يقول ميلان كونديرا في كتابه "فنّ الرواية"، بعد أن سُئل عن أن القرّاء يأخذون التخييل الذي أبدعه عن براغ والأحداث التي جرت فيها مأخذاً جديّاً: "إذا اعتبر المؤلف وضعاً تاريخياً بوصفه إمكانية غير معروفة وكشافة للعالم الإنساني. فإنه سيودّ وصفه كما هو. لكن ذلك لا يمنع من اعتبار الإخلاص للواقع التاريخي مسألة ثانوية بالنسبة لقيمة الرواية. إن الروائي ليس مؤرخاً، ولا نبيّاً: إنه مستكشف وجود".
من هذا المنطلق سنقارب رواية "أسير البرتغاليين" للكاتب المغربي محسن الوكيلي، والصادرة عن دار ميم/ الجزائر لعام 2020، لكن لماذا استشهدنا بقول كونديرا؟ ذلك لأنه وضع إصبعه على الجرح التخييلي! عندما تقارب رواية ما، واقعاً ما أو تاريخاً ما! يقال إن هدف الرواية أن تكشف الواقع المسكوت عنه.
في رواية "أسير البرتغاليين حكاية الناجي" للكاتب المغربي محسن الوكيلي، كان على الناجي أن يقصّ حكايته كي ينجو من الموت، إذن هو شهرزاد أخرى. فمن هو شهرياره؟
وهذه المقولة وإن كانت مادحة للفن الروائي إلا أنها تجعله أسيراً لأفق التوقّع الذي تكلّم عنه آيزر وياوس، لأننا سنحكم على الرواية التي تتناول حقبة تاريخية ما، حكمين متعارضين. الأول، أن الرواية جاءت ضمن أبجديات التاريخ، مصدّقة له.
والثاني، أن الرواية شقّت عصا الطاعة التاريخية وقدمت رؤية مختلفة عما جاء به التاريخ الرسمي. في كلتا الحالتين قد قدمنا علم التاريخ على فن الرواية، وهذا لا يجوز، لأن الإخلاص للتاريخ مسألة ثانوية بالنسبة لقيمة الرواية، وأن الروائي مستكشف وجود.
إن إجابة كونديرا حرّرت التخييل من أفق التوقّع الذي لا يكون بريئاً أبداً كما يؤكد تيري إيغلتون. وإن كان لنا، أن نضرب مثالاً على سوء نيّة أفق التوقّع، ففي كريستوفر كولومبس الذي أبحر غرباً، وفي نيته أن يصل إلى توابل الشرق الأقصى، نجد المثال المناسب الذي يدعم ما ذهب إليه كونديرا، بأن الروائي مستكشف وجود، فبدل توابل الشرق الأقصى، كانت أمريكا التي غيّر اكتشافها العالم القديم بالمطلق.
المطرقة والسندان
يعنون الروائي محسن الوكيلي روايته بعتبتين، الأولى: أسير البرتغاليين، والعتبة الثانية تفسيرية: حكاية الناجي، لكن لماذا لم يكتب "رواية الناجي" بدلاً من "حكاية الناجي". لأنه في الزمن التاريخي للرواية، لم تكن الرواية كمفهوم فنّي قد ولدت بالمعنى الذي نعرفه الآن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لأن الناجي كان عليه أن يقصّ حكايته كي ينجو من الموت، إذن هو شهرزاد أخرى. فمن هو شهرياره؟
إن الروائي ليس مؤرخاً، ولا نبيّاً: إنه مستكشف وجود
إنّه الضابط البرتغالي بيدرو، وكما حوّلت الخيانة شهريار إلى قاتل شره لدماء العذارى، أطلق الوحشَ الذي في بيدرو اعتداءٌ جنسي عليه عندما كان طفلاً من قبل زوج أمه. بيدرو الذي كان يعدم الأسرى المغاربة، اختار الناجي ليسمع منه الحكاية، فماهي حكاية الناجي الذي رأى فيها بيدرو مرآة لشيء ما في حياته؟
لم يكن الناجي إلا ابن لإبراهيم الذي مسّه الجنون، فذبح أولاده ليخفّف عنهم قسوة الموت بالطاعون والجوع، ولينتقم من الذين أجارهم وأطعمهم في زمن الموت، فأوصدوا في وجهه أبواب الرحمة. ما أضمره إبراهيم كان أكثر رعباً وهولاً من الطاعون ذاته. لقد ماتت زوجته فأيقن أن الموت لا يجبّه إلا موت أكبر، هكذا قدّم فلذة كبده للجائعين، لكن بشرط أن يأخذ أولادهم، ليعاود ذبحهم وإطعام جياع آخرين عبر مائدة دائرية للموت.
يشبه إبراهيم بيدرو، كلاهما خذلتهما الحياة، فطفقا ينتقمان منها بالقتل والموت. أحدهما ذبح قطته ليطعم أولاده ومن ثم قدّم أولاده قرابين على مذبح الجوع، قبل الجنون النهائي. والثاني دأب أن يطعم قطّه قلوب الأسرى، وقبلاً كان قد قتل أمه واحتفظ برأسها كتذكار. هكذا ولدت حياة الناجي الجديدة بين المطرقة والسندان، فمن أب هو والطاعون سواء بسواء، إلى محتل لا يرى في الآخر إلا زوج أمه.
تغوص الثنائيات التي رتبها محسن الوكيلي في التاريخ البشري، فالأب إبراهيم يومئ للنبي إبراهيم ورؤياه التي كادت أن تودي بابنه إسماعيل/ إسحاق. بيدرو هو بطرس الذي أنكر المسيح ثلاث مرّات، لكن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة، كما يذكر ماركس. فما هو التاريخ الذي مرّ به الناجي، هل هو المأساة أم المهزلة؟
يذكر الروائي إبراهيم الكوني، بأن قبائل الطوارق لا تطلق اسماً على المولود الجديد إلا بعد أن يقوم بعمل ما له قيمة إيجابية أو سلبية، يستحق على إثر ذلك العمل اسماً. هرب حمّاد من أبيه لينجو من الموت، فكان له اسم "الناجي"، بعد أن رعته أسرة العواد الذي حصدها الطاعون عن بكرة أبيها.
محسن الوكيلي: "أعتقد أن التاريخ كماء النهر لا يتكرر مرتين. قد نعيش حالات متشابه تفرزها قواعد السلوك البشري، فالتاريخ يسير قدماً إلى الأمام. الهزائم والانتكاسات ليست بالضرورة اجتراراً للماضي، قد تكون سبلاً لبدايات مشرقة"
من جديد ينجو حمّاد ليصبح "الناجي الحكّاء" في الساحات، يرافقه قرده همّام. تقوده أقدار السعي وراء الرزق إلى الحصن البرتغالي على شواطئ المغرب، وهناك يقتل أحد الجنود البرتغاليين قرده همّام، فيقرر الانتقام، لكنّه يقع في الأسر، وتبدأ الحكاية.
المأساة والمهزلة
لا ريب أن الخروج من الأندلس كان مهزلة لمن دخلها. ولا شك أن احتلال أرض المغرب من البرتغاليين هو المأساة بعينها في نظر أهالي المغرب. لا ريب أن الحميّة التي أصابت الفتى سنتياغو في البقاء والدفاع عن الحصن البرتغالي، بعد أن أخلي تحت وقع ضربات مدافع السعديين، هي المأساة، لكن المهزلة أن يكون من أب إسباني وأم برتغالية، يتنازعه ولاءان لم يحسم أمره فيهما إلّا في الزمن الميت للنجاة.
إن المعضلة ليست في الوباء، إنما في تسليع الإنسان والإتجار بالمأساة
لا ريب أن أم الغيث، الزوجة المضحّية التي ظلّت مع العيّاط على الرغم من عقمه، والذي كان نعم الجار لغيثة، زوجة الناجي، هي المأساة، إلا أن المهزلة أن تدفع بنفسها لتحمل من أحد شيوخ عشائر البدو لتؤمّن نسلاً لزوجها العقيم. لا ريب أن غيثة/ بينلوبي التي انتظرت عودة الناجي بصبر لا ينتهي، وبإيمان عميق بعودته، كانت تعيش مأساة كبيرة، وعلى الرغم من ذلك لابد من مهزلة تعابث أخلاقية مأساتها، بأن تكذب على العياط وتؤكّد أن حمل زوجته منه وليس من أحد آخر.
لا ريب أنّ الإنكشاري العثماني أيهم، الذي تركه رفاقه نائماً انتقاماً منه لضعفه وشوقه لزوجته في الأناضول، مأساة، لكن المهزلة أن يُقتل رفاقه في كمين مدبّر من السعديين، فيمر بهم، يأخذ حفنة من رماد أجسادهم وينثرها في البحر. لا ريب أن يكون موت بيدرو على يد عشيقته صوفي مهزلة، لكن أن يشقّ القطّ بطنه بحثاً عن قلبه، هو المأساة. بهذه الطريقة يوزع الوكيلي سرده، فمقولة ماركس لا تنطبق فقط على تاريخ الأمم والدول بل تنطبق على حكايات الأفراد أيضاً.
الضدّ يظهر حسنَه الضدّ
هل التاريخ قابيل، والحكاية/الرواية هابيل، أم العكس؟ لا إجابة! هل سيعرف الناجي قصص الشخصيات الأخرى التي توالدت إثر أسره؟ لربما سيبحث عنها في التاريخ بدلاً من الحكاية/ الرواية! لكن محسن الوكيلي في سرده حكاية الناجي أعاد بناء ما هدمه وأباده طاعون التاريخ.
المرأة في "أسير البرتغاليين"، كما في غيرها من أعمال محسن الوكيلي، ملجأ الكاتب ومأواه. "يخبرنا التاريخ والأساطير أنها رديفة الخطيئة، دورنا كمبدعين أن نصحّح أخطاء أسلافنا" يقول الوكيلي
من هنا نعود إلى ميلان كونديرا ومقولته بأن الروائي مستكشف وجود، فجرس الحصن البرتغالي مازال صوته يتقاطع مع الآذان، وصوفي المسيحية التي عشقت الناجي وهام بها أيضاً، تشبه الجنيّة كيركي في عوليس، التي مازلنا ننتظر منها حكايتها الخاصة التي ستقصّها على أحفادها يوماً، كما أخبرنا السارد.
وإذا كان لنا أن نجادل حول المقولة التي تمدح الفن الروائي بأنه يكشف المسكوت عنه، وخاصة تاريخياً، لا بدّ من أن نأخذ في اعتبارنا أن الضدّ يظهر حسنَه الضدُّ. ولا يكشف الجواب غير السؤال، لذلك كان لنا مع الوكيلي هذه الوقفة:
- كان وباء الطاعون أحد محركات الرواية الرئيسية، فما أوجه التشابه التي تتّضمنها الرواية وحالنا اليوم مع وباء كورونا؟
- الطاعون في "أسير البرتغاليين" ليس مجرد عدوى وبائية تنشر الموت وتلاحق الناس، بل شخصية أساسية لها مقوماتها وصفاتها الفاعلة: إنه الجانب المظلم الذي تتقاطع فيه الطبيعة والإنسان حيث يصبح الإتجار بالبشر هدفاً للإقطاعيين والملّاك. لعل عربة الموت التي تنتقل بين المدن محمّلة بالمحاصيل والموتى إشارة في هذا الاتجاه.
كورونا في عصرنا الحالي صيغة للطاعون الذي ضرب البشرية على مراحل. نسجّل مرة أخرى أن المعضلة ليست في الوباء، إنما في تسليع الإنسان والإتجار بالمأساة.
- ظلت المرأة بتعدّد شخصياتها ملجأ وأماناً وبوصلة، في حين كان الرجل في الرواية متذبذباً، طامعاً، حائراً، شديد البطش، مع أن التاريخ يخبرنا أن المرأة سبب الخطيئة!
مهمة الأدب الأساسية أن يعيد بناء الإنسان وترتيب القيم ووضعها في سياقها الصحيح وصياغة عالم جديد وعادل. "أنا أساهم في هذا البناء بالطريقة التي أراها مناسبة: تحطيم الخطيئة التي أريد لها أن تسم المرأة وتبرّئ الرجل"
- المرأة في "أسير البرتغاليين"، كما في غيرها من أعمالي السابقة، الملجأ والمأوى. يخبرنا التاريخ والأساطير أنها رديفة الخطيئة، دورنا كمبدعين أن نصحّح أخطاء أسلافنا. مهمة الأدب الأساسية أن يعيد بناء الإنسان وترتيب القيم ووضعها في سياقها الصحيح وصياغة عالم جديد وعادل. أنا أساهم في هذا البناء بالطريقة التي أراها مناسبة: تحطيم الخطيئة التي أريد لها أن تسم المرأة وتبرّئ الرجل.
- هل يشبه مغرب اليوم مغرب السعديين إبان زوال حكم المرينيين؟
- تفصل بيننا وبين زمن السعديين قرون طويلة وتاريخ من الأحداث الوقائع والتحولات التي مسّت كل جوانب الحياة. يستحضر المغاربة زمن السعديين بالانتصارات. لعل معركة وادي المخازن التي هزم فيها المغرب الإسبان والبرتغاليين، كأعظم دولتين في العالم حينها، أكثر ما يعلق في الذاكرة الجمعية للمغاربة. بلا شك، لا يمكننا الحديث عن قطيعة مع الماضي، لا تزال الكثير من المعالم مستمرّة لغاية اليوم، قد نجدها في مصطلحات متداولة، سلوكيات حياة أو مفاهيم سياسية محدودة. هذه الأخيرة لا يمكنها أن تجعل من مغرب اليوم شبيها بمغرب الأمس.
- هل يكرر التاريخ نفسه كما قال ماركس؟
- لا أخفيك، يعجبني التحليل الماركسي إلى حد بعيد، لكنني لا أتفق مع كل ما أتى به، أعتقد أن التاريخ كماء النهر لا يتكرر مرتين. قد نعيش حالات متشابه تفرزها قواعد السلوك البشري، فالتاريخ يسير قدماً إلى الأمام. الهزائم والانتكاسات ليست بالضرورة اجتراراً للماضي، قد تكون سبلاً لبدايات مشرقة.
محسن الوكيلي، كاتب مغربي له العديد من الإصدارات في الرواية والقصة والمسرح، وحاصل على العديد من الجوائز نذكر منها: جائزة الشارقة للإبداع عن رواية "رياح آب"، جائزة غسان كنفاني للسرد وجائزة دبي عن رواية "الشغوفون".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون