنيا، وتيقنت أنه في كل شيء جميل لا بد من نقيض له، حتى في لوني المفضل، ومع ذلك كله ظللت أحب اللون الأحمر وما أنساني ذاك الجهل سوى الرسم.
قصة الحب
خرجت وصديقتي من الجامعة قاصدتين منزلاً كنا نستأجره في ذاك الوقت، وما إن نزلنا من المترو حتى نزل علينا المطر بغزارة ودون سابق إنذار. كان الطقس خريفياً وكنت وصديقتي نرتدي ثياباً خفيفة، وبدأنا نجري مرتجفتين ضاحكتين تحت عيون السماء الفائضة بدموعها، وفجأة وُضعت فوق رؤوسنا مطرية، نظرنا وراءنا، فإذا هو شاب وسيم، فارع الطول، ما لبث أن وضع عصا المطرية في يدي. في البداية طردناه لكنه كان لطيفاً، سرعان ما استأذن سريعاً تاركاً مظلته واتخذ مكاناً تحت مظلة صديقه.
جاء يوم ميلادي، فأهداني حبيبي شمعة فيها قلب أحمر يضج بالطيب، يومها سهرنا معاً وعرفت طعم القبلة الممنوعة التي جعلت دماء عذبة تتراقص في عروقي، وأحسست أن شهوتي المحرمة حمراء.. .مجاز في رصيف22
ضحكنا للصدفة حين اكتشفنا في المنزل أن المظلة حمراء، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحمل معي تلك المطرية الحمراء، حتى وإن كانت الشمس ساطعة، علّني أرى صاحبها فأعيدها إليه، والحقيقة أن السبب الذي كنت أخفيه حتى عن صديقتي أني كنت أتوق بشدة للقاء ذلك الشاب. ذات يوم شتاء كنا نمر أمام مقهى أفريكا بالعاصمة، وكنت أحمل مطريته كالعادة، حين وقف أمام وأحسست عندها لأول مرة بطعم الحب، ثم عرفت أنه أحبني مذ رآني في المترو في ذاك اليوم الخريفي الماطر.
ومرت أيام وأضحينا نلتقي، إلى أن جاء يوم ميلادي، فأهداني حبيبي شمعة فيها قلب أحمر يضج بالطيب، يومها سهرنا معاً وعرفت طعم القبلة الممنوعة التي جعلت دماء عذبة تتراقص في عروقي، وأحسست أن شهوتي المحرمة حمراء. استوعبت أني أتبسم وأنا أتذكر قصتي مع اللون الأحمر، فيما اللوحة الحمراء التي تضج بالأحمر البهيج أمامي، وردّدت وأنا أواصل الابتسام والتأمل "لا يمكن للحب إلا أن يكون أحمر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...