لم أكد أخرج من محطة القطار في بوردو، حتى وصلني خبر احتراق برج كنيسة نوتردام. الكنيسة القوطيّة التي تُعدّ رمزاً دينياً بارزاً في العالم، وواحدة من أهمّ معالم ضفاف نهر السين التاريخيّة، وأحد محطات كلِّ زائرٍ يحطّ أقدامه في عاصمة الأنوار باريس. ليحسب كلّ منا في ألبومه العائلي والشخصي، كما في حفلات أعياد الميلاد والزيارات السنويّة والتخرّج والزواج، صورة لن ننساها. خلفنا أو أمامنا أو قربنا يقف شامخاً برج الكنيسة الباهرة، الذي ذهب إلى الأبد ولن يعود.
وقفت مذهولاً مع صديقيَّ الفرنسيّين، صامتين وغير مصدّقين. بحث كلّ منا عبر هاتفه، متجوّلاً بين صفحات الأخبار عن حقيقة لم نَرِدْ أن تكون جليّةً بهذا الحجم من الخسارة والألم. ومثل حدث إرهابي أو جريمة راح ضحيّتها أبرياء، كنا نحسّ بحسرةٍ شديدةٍ، وكأننا خسرنا شيئاً حميماً ويخصّ كلّ واحدٍ منا. رحنا نتطلّع في وجوه بعضنا كتائهين: هل حدث هذا بالفعل؟ أم هذا مجرّد مشهد سينمائي يتمّ تداوله بصيغة الأخبار الجذّابة؟
"ماذا لو كان أحدب نوتردام يسترق النظر الى قبلاتنا من البرج؟"
كنا كالمجاذيب نحاول تجنّب الواقعة القاسية، نرمي على بعضنا التكهّنات، رغم أن شاشات هواتفنا امتلأت بمنبّهات الأخبار: "احتراقُ جزءٍ من كنيسة نوتردام"، "برجُ كنيسة نوتردام يسقط محترقاً". كل هذا لم يجعلنا نصدّق، إلى أن نشرت صحيفة "لوفيغارو" مقطع فيديو يظهر الجلل. برج إحدى أهمّ كنائس العالم، وأكثر الأماكن زيارة في فرنسا، يحترق هامداً أمام عيون المئات من السياح والزوّار، وسكّان باريس، الذين لم يناموا ليل أمس، يتفقّدون الأخبار المتتالية، عن أحوال الكنيسة وجدرانها.
خسارة للعالم لا للفرنسيّين فقط
واقعةٌ قاهرةٌ للفرنسيين وللعالم الذي راح مثلنا يكتب متأسِّفاً وبحزنٍ، على مواقع التواصل، عن هذه الخسارة الإنسانيّة الهائلة، خسارة لا تخصّ مسيحيي العالم كما يحسب البعض، وكما كتب أحدهم، ولا تعني الفرنسيّين والباريسيّين تحديداً. إنها خسارة العالم لجزءٍ من تاريخه، ومكوّناته، وإرثه الحضاري، كما خسر العالمُ مدينةَ حلب وبغداد بعد الاجتياح الأميركي، وكما خسرنا تدمر والموصل بعد أن هدم الظلاميّون آثارها، خسارة تشبه وجعنا اليومي، في عالم يهدم آثاره، أو يسرقها الجهلة والمتخلّفون والعصابيّون والمتعصّبون. خسارة جعلتني أتقزّز من تعليقات البعض، خصوصاً ممن وجدوا أن وقوع البرج مثل تشفٍ من استعمار فرنسا، انتقام منها ومن تاريخها الدموي في المستعمرات القديمة، أو الدول التي احتلّتها. قرأت تعليقاتٍ داميةً مليئةً بالحقد، هل فعلاً يمكن لشخص راشد وعاقل يعيش في زمننا، أن يرى إرثاً تاريخيّاً يقع بهذه الفجاجة، ولا يشعر بالألم؟ أيعقل أن نتشفّى من احتراق برج كنيسة دينيّة، سمّيت على اسم مريم العذراء التي تُقدَّس في كلّ الأديان، وكنيسة لها مكانتها الروحانيّة، منذ بنائها في العصور الوسطى، ومكانتها الأدبيّة. فمن منا لم يقرأ في يفاعته الرواية الخالدة "أحدب نوتردام"؟ رواية جعلت مخيال كلّ طفلٍ يطير إلى باريس، بفضل أسلوب فكتور هيغو السلس والشيّق، فعشنا متأثّرين بوصف الكنيسة وبرجها، مع شخصيات الرواية، بدءاً من كوازيمودو وازميرالدا والدوق كلود فرولو.
ما حصل أمس في باريس، خسارة تعني لي شخصياً، موتَ جزءٍ من علاقتي بهذه المدينة، التي جئتها في صيف قائظ من العام 2015. كنت مربكاً أمام مدينة كبرى وساحرة. كانت الكنيسة أوّل مقصد لي، تجوّلت فيها مدهوشاً، وجلست أتأمّل الماشين في بهوها، وعشرات السائحين الذين تناوبوا على التقاط صورهم التذكاريّة، مبتسمين أو جامدين بعلامات الدهشة، تجوّلت فيها كزاهد، أنا الآتي من مدينة طرابلس اللبنانيّة، الملأى بالعمارة الإسلاميّة الباهرة، من مساجد تعلوها القبب، والمحارب المصمّمة باحتراف واتقان، يعود بعضها إلى عصور المماليك والعثمانيين، من المسجد البرطاسي والمسجد المنصوري الكبير إلى مسجد طينال. كنت واحداً من أبناء هذه المدينة، المتأثّرين بالعمارة الدينيّة ولا أزال، وحين وجدت نفسي لأوّل مرة في حضرة هذه الكنيسة، وقفت متمهّلاً أمام الزمن، أقارن مدينتي بباريس، أقارن العمارة القوطيّة، التي رحت بفضل كتابات محمود زيباوي في ملحق "النهار" مشدوداً إليها، بالعمارة الإسلاميّة التي تعرفها مدينتي وزواريبها الضيقة وأسواقها، والتي تُعرف بأنها متحف مفتوح في الهواء الطلق، كما باريس، هذا المتحف التاريخي المليء بالقصص والحكايات الآسرة والسحر الذي لا ينتهي، حتى لو احترق جزء وانتهى وأبيد، إلا أنه باق، وهذا ما تعرفه المدن الكبرى الأصيلة بتاريخها الإنساني، وإرثها الحضاري المتراكم.
خسارة إنسانيّة لا تخصّ مسيحيي العالم كما يحسب البعض، ولا تعني الفرنسيّين والباريسيّين تحديداً. إنها خسارة العالم لجزءٍ من تاريخه، ومكوّناته، وإرثه الحضاري.
خسارة جعلتني أتقزّز ممن وجدوا أن وقوع البرج مثل تشفٍ من استعمار فرنسا. قرأت تعليقاتٍ داميةً مليئةً بالحقد، هل فعلاً يمكن لشخص راشد وعاقل يعيش في زمننا، أن يرى إرثاً تاريخيّاً يقع بهذه الفجاجة، ولا يشعر بالألم؟
أقارن مدينتي طرابلس بباريس، أقارن العمارة القوطيّة، بالعمارة الإسلاميّة التي تعرفها مدينتي وزواريبها الضيقة وأسواقها، والتي تُعرف بأنها متحف مفتوح في الهواء الطلق، كما باريس.
علاقة شخصيّة وقُبَل
علاقتي بكنيسة نوتردام شخصيّة للغاية. هناك التقيت بفردريك، رسام فرنسي، وسوية تعرّفنا على أحد مواقع التعارف الخاصّة بالمثليين، التقينا في البهو وتمشينا وشربنا عبوات البيرة الباردة، وتبادلنا القبل وأمامنا يَمْثُل البرج بهالته. كانت لحظة لن أنساها في حياتي، حين صمتنا مبتسمين ننظر إلى بعضنا ونجول بأصابعنا على ملامح وجوهنا الشغوفة، إلى اللحظة الشاعريّة التي قلت فيها لفريدريك: "ماذا لو كان أحدب نوتردام يسترق النظر الى قبلاتنا من البرج؟".
والآن بعد أن رأيت الفيديو الأليم، هذه اللحظة عالقة في رأسي والجملة تحفر عميقاً في قلبي، أتذكّرها بألم الخاسرين إلى الأبد، رومانسيّتهم الضائعة.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.