يثير عرض المدنيين أمام المحاكم العسكرية في تونس مخاوف الحقوقيين من اعتماد القضاء العسكري كوسيلة ضغط لضرب حرية التعبير وتكميم أفواه المعارضين خاصة أن وتيرة هذه المحاكمات ارتفعت منذ الإعلان عن الإجراءات الرئاسية الاستثنائية في 25 يوليو الفارط واختلاف آراء وقراءات الشعب التونسي بين مؤيد ورافض لها.
مؤيدون ومعارضون
محاكمات بالجملة طالت بعض نواب الشعب بعد أن تم رفع الحصانة عنهم وتجميد البرلمان كما مثل مدونون وسياسيون وصحافيون أمام القضاء العسكري بتهم مشابهة تتمثل في ارتكاب "فعل موحش ضد رئيس الدولة" و"الحط من معنويات الجيش الوطني". وقد أثارت هذه المحاكمات استياءً كبيرا لدى من يؤمنون بأن المحاكم العسكرية تختص في الجرائم العسكرية دون سواها.
في المقابل يؤيد بعض أساتذة القانون الدستوري عرض مدنيين على المحاكم العسكرية خاصة عندما يتعلق الأمر برئيس الجمهورية على اعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة أو بأمن الدولة كما يعيبون على بعض النواب استغلالهم للحصانة البرلمانية لتجاوز القانون عوض استعمال الحصانة في صلب عملهم البرلماني.
كما يعتبر البعض أن القضاء العسكري هو الضامن لحماية مؤسّسات الدولة من الإشاعات السياسية وردع كل من يحاول زعزعة ثقة المواطن التونسي في مؤسسات الدولة ورئيسها علاوة على القطع مع "التصريحات غير المسؤولة".
نقَّح المرسوم عـدد 69 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم القضاء العسكري وضبط النظام الأساسي الخاصّ بالقضاة العسكريين اختصاص المرافعات والعقوبات العسكرية لسنة 1957 وساهم في توسيع صلاحيات القضاء العسكري على المدنيين فأضاف ضمن اختصاص القضاء العسكري "جرائم الحقّ العام المرتكبة ضد العسكريين أثناء مباشرتهم للخدمة أو بمناسبتها" و"قضايا الحق العام المرتكبة من العسكريين".
"فعل موحش ضد رئيس الدولة" و"الحط من معنويات الجيش الوطني". كيف تحوّل القضاء العسكري إلى فزاعة تلاحق معارضي النظام في تونس؟
ولئن اتجه المشرع التونسي قبل الثورة نحو تقليص اختصاصات القضاء العسكري وإحالة القضايا التي يكون مدنيٌّ طرفا فيها على القضاء العدلي فان ثورة 2011 حرصت على جعل القضاء العسكري جهة اختصاص للنظر في العديد من القضايا انطلاقا الخاصة بشهداء وجرحى الثورة.
وقد أصدرت الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بتونس يوم 21 سبتمبر 2012 حكما بالسجن 4 أشهر في حق المستشار أول السابق برئاسة الجمهورية أيّوب المسعودي بتهمة "تحقير الجيش والمس من هيبة المؤسسة العسكرية" و"نسبة أمور غير حقيقية إلى موظف عمومي".
كما قضت المحكمة العسكرية في تونس يوم 27 مارس 2018 بسجن النائب ياسين العياري 16 يوما بتهم "سب المؤسسة العسكرية والتهجم عليها".
وإبَّان الإعلان عن الإجراءات الرئاسية الاستثنائية انطلقت سلسة المحاكمات العسكرية لتشمل في البداية نواب كتلة "ائتلاف الكرامة" من بينهم عبد اللطيف العلوي وسيف الدين مخلوف ومحمد العفاس فيما عرف في تونس بـ "قضية المطار" كما أصدر حاكم التحقيق الثاني بالمحكمة العسكرية الدائمة بطاقة إيداع بالسجن في حق الصحافي عامر عياد على خلفية إلقائه في برنامج تلفزي لـ "قصيدة أحمد مطر" بتهمة التآمر المقصود به تبديل هيئة الدولة.
رفض للتوجه الجديد
أعرب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلم عن رفض الرابطة لمبدأ محاكمة مدنيين في القضاء العسكري مؤكدا أن التهم الموجهة لنواب ائتلاف الكرامة في حادثة المطار وللصحافي عامر عياد يمكن أن ينظر فيها القضاء المدني الذي يحتوي على ترسانة من القوانين تفي لمحاكمة جميع التهم.
وأكد مسلم على أن الرابطة لا تقبل فتح باب المحاكمات العسكرية للمدنيين لأن الأحكام في المجلة العسكرية ثقيلة جداً وتصل حدَّ الإعدام في علاقة بالمسائل الأمنية مبينا أن هذه المحاكمات اختيار سياسي.
وتابع محدث رصيف22 أن الرابطة طالبت منذ عشرات السنين باستقلال القضاء عن التجاذبات السياسية وعن التأثيرات المباشرة وغير المباشرة التي تجعله في تبعية للسلطة التنفيذية مشددا على أهمية إصلاح المرفق القضائي إصلاحات جوهري.
بدوره يؤكد المدير التنفيذي لمرصد الحقوق والحريات بتونس مروان جدة أن المرصد بصدد متابعة جميع القضايا التي تمت إحالتها على القضاء العسكري منذ الثورة والتي ارتفعت وتيرتها بعد 25 تموز/يوليو "تاريخ إعلان رئيس الجمهورية عن الإجراءات الاستثنائية" بتوظيف سياسي أو بالأحرى لخدمة طرف سياسي معين مشددا على أن المرصد يدين هذه الممارسات ويتابعها بدقة ويوفر محامين متطوعين للدفاع عن المتهمين.
ويرى محدث رصيف 22 أن كل شخص ينتقد الإجراءات التي يتخذها رئيس الجمهورية توجّه له تهمة ارتكاب فعل موحش ضد رئيس الدولة والحط من معنويات الجيش الوطني وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض بالسلاح والتحريض على القتل والسلب على غرار قضية المطار والصحافي عامر عياد الذي أحيل على القضاء العسكري بسبب إلقائه لقصيدة في مقدمة برنامج تلفزيوني.
ويضيف مروان جدة: "لا يصدق عاقل أن ما قام به الصحافي عامر عيّاد، بغض النظر إن كان صوابا أو خاطئا، يمكن أن يتسبب في تبديل هيئة الدولة ودفع الناس إلى التقاتل فهذه التهم عقابها الإعدام". كما أشار إلى أن القضايا المحالة على القضاء العسكري بالعشرات وتم مؤخرا إحالة 30 شابا من محافظة تطاوين على المحكمة العسكرية بصفاقس.
كما بين أن هذه المحاكمات مخالفة للدستور التونسي وللمعايير الدولية وأن خطورتها تكمن في أن القضاء العسكري لا يخضع لسلطة المجلس الأعلى للقضاء مشددا على أنه لا مجال للتشكيك في القضاء العسكري.
أما عضو النقابة الوطنية للصحفيين فوزية غيلوفي فقد أشارت إلى ارتفاع المحاكمات العسكرية منذ 25 تموز/يوليو مؤكدة أن النقابة ترفض رفضا قاطعا إحالة مدنيين على القضاء العسكري سواء كانوا إعلاميين أو صحافيين أو مواطنين على اعتبار أن تونس دولة مدنية وديمقراطية.
وأضافت في تصريح لرصيف22 أن النقابة متمسكة بإحالة الصحافيين الذين تصدر عنهم بعض التجاوزات الأخلاقية أو غيرها على المرسومين 115 و116 ولا تسمح بتجاوز الهيئات التعديلية التي تنظم القطاع. وأكدت المتحدثة أن: "الثورة في تونس قامت على الحرية ومن غير المعقول أن يصبح شخص محل ملاحقات واعتداءات لأنه عبَّر عن رأيه".
وذكرت عضو نقابة الصحافيين بأن رئيس الجمهورية أكد في أكثر من مناسبة أنه مع الحقوق والحريات لكن هذا لا يطبق على أرض الواقع مشيرة إلى أن النقابة كانت قد حمَّلَته في بياناتها المسؤولية، على اعتباره الضامن للحقوق والحريات.
"سلطة الانقلاب أقدمت على ما لم يقدم عليه أحد من قبلها وهذه معرة في جبين نظام الانقلاب". تونس ومنزلق القضاء العسكري ضد المعارضين للرئيس
بدوره أكد المحامي والناشط الحقوقي سمير بن عمر أن ظاهرة محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في تزايد منذ 25 تموز/يوليو مشيرا إلى أن هذه المحاكمات تهدف إلى تصفية نشطاء وخصوم سياسيين لقيس سعيد.
وشدد محدث رصيف 22 أنه ضد هذه المحاكمات المخالفة للدستور والقانون المنظم للقضاء العسكري خاصة وأن ظروف وملابسات هذه المحاكمات سياسية معتبرا أنه تم الزج بالقضاء العسكري وتوظيفه لتصفية حسابات.
وردا على تبرير هذه المحاكمات بأن رئيس الجمهورية هو قائد القوت المسلحة قال بن عمر: "قيس سعيد ليس أكثر ذكاء من الرؤساء الذين تداولوا على تونس. هل الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وفؤاد المبزع والباجي قايد السبسي والمنصف المرزوقي لم يتفطنوا أنهم يحملون صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة. سلطة الانقلاب أقدمت على ما لم يقدم عليه أحد من قبلها وهذه معرة في جبين نظام الانقلاب" على حد تعبيره.
الإطار القانوني
تتم محاكمة المدنيين بالمحاكم العسكرية في تونس استنادا لعدد من القوانين التي تتيح ذلك في مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية من بينها الفصل عدد 8 الذي ينص على أنه: "يحاكم أمام المحاكم العسكرية من أجل الجرائم المنصوص عليها بالفصل الخامس من هذه المجلة المدنيّون بصفتهم فاعلين أصليين في هذه الجرائم أو مشاركين فيها".
كما ينص الفصل 91 من نفس المجلة على جملة من العقوبات تتمثل في أن: "يعاقب بالسجن من ثلاثة أشهر إلى ثالث سنوات كل شخص عسكري أو مدني تعمد بالقول أو بالحركات أو بواسطة الكتابة أو الرسوم أو الصور اليدوية والشمسية أو الأقلام بمحل عمومي تحقير العلم أو تحقير الجيش والمس من كرامته أو سمعته أو معنويته أو أن يقوم بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء أو الاحترام الواجب لهم أو انتقاد أعمال القيادة العامة أو المسؤولين عن أعمال الجيش بصورة تمس كرامتهم".
"لا يصدق عاقل أن ما قام به الصحافي عامر عيّاد، بغض النظر إن كان صوابا أو خاطئا، يمكن أن يتسبب في تبديل هيئة الدولة ودفع الناس إلى التقاتل". فلماذا استخدم القضاء العسكري ضده
وبالإضافة لـ"مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية" تتيح نصوصٌ قانونية أخرى عرض المدنيين على القضاء العسكري من بينها الفصل 22 من قانون عدد 70 لسنة 1982 الذي ينص على أنه: "تحال على المحاكم العسكرية ذات النظر القضايا التي يكون أعوان قوات الأمن الداخلي طرفا فيها من أجل واقعة جدّت في نطاق مباشرة العمل ولها مساس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي أو بحفظ النظام في الطريق العام وبالمحلات العمومية والمؤسسات العمومية والخاصة وذلك أثناء أو إثر الاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والمظاهرات والتجمهر".
واستنادا إلى الفصل 110 من الدستور والذي ينص على أن "المحاكم العسكرية متخصصة في الجرائم العسكرية ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها" تقدمت الكتلة الديمقراطية بمقترح قانون عدد 2018/85 يتعلق بتنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية يهدف إلى إلغاء بعض الفصول لتتلاءم مع دستور 2014.
مواقف مساندة للقضاء العسكري
إنْ اعتبر البعض أن المحاكمات العسكرية للمدنيين سلاح الأنظمة الاستبدادية فإن البعض الآخر يرى أن إحالة مدنيين على القضاء العسكري منصوص عليها في القانون التونسي ولا تشكل أي خطورة على الحقوق والحريات.
ويرى الباحث في القانون الدستوري رابح الخرايفي أن المدنيّ عندما يرتكب جريمة عسكرية لديها وجود دستوري يحاكم في القضاء العسكري موضحا أنه قضاء متخصص وليس قضاءً خاصا، ويتمتع المتهم الماثل أمامه بنفس الضمانات القانونية الموجودة في القضاء الجزائي والمتمثلة في تكليف محامي ومبدأ المواجهة والاستئناف والتعقيب والاعتراض والقيام بالحق الشخصي.
وأكد محدث رصيف 22 أن ضمانات المحاكمة العادلة متوفرة في القضاء العسكري ولا يمثل المتهم أمامه إلا إذا ارتكب جريمة وفق ما ينص عليه مرسوم سنة 2011 مشيرا إلى أن بعض القضايا يستوعبها القضاء العدلي وأخرى تحال على القضاء العسكري طبقا للقانون وليس مزاجيا.
ورغم أن المدافعين عن هذا التوجه يرون أن القانون العسكريّ ليس مزاجيا، إلا أن المدافعين عن حقوق الإنسان صاروا يخشون أن يصبح سيفا مسلّطا على رقاب التونسيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون