يقضي معظم الطلاب السوريين، حياتهم الجامعية، في سوريا، على الطرقات، متنقلين من حافلة إلى أخرى، ومن قرية، إلى قرية أكبر، ثم إلى كراج مدينة، فالجامعة، إذ إن غالبيتهم من الطبقة الوسطى، أو الفقيرة، وهم موزعون على خمس جامعات حكومية مجانية، في البلاد.
طوال سنوات الحرب السورية، كان عليّ أن أنزل من قريتي، في ريف جبلة، وأسافر إلى كراج جبلة، ومنه إلى كراج اللاذقية، فالجامعة. محطات عدة، عند كل واحدة منها، كان عليّ أن أقف، لأكثر من نصف ساعة، وأتدافع بين الناس، والطلاب، والنساء، والكبار، والصغار، حتى أنعم بنصف مقعد، في بلد فيه، ومنذ عشر سنوات، أزمة سير، وأزمة أخلاق، وأزمة وقود.
الانتظار في الشمس، والتضارب بين الناس، والتدافع في الحرّ، أو العاصفة، وحتى شتائم السائق الذي لايخضع لأي قانون، لا في التسعيرة، ولا في الطريق، ولا في أسلوب المعاملة، هذه الأمور كلها، لم تكن أسوأ ما في الطريق، بل الحواجز!
شكّلت الحواجز عامل أمان للكثيرين، في بداية الحرب السورية، فهي كانت تعني الأمن، والأمان، وسلطة الدولة، في أزمة خانقة في البلاد، وتبدو لنا، نحن سكان الساحل السوري، عصابات جوّالة، تحاول تخريب البلاد. لكن، وما إن بدأت الكفّة ترجح لصالح النظام السوري، بوضوح، في بداية الـ2016، حتى أصبحت تلك الحواجز مرعبة للشباب السوري، خصوصاً أولئك الذين في سن التكليف. فبعد أن توقفت دوريات الشرطة العسكرية، عن طرق أبواب البيوت، لأخذ المطلوبين للخدمة العسكرية، خوفاً من مقاومة قد تصطدم بها، أصبحت توزع الأسماء على الحواجز. فآلاف الشبان السوريين، جرى اقتيادهم من الحواجز، وهم مطلوبون للخدمة الإلزامية، من دون أن يعرفوا ذلك مسبقاً.
الأسوأ من ذلك كله، هو كابوس تشابه الأسماء!
تشابه الأسماء، أسوأ هاجس يمكن أن يمر في بال إنسان. إذ لا يكفي يقينك بأنك لم ترتكب أي خطأ، أو جرم، تعاقَب عليه، لكن عليك أن تلعب لعبة الاحتمالات الرياضية الصعبة، لتسأل نفسك باستمرار: "ما احتمالية أن يكون هنالك مطلوب، اسمه كاسمي، وأتشابه معه في اسم الأم، أو الكنية، أو مكان السكن، أو أي معلومة من معلوماته؟!".
الأسئلة كثيرة: "ما هي احتمالية أن يكون شخص ما، قد قام بكتابة تقرير كيدي ضدي، لمشكلة معي، أو مع أبي، أو مع خالي؟"، أو "ما هي احتمالية أن يكون شخص ما، قد كتب تقريراً بشخص ما، اسمه يشابه اسمي؟!".
"لماذا ترتدي النظارات؟ خايف على عيونك من الشمس؟"، أو "أنا واقف النهار كله لأحميك، وأنتو ‘الطنطات’ طلاب الجامعات عم تدرسو بدل ما تقاتلو متلنا؟"، أو "ليش عم تسمع أغاني ‘بدانك’؟"... حديث "غير لطيف" قد يدور بينك وبين عناصر حاجز قوات النظام السوري
هذه الأسئلة والاحتمالات كلها، تجول في ذهنك، بينما يمسك عنصر الأمن على الحاجز بهويتك الشخصية، ويحدق فيها وفيك، ثم يصفن فيها، وينظر في عينيك. هذه الثواني، تمر كأنها ساعات، ثم يأخذها إلى غرفة "الفيش"، لتنتظر دورك هناك، وأنت تتصبب عرقاً وخوفاً. تفكر طويلاً في ما ستقول، وماذا ستبرر لهم إذا نادوك، وبمن ستتصل، وكيف ستقنعهم بأن يكونوا لطيفين، وبأنك بريء...
وقد يدور حديث غير لطيف، بينك وبين عناصر الحاجز، وكأنك طالب مدرسة، مثل أن يقول لك أحدهم: "لماذا ترتدي النظارات؟ خايف على عيونك من الشمس؟"، أو "أنا واقف النهار كله لأحميك، وأنتو ‘الطنطات’* طلاب الجامعات عم تدرسو بدل ما تقاتلو متلنا؟"، أو "ليش عم تسمع أغاني ‘بدانك’؟".
كلمات كثيرة، وأسئلة استفزازية أكثر، قد تخطر في بال العنصر، بينما يقوم بتمرير هويتك اللعينة على الجهاز، حتى تأتي المعجزة الإلهية، ويستجيب الله لدعواتك، ويقوم بإنقاذك هذه المرة، نعم هذه المرة فقط!
"لا أنسى حين بصقت آخر الجثث في وجهي، مادة صفراء، وأنا أضعها. لربما ظنتني جلّادها"
فصديقي وائل مر مرّتين، في يوم واحد، على الحاجز نفسه، في مدينة حمص. وفي المرة الثانية، ظهرت عند اسمه على شاشة اللابتوب عبارة "إرهابي"! تم تصنيفه كإرهابي، في أقل من ست ساعات، وسيق إلى فرع الأمن العسكري، حيث انتُزعت ملابسه جميعها عنه، وفُتِّشت فتحات جسمه كسائر المعتقلين، في سوريا، ورُمي في غرفة فيها عشرات المعتقلين، من كبار السن، والصغار، ومساحتها لا تتجاوز العشرة أمتار.
تلفّت وائل، وسأل بصوت خفيض، أحد المعتقلين: "قدي إلكن هون؟"، فأجابه: "هداك الجانن أقدم واحد فينا، إلو 23 يوم"... فنظر، ليجد شخصاً يهذي، ويضحك، وكلما علا صوته، جاء السجان ليسحبه، وينهال عليه بالضرب.
يُعرف فرع التحقيق العسكري، في حمص، بأنه الأقسى في سوريا. كان على وائل، والمعتقلين الآخرين كلهم، أن يجلسوا القرفصاء، الوقت كله، ويناموا في حالة القرفصاء أيضاً، لضيق المساحة. وكان في المهجع، صنبور ماء واحد، توفي تحته شخص لكثرة ما ضُرب رأسه بالحائط المحاذي له، وبقيت جثته ملقاة هناك لساعات.
في أحد الأيام، تدافع وائل، ومعتقل آخر، فأتى سجّان أخرجهما إلى الخارج، وأمرهما بأن يجثوا على ركبهما، وقام بضرب المعتقل الأخر بسوط طويل على ظهره، حتى تفسّخ.
نُقل وائل إلى مهجع آخر، فيه عساكر تابعون للجيش السوري، والدفاع الوطني، معتقلون بتهم مختلفة، أكثرها الفرار من الخدمة.
بعد جولات تعذيب عدة، لوائل، لا يحب أن يذكرها، ولا أن يتحدث عنها، بل يبكي كلما نسأله عنها، قال له المحقق: سنقوم بالإفراج عنك، شريطة أن تنفّذ مهمة سأكلفك بها.
"لا العلاج النفسي، ولا اللجوء في النرويج، أنقذوا وائل من تبعات الحادث. فقصته هذه، وتفاصيلها، ودموعه في كل مرة يروي فيها ما يستطيع أن يبوح لنا به، تجعلني أفكر مراراً في مصير مشابه، كلما مررت على حاجز من حواجز النظام"
كانت المهمة تقضي بأن يقوم بحمل عشرات الجثث لمعتقلين تعرضوا للتعذيب، وماتوا من جرّائه، ونقلها إلى سيارة "كيا 4000"، والنزول من السيارة في وقت محدَّد.
قام وائل بمحاولة رمي الجثث في خلفية السيارة، والنزول منها في الوقت المطلوب، ويقول لي دائماً: "لا أنسى حين بصقت آخر الجثث في وجهي، مادة صفراء، وأنا أضعها. لربما ظنتني جلّادها".
لا العلاج النفسي، ولا اللجوء في النرويج، أنقذوا وائل من تبعات الحادث. فقصته هذه، وتفاصيلها، ودموعه في كل مرة يروي فيها ما يستطيع أن يبوح لنا به، من القصة، تجعلني أفكر مراراً في مصير مشابه، كلما مررت على حاجز من حواجز النظام.
يمكث اليوم أكثر من 150 ألف معتقل سوري، في سجون النظام، حسب آخر تقرير صادر عن المرصد السوري لحقوق الإنسان، جزء كبير منهم لم يُعرضوا على قاضٍ، ولا يعرفون ما هي تهمهم، فهم يمكثون في السجون فحسب، ويتعرضون لأبشع أنواع التعذيب.
وعلى الرغم من أن حكومة النظام السوري أصدرت تشريعاتٍ، وقوانين جديدة، لحل مشكلة تشابه الأسماء هذه، إذ ينص القرار الصادر عام 2018، من وزير العدل السوري، بأن تعتمد النيابة العامة على الرقم الوطني، عند إصدار مذكرات الاعتقال، وليس على الأسماء فحسب، وذلك استناداً إلى أحكام المادة 12، من قانون الأحوال المدنية رقم 13، بتاريخ 25/3/2021، والتي نصت على "منح المواطن، بمجرد تسجيله في السجل المدني، رقماً وطنياً خاصاً به. ويتميز هذا الرقم بأنه وحيد، ودائم، وتلتزم الجهات الرسمية جميعها، باستخدامه، وتثبيته في سائر المعاملات والسجلات لديها، والوثائق الخاصة بهذا المواطن"... على الرغم من ذلك، فهي لم تستطع حتى اليوم، أو لم تقرر حل مشكلة التقارير الكيدية، أو التعذيب في المعتقلات، فهذا التعديل "الإنساني"، أنقص احتمالات اعتقالاتنا واحدة، ولم يلغِها، أو يخفف من تعذيبنا المحتمل.
*"الطنطات" هو تعبير أساسه كراهية المثليين، ويُطلَق بغرض التقليل من شأن الذكور الذين يتصرفون بنعومة، أو لا يبدون الخشونة الكافية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع