في إحدى الليالي الباردة جداً، وبينما كنت أضع الحطب في المدفأة، أخبرتني أمي أنها ستموت قريباً، لأن جارتنا أم يوسف، المتوفية منذ عامين، زارتها في المنام على مدار ثلاثة أيام متتالية، وفي إحدى المرات طلبَت منها الذهاب معها لكنها رفضت، وفي مرة أخرى كان معها عم أمّي، الشيخ سليمان المتوفي منذ عشرات السنين، والذي طلب منها غسل قميصه الأبيض.
أمي تؤمن بالمنامات، ومثل هذا المنام بالنسبة إليها دليل على أن موعد موتها أصبح قريباً. كان واضحاً عليها وهي ترويه أنها خائفة، وهذا ما جعلني أمازحها لأخفف عنها، فقلت: "لماذا لم تذهبي مع أم يوسف؟ ربما كانت ستأخذك إلى سوق العنابية حيث مطعم ‘أبو شفيق’ الذي فيه أطيب المشاوي على الفحم". ردَّت: "بل ستأخذني إلى المقبرة!". فسألتها: "هل رأيتِ في منامك خلال السنوات الماضية أمواتاً طلبوا منك الذهاب معهم وذهبتِ؟". أجابت: "نعم". "ولماذا لم تموتي حتى الآن؟ أليس هذا دليلاً على أن مثل هذه المنامات لا معنى لها؟". ردّت: "أم يوسف جاءت ثلاث مرات وهذا يعني أنني سأموت عما قريب!".
ذكّرتها بمنام أبي منذ أكثر من عشرين عاماً، حين رأى ثلاثة رجال يلبسون الأبيض، وجوههم نيّرة ولحاهم بيضاء وطويلة جاؤوا لأخذه، وحين همّ بالرحيل معهم قال أحدهم: "اتركوه فلديه عائلة تحتاجه. سنأتي لنأخذه بعد خمس سنوات".
عندما استيقظ أبي، ذهب إلى بيت عمّي، وهو من أكبر المشايخ في المنطقة لمناقشة المنام معه. فتح عمّي كتاب الحكمة السليمانية ليرى إنْ كانت الرؤيا صادقة أم لا، فهناك قسم في الحكمة فيه جدول يضمّ الأيام التي يكون فيها المنام صادقاً، والأيام التي يكون فيها المنام مجرد منام عادي لا معنى له، والأيام التي يُفسَّر فيها المنام بالعكس، أي إنْ رأيت شراً فهو خير والعكس صحيح. ولكل شهر قمري أيامه المحددة التي يتم تفسير المنام بناءً عليها.
حين علم أبي بأن ما رآه في المنام صادق، بقي لمدة ثلاثة أيام لا يأكل إلا القليل، وامتنع عن الكلام والعمل وأصابته حالة من الزهد، فهو كان يؤمن بأنه لم يتبقَّ له أكثر من خمسة أعوام ليفارق الحياة بناء على ما رآه.
"أخبرتني أمي أنها ستموت قريباً، لأن جارتنا أم يوسف، المتوفية منذ عامين، زارتها في المنام على مدار ثلاثة أيام متتالية، وفي إحدى المرات طلبَت منها الذهاب معها لكنها رفضت"
بعد شهر، عاد أبي إلى العمل والحياة ولكنه ظل مهموماً. هذا ما كنا نلاحظه طوال الوقت. وبعد ثلاثة أشهر، أعلن أنه سلّم أمره لله وطلب في صلواته أن يمنحه العمر المديد ليصل إلى المئة عام.
مضت السنوات الخمس ولم يمت، ومضت بعدها سنوات طويلة وحتى الآن ما زال على قيد الحياة وقد تجاوز الخامسة والثمانين من عمره.
بعد أن أنهيت كلامي عن منام أبي، كنت أظن أن أمي ستشعر بالراحة وتقتنع بأن ما رأته مجرد حلم لا معنى له وليس دليلاً على أنها ستموت، لكنها بقيت مهمومة وخائفة.
"سأقوم بفحصك"
بحسب التحليل النفسي، هنالك أسباب كثيرة للمنام. بعضها يكون تنفيساً لرغبات مكبوتة، وبعضها يكون تفريغاً لمشاهداتنا اليومية، والبعض الآخر يكون كمنام أمي: سببه الخوف من الموت. فمع التقدم في العمر والمرض وموت أقرانها، صار لديها في اللاوعي خوف من الموت تُرجم من خلال المنام الذي رأته، ولكنَّ شرح ذلك بالنسبة إليها لن يكون سهلاً.
طلبَت أمي أن أضع المزيد من الحطب في المدفأة لأنها تشعر بالبرد وفي الوقت نفسه قالت إنها تشعر بأن هنالك ناراً مشتعلة في قلبها، وبأن لديها ضيقاً في التنفس وخفقاناً في القلب، وقالت بالحرف الواحد: "حاسي عم ينطفي ضو عيوني".
"فتح عمّي كتاب الحكمة السليمانية ليرى إنْ كانت الرؤيا صادقة أم لا، فهناك قسم في الحكمة فيه جدول يضمّ الأيام التي يكون فيها المنام صادقاً، والأيام التي يكون فيها المنام لا معنى له، والأيام التي يُفسَّر فيها المنام بالعكس"
كنت أعلم أن ما تشعر به سببه نفسي، فالمنام وحديثها عنه زاد من مخاوفها، إضافة إلى الجو البارد نسبياً داخل المنزل، والهواء الذي يعصف في الخارج، وانقطاع التيار الكهربائي والإضاءة الخافتة الكئيبة وعدم مجيء إخوتي لزيارتها بسبب البرد... كل هذه كانت مسببات خارجية ساهمت في زيادة شعورها بالوحدة والخوف ورفع معدل القلق والتوتر لديها، وكل ذلك انعكس بشكل سلبي على جسدها.
ولأنني أؤمن بأهمية الدعم النفسي، قلت لها: "سأقوم بفحصك، لا تقلقي". أحضرتُ جهاز قياس الضغط ونبض القلب الأوتوماتيكي وقمت بقياس ضغطي أمامها ثم قستُ ضغطها وكان مرتفعاً، فأخبرتها أن نبض قلبها وضغطها أفضل منّي. بعدها ألصقت ورقة صغيرة على الحائط على بعد عدة أمتار ثم عدت لأجلس قربها، ضممتها وقلت: "على الحائط ألصقت ورقة. هل يمكنك رؤيتها وتحديد لونها؟". أجابت: "لونها أبيض". ثم شغّلتُ موسيقى على هاتفي ووضعته بعيداً وطلبت منها أن تخبرني إنْ كانت قادرة على سماع الموسيقى، فقالت إنها تسمعها... فأخبرتها أنني لم أستطع رؤية الورقة ولا سماع الموسيقى.
نظرت إليّ بطرف عينها وقالت: "أنت تكذب عليّ". أقسمت لها بالله أني لا أكذب فلم تصدّق. أقسمت بالإمام علي فصدّقتني. كنت مستعداً أن أقسم كذباً بكل الأئمة والأولياء بمَن فيهم المهدي المنتظر لأجلها.
خرجتُ من الغرفة واتّصلت بأحد الأصدقاء، وطلبت منه أن يلعب دور الطبيب ثم عدت وقلت لها: "سأتصل بطبيب صديقي لتشرحي له حالتك". وبالفعل، تحدَّثت معه وراح يطمئنها، وبعد دقائق من انتهاء حديثها معه بدأت تشعر بالارتياح. سألتها" "ماذا أكلتِ على العشاء؟"، أجابت: "نصف خبزة مع موزة وحلاوة. ليس لهما طعم. كنت أشعر كأني أمضع التراب". فعرضت عليها أن أجهّز لها عشاءً خفيفاً من العسل والزبيب والسمن البلدي والتمر والموز، لكنها رفضت بشكل قاطع وأصرّت على أنها مريضة وشهيتها منخفضة. قلت لها: "لا بأس. يمكنك النوم، أما أنا فسأذهب لتناول هذا العشاء في المطبخ"، وعلى الفور قالت: "أحضره إلى هنا سأشاركك بالقليل منه".
المسنّون يحتاجون إلى الاهتمام والتسلية والدعم كي لا يشعروا أنهم وحيدون فالوحدة تصيبهم بالذعر وتقتلهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...