ينطلق الفيلسوف الإنكليزي، توماس هوبس، في نظريته التي تحدث فيها عن العقد الاجتماعي، من أن العنف كامنٌ في النفس البشرية الغرائزية. يقول في كتابه الشهير "الليفيثان"، إنّ الناس في الغالب يلجؤون إلى الحروب والعنف في حل نزاعاتهم، ولا يفضّلون الاحتكام إلى القوانين، أو إلى سلطة سياسية.
لذلك، برأيه، من الصعب التوصل إلى صيغة مشتركة تعاقدية، إلّا من خلال تسليم الناس حرياتهم إلى طرف ثانٍ (الدولة)، من دون أن يكون لهم الحق في استرجاعها مرةً أخرى.
قد يظهر لنا أن هناك مفاوضات سياسية تجري بين أطراف متباينة القوة، والأهداف، تتمخض عنها نتيجة مُرضية للضعيف وللقوي. ولكن، مع الأسف، في الغرف الضيقة، هناك أسس ومفاهيم مختلفة كلياً، مبنية بشكل أساسي على معادلة "القوة والضعف".
الشباب السوريون والسلاح
كيفية تحرّك الأمور في الواقع، قد تفسر الأسباب الرئيسية التي دفعت الشباب السوريين للجوء إلى خيار السلاح، بدلاً من العمل السياسي الثوري، خلال الثورة السورية، مدفوعين بقناعتهم بصعوبة أن يُصغي المجتمع الدولي إلى رغباتهم، في الحرية، والكرامة، وبناء دولة جديدة، بعيداً عن سلطة الاستبداد والقمع، من دون أن يمتلكوا بين أيديهم أوراقاً عسكرية يمكن أن تدعم مطالبهم المحقّة.
ولكن، في الوقت الذي بدأ فيه الحصاد السياسي للمجريات الميدانية، بعد أن فرضَ شباب يمتلكون أحلاماً كبيرة، واقعاً جديداً في ما يخص معايير القوة، استُبعد هؤلاء عن القرار، بعدما ظهرت في الواجهة قوى وشخصيات سياسية سورية قضت حياتها في المنفى، بعيداً عن ثورة السوريين الحديثة، وعبثت بالإنجازات التي حققها الشباب، عسكرياً، وتصارعت على المناصب، والمكاسب، والشهرة، في وقت كان فيه شباب كثيرون يبذلون أرواحهم فداءً لقناعاتهم، ولرغبتهم بالتغيير.
شباب بلا خبرة سياسية
الطريقة الاستبدادية في إدارة سلطة سوريا، أقصت شبابها عن المشاركة في اتخاذ القرارات على مدار أربعة عقود، وحرّمت أيّ عملٍ سياسي معارض.
هذه العلاقة، غير السليمة تاريخياً، بالشأن العام، دفعت الكثيرين من الشباب إلى الانكفاء عن أحداث الثورة التي اندلعت، أو إلى الهجرة، أو إلى دعم خيار الثورة من بعد، من دون السعي إلى أن يكونوا فاعلين في مجرياتها.
في حوار أجريته قبل أشهر عدة، مع شخصية سياسية سورية تشغل منصباً مهماً في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، طرحت عليه السؤال التالي: "لماذا هذه المنصة السياسية التي تمثّل طموحات الشباب السوريين بالحرية والكرامة، خالية من الشباب؟". أجابني بكل بساطة، ومن دون أيّ خجلٍ، في جوابٍ يعكس حقيقة تفكير الطبقة السورية "النخبوية" التي ترى أن لها وحدها الحق في إدارة العملية السياسية السورية، دون غيرها من الفئات السورية: "أنتم الشباب غير مؤهلين لعمل سياسي. لا تمتلكون لا الخبرة، ولا التجربة". كان هذا تعبيراً عن وجهة نظر المعارضة السورية السياسية في الشباب السوريين، والتي ينطلقون منها في عملية الإقصاء التي أراها ممنهجةً، ومدروسةً، وليست عشوائيةً كما يعتقد البعض.
"اندفع الشباب السوريون إلى خيار السلاح، بدلاً من العمل السياسي الثوري، خلال الثورة السورية، مدفوعين بقناعتهم بصعوبة أن يُصغي المجتمع الدولي إلى رغباتهم من دون أن يمتلكوا بين أيديهم أوراق قوة"
وعلى الرغم من تأكيد بعض الشخصيات السورية الوطنية، كرياض الترك، "مانديلا سوريا"، الذي قضى نصف عمره في سجون نظام الأسد، الأب والابن، على أن "هذه الثورة ثورة شباب"، عندما انطلقت الثورة السورية، وكبرهان غليون الذي استخدم توصيف "ثورة شباب"، في كتابه "عطب الذات"، مستشهداً بنجاح الشباب السوريين في تجربة التنسيقيات المحلية التي أدارت العمل الثوري، إلّا أنَّ المناخ العام كان يشوبه إصرار كبير غير مفهوم على إقصاء هذه الفئة عن الشأن العام.
وكي أكون منصفاً، هناك بعض الشخصيات في الائتلاف والمعارضة، الذين احتكيت بهم، كانوا جيّدين من حيث التعامل ودعم قضية الشباب، ولكن للأسف عددهم وتأثيرهم قليل ومحدود.
يُعتقد، للوهلة الأولى، عندما يُطلب من الشباب السوريين الخبرة والحنكة السياسيَتين، أنّ المعارضة السياسية السورية حققت إنجازات كبيرة على صعيد العملية السياسية في سوريا! في الحقيقة، التقييم الموضوعي لنشاط المعارضة السورية السياسية، يمكن إدراجه تحت عنوان "الفشل" في إدارة المكتسبات التي قدّمها الشباب السوريون، على طبق من ذهب، من خلال خوضهم معارك عسكرية ومدنية ضد النظام السوري، ولا سيما في بداية الثورة، بين عامي 2011 و2013.
وهذا يمكن إثباته بالمقارنة بين القرارات الدولية المتخذة حيال الحل السياسي السوري المرتقب، من بيان جنيف 1 الذي أشار بشكل واضح إلى ضرورة تشكيل حكومة انتقالية، إلى القرار الأممي 2118 (2013)، الذي أكّدَ على ضرورة استخدام الفصل السابع في حال استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي (استخدمه بالفعل في خان شيخون لاحقاً)، إلى القرار الأممي 2254 الشهير (2015)، الداعي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي، وصولاً إلى سلال المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا (2017)، وليس انتهاءً باختصار أحلام السوريين كلها، بلجنة دستورية موزّعة على المعارضة، والنظام، والمجتمع، عقدت ست جولات تفاوضية فاشلة.
"ظهرت في الواجهة قوى وشخصيات سياسية سورية عبثت بالإنجازات التي حققها الشباب، عسكرياً، وتصارعت على المناصب، والمكاسب، والشهرة، في وقت كان فيه شباب كثيرون يبذلون أرواحهم فداءً لقناعاتهم، ولرغبتهم بالتغيير"
ولا تعدّ المعارضة السورية السياسية ما ذُكر أعلاه، فشلاً، وقلة خبرة، ونتيجةً طبيعية لتمسكهم بمناصبهم، وخلافاتهم، وصراعاتهم على سلطة غير موجودة بعد، بل تعزوه إلى مؤامرة دولية على ثورة السوريين، وتعنّت النظام السوري، وتستخدم هذا الخطاب للتعتيم على فشلها الذريع.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تُعيّر الشباب، بأنهم لا يمتلكون الخبرة والتجربة، في مشهدٍ غريب لا يمكن التعليق عليه، إلا بالقول إن ثورة الشباب السوريين تعرّضت للسرقة.
الشباب ورقة استثمار مربحة
يحاول الشباب السوريون، على الرغم من التحديات والعوائق كلها، الولوج إلى عمل سياسي يكون منطلَقاً لحياة سياسية جديدة في سوريا، ويكونون هم محركها الأساسي. فقد تشكلت في السنوات الخمس الماضية، أحزاب سياسية سورية جديدة كثيرة، بغية البحث عن مسوّغٍ، ومدخلٍ، للمشاركة في أجسام المعارضة السياسية، والدخول إلى الائتلاف الوطني.
حاولت بعض الأحزاب التي تتبنى توجهات ديمقراطية، الابتعاد عن الطرق التقليدية في انتقاء النخب السورية، وعمدت إلى فتح قنوات تواصل مع الشباب السوريين المؤثّرين على المستوى الشعبي، خاصةً أنَّ الشعب السوري سئم من رؤية الشخصيات ذاتها، وبات يرى في الشباب الصاعد، مصباح علاء الدين الذي قد يساهم إلى حد كبير في إنهاء المأساة.
"قال لي سياسي سوري يشغل منصباً مهماً في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية: ‘أنتم الشباب غير مؤهلين لعمل سياسي. لا تمتلكون لا الخبرة، ولا التجربة’"
على هذا الأساس، قررتُ الانضمام، برفقة بعض الشباب الوطنيين والطموحين، إلى تلك التكتلات. ولكن، مع بدء تجربة العمل السياسي، تبينَ أنَّها أضفت العنصر الشبابي على مكوّناتها، لأهداف شخصية، ولتلقى ترحيباً من الحواضن الشعبية السورية، مستثمرةً هذه الفئة بطريقة سيئة.
وثبت ذلك، عندما رفض أحد التكتلات السياسية، مشاركة الشباب السوريين في قيادة الصف الأول، ومنحهم مقاعد فرعية "ترضيةً"، ومنعهم بطريقة دبلوماسية من حضور أيّ فعالية سياسية مهمة، سواء اجتماعات، أو غيرها.
خضتُ تجربةً خاصة تثبت إقصاء الشباب. كنت الأصغر على الإطلاق من حيث العمر، ولكنّي لم أرَ نفسي أقل علماً وخبرةً من المسنّين. على الرغم من ذلك، شهدت الإقصاء، والتحايل على القوانين الناظمة الداخلية، وعلى إبعاد الشباب عن أيّ منصبٍ قيادي. ولذلك، فقدت الأمل، وانسحبتُ من العمل السياسي، بشكل شبه كلّي، كغيري من الشباب السوريين.
في ألمانيا، نجح الشباب السوريون في الحصول على مقاعد داخل البرلمان الألماني (البوندستاغ)، خلال الانتخابات الأخيرة، ممثلين أحزاباً مختلفة، ولكن في سوريا لا يزالون يُستبعدون عن أطر معارِضة، على الرغم من أنها عديمة الجدوى.
خلاص سوريا يعتمد، في الدرجة الأولى، على مشاركة السوريين كلهم في العملية السياسية، ولا سيما الشباب. ودون ذلك، من الصعب الحديث عن أيّ تقدمٍ قد يُحرز، وإنْ حدث أي تقدّم، فسيكون غير مكتملٍ، وسيكون عنواناً لمرحلة جدية من الصراع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...