كثيرة هي قصص الموت وعظيم حجم الألم الذي يقف خلفها، فيما تتعدّد التجارب وسبل عيش مرحلة الحداد وصولاً إلى التقبّل.
هناك أشخاص يعتبرون الموت نهاية حتمية لوجود الشخص، فيدفنون علاقتهم مع الميت، بمعزل عمّا إذا كانت علاقة جميلة أم مضطربة، ويتابعون مشوارهم في الحياة دون الركون إلى الذكريات، في المقابل هناك من يصعب عليهم العبور إلى مرحلة التقبل، فيغرقون في الحزن والذنب والأسى، وكأنهم دفنوا سعادتهم ورغبتهم بالعيش مع من أحبّوا.
وفي السياق نفسه، نجد أفراداً يخلقون من الموت حياة مختلفة عن تلك التي فُرضت عليهم، فيكون الموت بمثابة دفن جرح كبير لم تستطع الحياة تضميده، وهكذا يكون الموت خلاصاً وتطهيراً وصولاً إلى شراكة روحية نقيّة لا يقدر عليها أحد، وعلاقة خاصة أبديّة صحيّة لا ذنب فيها ولا حسرة، بل روحان، إحداهما على الأرض والأخرى هناك، في مكان ما، تتلقى وترسل، بهدوء وصفاء.
رحلت من دون وداع
"عيد ميلاد سعيد ساره، بحبك". هذه الجملة علّقها عمر على باب قبر أخته مع باقة من الورود الملوّنة احتفالاً بعيد ميلادها الواحد والعشرين. جلس أمام الباب لساعات. غنّى لها، حدّثها، بكى أحياناً وأغمض عينيه بسكون.
لم تكن ساره تحب عيد ميلادها، فهي وأخاها وُلدا من والدين مختلفين وترعرعا في جو من التنافس على حضوره وحبّه.
هناك أشخاص يعتبرون الموت نهاية حتمية لوجود الشخص، فيدفنون علاقتهم مع الميت، ويتابعون مشوارهم في الحياة دون الركون إلى الذكريات، في المقابل هناك من يصعب عليهم العبور إلى مرحلة التقبل، فيغرقون في الحزن والذنب والأسى، وكأنهم دفنوا سعادتهم ورغبتهم بالعيش مع من أحبّوا
غادرت الشابة المنزل في سن العشرين بعدما تعبت من الخلافات مع عائلتها، وسرعان ما ظهرت عليها علامات المرض، وما هي إلا بضعة أشهر حتى التهم السرطان الخبيث جسدها الطري.
يجتاح الذنب روح عمر الذي لم يستطع إنقاذها من المتاعب ولا أن يودّعها كما أراد: "ساره ما كانت تسمعني... كانت تعبانة من علاقة الماما والبابا... كان بدها تفلّ".
يعبّر عمر عن حب كبير لأخته وإرادة دفينة كانت تسكنه بواجب حمايتها من الأهل، لكنها لم تكن تفتح له المجال، فهي انطوائية، مندفعة وحزينة، رحلت دون أن يودّعها. وها هو اليوم يحاول استيعاب ما حدث من خلال الجلوس أمام قبرها لساعات وأيام وكأنها أمامه تصغي وتردّ دون شجار أو تعب.
هكذا اختار عمر أن يعيش حداده على أخته غير الشقيقة، ويبدو أنه أضحى أكثر تصالحاً مع نفسه ومعها.
"لن أزور القبر قبل الانتقام لها"
تعيش ناديا، المتشحة بالسواد منذ وفاة والدتها قبل ثلاث سنوات، حداداً مستمراً، فهي تشعر أنها فقدت اللذة في كل شيء، حتى في الأشياء التي تحبّها.
يتآكلها الحزن والذنب مظهّراً بغضب تجاه الآخرين، خصوصاً جدّتها التي تسكن معها بعد رحيل الأم.
تكشف ناديا عن ضعف أمها المطلّقة واستسلامها لبطش جدّتها وظلمها، التي اعتبرت أن طلاق ابنتها المعنّفة كان خطأ اجتماعياً، ولم تكف يوماً على لومها ونعتها بأبشع الصفات.
وعليه، تشعر أنها في حالة حرب ضد الجدّة، وكأنها تريد الثأر منها على الظلم الذي ألحقته بوالدتها، لدرجة أنها لا تتقبل أي شعور جميل أو خدمة تأتي من الجدّة ولا من أي كان.
بحسب علم النفس، يقسم الحداد إلى سبعة مراحل: الصدمة، الإنكار، الغضب والرفض، الشوق والحزن، الاستقالة (التخلي عن المشاعر المدمّرة )، التقبّل والتعافي (إعادة بناء الذات).
فيما تتعدد النظريات في مسألة الحداد لجهة توالي المراحل، يجمع العلماء على اختلاف آلية العبور من شخص لآخر، فهناك من يجتاز تلك المراحل بسلاسة، بينما يجد البعض الآخر صعوبة في الوصول إلى مرحلة التقبّل وبناء الذات من جديد لدى فقدانه عزيزاً.
فيما يبقى السر الدفين خلف التمسّك بألم الفراق هو الذنب الذي يتجلّى بوضوح في اللحظة التي يلفظ الشخص فيها أنفاسه الأخيرة، فيشعر الشخص المفجوع أنه ورث ألمه، وأحياناً واقعه وحتى مرضه.
ليس الإرث جينياً فقط، ولا في اللون والشكل، بل في المصائب أحياناً. لذلك يشعر دوماً أنه كان مقصّراً لأنه عجز عن إبقاء من يحب على قيد الفرح والحياة، ويعتبر أن الظلم اللاحق بالأخير هو بسببه لأنه لم يتصرف كما يجب، فيمنع عن نفسه الوداع والحياة ليعيش في ظل الحرب التي كان يخوضها الفقيد كأنها أصبحت حربه هو.
كل ذلك يحدث في اللاوعي وسط مشاعر حزن لا ينتهي، مهما حاول الشخص تخطّيه أو إنكاره.
حياة تنمو داخل القبر
بين حنان والمدافن موعد يومي. هي التي خسرت أباها بعد رحلة مع مرض التصلب اللويحي، وقبله بسبب قرار المحكمة التي صنّفته غير أهل للحضانة، إثر إدمانه على الكحول وسلوكه العدواني أحياناً.
رغم أنها عاشت وكبرت مع والدتها ولم تكن تراه إلا في المستشفى خلال مراحل المرض الأخيرة، إلّا أن حنان تعتبر اليوم أن هناك حياة داخل القبر أكثر من خارجها بكثير.
تستيقظ باكراً كل صباح و تتوجه نحو من تسميه "شيخ الشباب" لتتحدّث معه، تنظف القبر وتسقي النباتات التي زرعتها جنب باب القبر.
يضع الموت الفرد أمام ذاته وأمام علاقته بالآخر، ومع استمرار الحياة وحتمية الموت يصبح أمامه خيارين: إما تقبّل الرحيل الجسدي بما فيه من ذنب وحسرة وشعور بالعجز ومعه أيضاً تقبّل أن العلاقة تتخطى الحواس والجسد، وإما العيش في ظلال الموت بثوب حياة مزيّفة
تتفقد الشابة تلك النباتات وهي تكبر كما العلاقة الجديدة بينها وبين والدها المتوفى. تعتبر أنه أكثر حضوراً الآن، فلا هو قادر على تعنيفها ولا الإساءة لوالدتها.
تبوح لوالدها عن مشاعرها وما تعيشه وتشعر أنه هناك يسمعها، وتتحدث عن أوجاعها الجسدية التي رافقتها وهي تكبر، فهي أيضاً كانت تعاني من نقص المناعة وعاشت مع الألم حتى توفي والدها ودفنت معه حاجتها لجسده وأمان حضوره لتخلق بينهما رابطاً يتخطى الموت. الأمر الذي ما إن أصبحت تزوره يومياً، حتى بدأت تلمس تحسناً في حالتها الصحية، وكأن من مات كان الألم وليس صورة الأب.
يضع الموت الفرد أمام ذاته وأمام علاقته بالآخر، بحيث يعرف حين يرحل فقيده ماذا رحل معه من حاجات كان يتنفّس عبرها ومن أوجاع أصبحت جزءاً من حياته، ومع استمرار الحياة وحتمية الموت يصبح أمامه خيارين: إما تقبّل الرحيل الجسدي بما فيه من ذنب وحسرة وشعور بالعجز ومعه أيضاً تقبّل أن العلاقة تتخطى الحواس والجسد، وإما العيش في ظلال الموت بثوب حياة مزيّفة.
ليس بالأمر السهل التخلي عن ملذّات الحواس، لكن رحيل الشخص لا يأخذ منّا بل يعطينا أحياناً. إنها علاقة خالية من الألم والأزمات وصورة نقية من دون شائبة لعزيز فارقنا في الجسد فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...