شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ماذا سأقول للحاجز التابع لمنطقة الإدارة الذاتية؟

ماذا سأقول للحاجز التابع لمنطقة الإدارة الذاتية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 20 أكتوبر 202101:25 م

"الشيخ مقصود"، عنوان لافتة في أحد أطراف مدينة حلب، أحنَتها الحرب، وجعلتها كما بقية الأبنية التي تحيط بها في المنطقة، تشبه برج بيزا المائل، من دون مهندسين مختصين في التصميم. اللافتات والأبنية التي كانت تحيط بمناطق الحرب هناك، هندستها بدقة، كما بقية مناطق سوريا، اشتباكات، وطيران، وقذائف، لم تكن عابرة للتهجير. وبعد اللافتة التي تشير بسهم إلى اليسار، حيث "حي ‘الشيخ مقصود’، وسيطرة الإدارة الذاتية"، وذلك للقادمين من جهة مشفى ابن رشد، الخوف هو الشعور الذي دفعني لأسأل لماذا أردت اختبار هذه التجربة، والدخول إلى منطقة فيها سيطرة مجهولة بالنسبة إلي، أو بالأصح سيطرة مختلفة عن مناطق السيطرة التي أعيش فيها؟ ماذا سأقول للحاجز التابع للإدارة الذاتية؟ لماذا لم أفكّر في ماذا سأقول للحاجز الذي يتبع للجيش السوري؟ ومع كل سيارة تصل إلى الحاجز، قبل وصولنا إليه، كان سؤال جديد يظهر أمامي، وأنا صامتة. طمأنتني صديقتي الحلبية بلهجتها: "إش بك خيتو هني بشر متلنا!"، "كل يومين بَدخل لهون، إش بك كني جبانة!؟". هنا بدأت حَبكةُ يوم من العمر في "الشيخ مقصود".

حاجزان وهوية

كان المشهد تماماً يشبه حدود لبنان وسوريا من جهة المصنع؛ حاجز للجيش السوري أخذ الهويات، وابتسم للصبايا الموجودات، قائلاً: "رايحين تشتروا تياب تركي ما"، وحملت عيونه ثقة بأننا عائدات، ولن نذهب مثلاً إلى تركيا، أو أربيل، أو القامشلي. بقيتُ صامتةً، حتى أنني لم أستطع الضحك، أو الرد، أو المجاملة، فأنا من ستخوض تجربةَ حاجز الإدارة الذاتية للمرة الأولى. هنا، انطلق مونولوج داخلي بيني وبين نفسي، خلال مسافة مئة متر تقريباً، وهي المسافة الفارغة من أي سيطرة بين الحاجزين؛ ماذا سأقول لهم؟ لماذا أنا قادمة إلى "الشيخ مقصود"؟ كيف سيعاملونني إن رأوا هويتي؟ ما هي مبررات دخولي؟ لماذا لم أخبر أهلي بأني سأدخل إلى "الشيخ مقصود"؟ ولماذا اخترت أن أخبر صديقتي وزميلتي الصحافية الكردية الموجودة في القامشلي فحسب؟ كانت صديقتي تتكلم عن عملٍ مهم لنا، لكن لم أكن أسمع! كأني أصبحت صماء وبكماء خلال هذه الدقائق.

طمأنتني صديقتي الحلبية بلهجتها: "إش بك خيتو هني بشر متلنا!"، "كل يومين بَدخل لهون، إش بك كني جبانة!؟". هنا بدأت حَبكةُ يوم من العمر في "الشيخ مقصود"

بدأت ملامحهم تُظهر لي لباساً عسكرياً غير مموّه، لا علم يظهر أو يرفرف من بعيد، ورويداً رويداً بدأت تتوضح المعالم كاملةً. وصلنا إلى حاجز "الإدارة الذاتية"، و"لوني يشبه الليمونة تماماً"، حسب صديقتي. عند الحاجز، تقف فتاةٌ لم تتجاوز الـ18 عاماً من عمرها، تحمل سلاحاً، وتمتع بقوة عضلية عظيمة جعلتها تفتح وتغلق خلفية السيارة بقوة. لا سؤال أبداً، إنما ترحيب بلهجة حلبية غير مكسرة أبداً: "أهلاً وسهلاً، فتحوا الشناطي!"، هذه هي الكلمات التي استقبلنا بها "حاجز الإدارة الذاتية" فحسب، وبدأت الرحلة في "الشيخ مقصود".

جيم جواب

بعد أن عاد اللون والحياة إلى وجهي، حسب صديقتي الحلبية أيضاً، انطلق لساني ليقول لصاحب التاكسي: "نزّلنا هون عمو". تداعيات الأجوبة على المونولوج بدأت، منذ أن استلمنا الطريق الرئيسي لسوق الملابس. اتصلت بصديقتي الكردية في القامشلي، وأخبرتها هي فحسب، لأنني أشعر بالأمان معها، وأعرف تماماً أنها لن تتخلى عني إذا حصلت مصيبة من المصائب التي يمكن أن تحدث، في مخاطبة الإعلام باصطفافاته السياسية كلها، ولم أخبر أهلي، لأني كنت على قناعة داخلية تامة، بأنني ضمن حدود سوريا، والعقل يقول إن هؤلاء أبناء بلدي وأهلي، فهل أحدّث أهلي بأني بين أهلي؟ إذاً لماذا كنت خائفةً؟

"هنيك بياخدوا شو إسمو"! و"الشو إسمو" إشارة إلى العملة الخضراء الأمريكية المحرَّم الحديث بها. تلقائياً، خاطبتُ صديقتي: "أنا ما معي الشو إسمو"، ضحكت وقالت: "بيكفي يكون معك مصاري سورية"، ثم ردّت بلهجة فيها من التأنيب والاستهزاء: "من وين هالمعتّرين بدن يجيبوا الشو إسمو؟".

بعد أن عاد اللون والحياة إلى وجهي، حسب صديقتي الحلبية أيضاً، انطلق لساني ليقول لصاحب التاكسي: "نزّلنا هون عمو".

إذاً، هنا حي "الشيخ مقصود"، في حلب، وهنا موقف السرفيس الذي وضع تسعيرة أجور نقل ركاب محافظة حلب التابعة للحكومة السورية، بمئتي ليرة سورية، كأي حي من أحياء المدينة التي تخضع لسيطرة الحكومة السورية. نسير قليلاً، وإذ بطلاب عائدين من المدارس التي تدرّس حسب صديقتي منهجين؛ "منهج وزارة التربية في الحكومة السورية"، و"منهج كردي". كيف لطلاب وطالبات لم يتجاوزا الـ12 عاماً، أن يفهموا السياسة المعقّدة بدرس تاريخ، وخريطة جغرافية، ربما يتفق أو يختلف عليها من وضعوا المناهج أنفسهم؟ وكيف لطفلة أيضاً لم تتجاوز الـ18 عاماً، أن تقف على حاجز تفتيش؟ السرفيس نفسه يحمل موظفين حكوميين إلى دوائر الدولة السورية في حلب، لكن لا يمكن لأي وسيلة نقل تحملهم، أن تضع أي صورة، أو شعار، لرمز من رموز الدولة السورية، مهما كان، وهذا شرط دخولها إلى حي "الشيخ مقصود". أما المعلمون والمعلمات، فيحصلون على رواتبهم من وزارة التربية في الحكومة السورية!

يشبه حال الاتفاقات هنا، "طبخةً تُعرف في بعض المناطق السورية، بـ’الخبيصة’"، لكنها ذات طعم طيب ولذيذ، وبمكونات تتجانس مع بعضها، على الرغم من ابتعادها عن بعضها أيضاً.

في أثناء سيرنا في السوق، أرصد لوحةً يسمع فيها المارة لغتَين، ولهجات عدة، الحلبية الثقيلة والخفيفة، ومفردات جديدة للزائر. وسط التفرع الذي يوصل إلى السوق، "لافتات بالكردية والعربية"، كُتبت عليها أسماء منظمات مجتمعية ومدنية، وأخرى وُضعت عليها صور شبّان وبنات كانوا ضحايا، في أثناء الحرب. شبان وصبايا يحملون في رقابهم بطاقات تعريفية "بادج"، للإشارة إلى عملهم مع المنظمات. الحياة في "الشيخ مقصود"، المدينة الصغيرة وسط مدينة كبيرة، تمد طرفي يديها في اتجاهين؛ الإدارة الذاتية والحكومة السورية.

"هنيك بياخدوا شو إسمو"! و"الشو إسمو" إشارة إلى العملة الخضراء الأمريكية المحرَّم الحديث بها. تلقائياً، خاطبتُ صديقتي: "أنا ما معي الشو إسمو"، ضحكت وقالت: "بيكفي يكون معك مصاري سورية"، ثم ردّت بلهجة فيها من التأنيب والاستهزاء: "من وين هالمعتّرين بدن يجيبوا الشو إسمو؟"

كهرباء الدولة

كلُ شيء موجود هنا، البضائع التركية، والصناعة الوطنية، والمأكولات الوطنية، وغير الوطنية، مما لذ للمارة وطاب، وكلّه من دون جمارك، حسب صديقة الرحلة. وسط السوق، وإلى جهة اليمين بعد طلوعٍ قاسٍ جداً، ثلاثة محالّ تبيع الملابس لإحدى الماركات التركية المشهورة، ومحلٌ آخر وضع لافتة "تنزيلات على البضائع التركية". بعد دقائق من الجولة في أحد المحالّ، طلب صاحبه من العامل لديه: "شغل الكهربا... إجت كهربة الدولة". تلقائياً، سألت: "أي دولة؟"، قال ضاحكاً: "الدولة السورية!". ازداد التناقض في الحياة هنا: كهرباء الدولة، وسلاح خارج حدود الدولة، وجهةٌ أخرى مفتوحة إلى الشمال حيث عفرين، وبضائع غير مجمركة، وسرفيسات تنقل الموظفين إلى أعمالهم في الحكومة السورية، ومدارس بمنهجين، وهذا التشتت كله، والناس يعيشون، والأطفال يكبرون، ويلعبون، ويشترون الحلوى الضارة والنافعة. هذا كله ضمن حدود سوريا.

سألت نفسي: هل من بطاقة ذكية للغاز والمازوت هنا؟ حاولت جاهدةً أن أكفّ عن الأسئلة، والمونولوجات الداخلية، في بلادٍ أصبحت ألف ذرة وذرة، وفيها من السيطرات ما يكفي لإعداد مناهجَ تاريخ حديث ومعاصر للمراحل الدراسية كلها. مناهج تتحدث عن أن السوريين بقومياتهم وأعراقهم ودياناتهم كلها، عاشوا أنواع الحروب كافة، العسكرية، والسياسية، والخدماتية، والإعلامية.

انتهت الرحلة، وطريق العودة، لكن وجهي كان أحمر يشبه التفاح، من الدم الكثير، ويداي ممتلئتان بأكياس من الملابس التركية، وبالابتسامة ذاتها التي استقبلتنا بها الطفلة التي طلبت فتح الحقائب عند الدخول، ودّعتنا. وبالسؤال والابتسامة نفسهما، اللتين استقبلنا بهما العسكري على حاجز الجيش السوري، ودّعنا. زيارةٌ تجعل من في هذه البلاد كلهم، يقتنعون بأننا سوريون طيبون بالفطرة. بلاد تعيش يوماً بيوم فحسب، والجميع قادرون على التأقلم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image