"تحمل البومة دلالات سلبية في الثقافة الشرقية، إذ يُشار إليها دائماً كجالبة لسوء الحظ، لكنها في الواقع تتمتع بمميزات غير عادية، حيث يمكنها إدارة رأسها والرؤية من جميع الاتجاهات، ولديها حاستا سمع ورؤية قويتان، ترى في الظلام وتسمع أضعف الأصوات، وبإمكانها أن تفترس حيوانات أثقل منها".
"هكذا نأمل أن نكون، أن نسمع الأصوات الخافتة، ونعبر عنها، أن نرى حتى في الأوقات المظلمة، وأن نفترس نظاماً أبوياً راسخاً أكبر منا بكثير"، تقول مارينا سمير، العضو المؤسس بفرقة "البومة" للموسيقى النسوية.
صورة لمارينا ومريم في فريق "البومة"
بحسب رواية مارينا، فإن "البومة"، هو الاسم الجديد لفرقة نسوية نشأت عام 2015، باسم "بنت المصاروة"، وخلال رحلة إنتاج ألبوم "مزغونة" والذي أُصدر في أيلول/ سبتمبر 2021، حدثت كثير من التغييرات في عضوية الفرقة، وكذلك في فهم العضوات للموسيقى النسوية، ولذا قررن تغيير اسم الفرقة ليواكب المفهوم والرؤية الجديدة.
"مزغونة" هو اسم قديم لقرية أبو غرير بمحافظة المنيا بصعيد مصر، "مزغونة يعني مزغودة، وهي الست اللي حد بيزغدها ويسكتها"، واختير الاسم بعد أن استقت الفرقة كلمات أغنيات الألبوم التسع، من شهادات السيدات المشاركات بورش الحكي التي نظمنها في المنيا وأسيوط وأسوان جنوب مصر.
"أستك يا أستك الوابور مفستك"
تصدت "البومة" لمشكلات وانتهاكات تعاني منها المرأة، وناقشت عضواتها بشجاعة قضايا الشرف والبكارة والختان، وهي من الموضوعات الشائكة والتي يتم تجنبها عادة في المجتمعات الشرقية، وهو ما عرضهن للهجوم والانتقادات، خاصة بعد نشر أغنية "أستك يا أستك" التي ناقشن فيها جريمة الختان، "لموا المشارط واجزروا على شاشة بيضا وابدروا دمها المحني.. أستك يا أستك والوابور مفستك، هاتوا ذمتكم البلاستيك"، أثارت تلك الكلمات الانتقادات من المؤيدين للختان.
"البومة" هو الاسم الجديد لفرقة نسوية، بدأت عام 2015 باسم "بنت المصاروة"، تقول مؤسستها: "البومة تتمتع بمميزات غير عادية، فهي ترى في الظلام. وآمل في أن نفترس نظاماً أبوياً"
ترغب "البومة" رغم ذلك في إقامة حفلات لتقديم أغنياتها، وما تحمله من تجارب النساء في مصر للجمهور، ولكن الإجراءات الاحترازية المصاحبة لانتشار وباء كوفيد 19 لا زالت تعرقل تلك الخطوة.
يضم "مزغونة" 9 أغنيات جميعها تعرض تجارب النساء في صعيد مصر، وهي: "كنت فاكرة"، "عالوش بانت"، "أستك يا أستك"، "يا عروسة"، "السلم الموسيقي"، "ع البر"، "أنا رملة"، "كلنا بندور"، "7 فلات".
"قربان للنكد".. زواج الصغيرات
"يا عروسة يا عروسة لبسوكي.. وحشوكي وانتي بوصة.. يا بنات الحور لفلفوا البلد.. مين عليها الدور.. قربان للنكد.. سیبوها مدرستها.. طلعوها برة بيتها.. حطوا جوة شوار خيبتها.. العروسة والحصان".. جاءت أغنية "يا عروسة" على إيقاع شهير ورائج في الأفراح المصرية، لتلفت الانتباه إلى مشكلة زواج القاصرات.
تقول مريم سمير، العضوة المؤسسة بالفرقة، أن ردود فعل الجمهور على ألبوم "مزغونة" في مجملها إيجابية، وأن أكثر ما أسعدهم هو إشادة الجمهور بقدرة الألبوم على إظهار الصورة الحقيقية لما تواجهه النساء في مصر دون ابتذال، مؤكدة أن ذلك الهدف الأساسي من الاختيارات الفنية للفرقة في كل مرحلة من مراحل الإنتاج، فهدفهم لم يكن توعوياً أو لإثارة مشاعر الشفقة والتعاطف، بل الرغبة في رسم صورة من واقع النساء في مصر، لتكون لمشاعرهن وتجاربهن مساحة تعبر عنهن بصدق.
"بنت سمرا أفريقية.. شفة غامقة وشعر كيرلي.. ضحكة صاحية من نوبية.. فجأة سمعت عنصرية" من كلمات أغنية "كنت فاكرة"، ناقشت خلالها مروة حسن، إحدى المشاركات في ورشة الحكي، ما تواجهه السمراوات من عنصرية في الشارع المصري، إذ تحكي أنها كانت تعتقد أن لونها الأسمر لن يكون عائقاً يمنعها من الاندماج في المجتمع، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك، إذ عانت فقط لأنها تمتلك بشرة داكنة.
تشير مارينا، إلى أن كلمات ألبوم "مزغونة" مبنية على مشاركة 34 امرأة في 3 ورش حكي، نظمتها الفرقة في الفترة ما بين آب/ أغسطس 2016، شباط/ فبراير 2017، في قرية أبو غرير بالمنيا ودير درنكة بأسيوط وأسوان، وكانت ورش الحكي بهدف إنتاج عمل فني قائم على التشاركية والعمل الجماعي، مضيفة: "نرى أن الفن يمكنه استيعاب التجارب الجماعية، وكلما كان الإنتاج تشاركياً كان أغنى فيما يبرزه ويتحدث عنه، وبالطبع نرغب في استخدام نفس الطريقة في إنتاجنا المستقبلي".
لم تكن مارينا أو مريم، مؤسسات "البومة"، مجرد متلقيات لتجارب النساء في ورش الحكي، إذ رفضتا القيام بدور المراقب، وشاركتا تجاربهن ذات الصلة بموضوعات النقاش، وهو ما ساهم في كسر الحواجز بين أعضاء الفريق والمشاركات، كما ساعد في خلق رابط مبني على الثقة المتبادلة، مما أثرى الجلسات وجعل الجميع أكثر انفتاحاً على الإصغاء، ومشاركة المزيد.
تضيف مارينا: "أكثر ما أثر فينا خلال ورش الحكي هو التضامن والدعم الذي شعرنا به، والذي تجسد في الانتباه الدائم من الجميع عند حديث أي مشاركة بالورشة وإبداء التفهم والتضامن".
"لحني طالع من جوة قلبي"
"كام مرة بابا قاللي.. مفيش دروس مزيكا.. ومايعرفش إن لحني.. طالع من جوة قلبي.. واديني كخطوة أولى وقفت أغني.. السلم الموسيقي الحلو ده"، وثقت الفرقة في أغنية "السلم الموسيقي" تجربتهن وتجربة أخريات في الغناء على المسرح، والسعادة الطفولية التي شعرن بها نتيجة لذلك، كما توثق بالطبع للرفض الذي تختبره كثير من الفتيات اللاتي يمتلكن مواهب فنية، ولكن المجتمع الأبوي يقرر طمسها.
لم تخش "البومة" مواجهة مشكلات أزلية عانت وتعاني منها المرأة، متسلحة بشجاعة وتجارب سيدات ورش الحكي، لتخرج كلمات الأغاني متشبعة بمرارة وألم التجربة، ولكن بتلقائية دون قيد القوالب التقليدية للشعر الغنائي، والتي كتبتها إسراء صالح ومارينا سمير ومروة حسن.
لحنّت مريم معظم كلمات أغاني الألبوم بألحان معاصرة وتوزيعات متمردة، كما ساهمت مارينا أيضاً في تلحين بعض الأغنيات، وشاركهما في الإنتاج الموسيقي المُنتِج رامي المجدوب، وشاركته مريم، في توزيع الآلات وتأليف الموسيقى وإنتاج الأغاني، ثم عمل عمرو إسماعيل على "الميكسينج" و"الماسترينج".
صورة لألبوم "مزعونة"، غناء فرقة "البومة"
الطريق
طريق "البومة" لم يكن ممهداً، وواجهت عدداً من الصعاب، كان من بينها تكاليف إنتاج الألبوم، والتي نجح أعضاء الفرقة في التغلب عليها بطريقة مبتكرة، وغير شائعة، إذ أطلقن حملة تمويل جماعي لإنتاج ألبوم "مزغونة"، وشارك فيها أكثر من 120 متبرعاً، من النساء والرجال، ونجحت في جمع 77% من المبلغ المستهدف لإنتاج الألبوم، كما حصلوا على دعم صندوق "فريدا" لدعم النسويات الشابات لتغطية باقي نفقات الإنتاج.
لم تنته الصعوبات بتوفير التمويل لإنتاج الألبوم، بحسب رواية مريم، تقول بأن مجال الإنتاج الموسيقي خاصة، والفني عامة، هو مجال مهيمن عليه من قِبَل الذكور، لذا لم يكن من السهل أن يجدن أشخاصاً يقبلون تنفيذ رؤيتهن كما هي، واستنزف ذلك كثيراً من الوقت والمجهود في شرح الرؤية والإصرار عليها، لكن كانت النتيجة خروج الألبوم وهن راضيات عنه إلى حد كبير.
وتضيف: "الفرقة تبحث حالياً طرق تحقيق عائد مادي من خلال الفن الذي تقدمه، حتى يساهم ذلك في استدامة واستمرارية عملها، ولكن مع الحرص على أن تكون الأغنيات متاحة للجميع، وليس فقط لمن لديهم القدرة المادية، ولذلك نشرنا الألبوم الأول للجميع عبر يوتيوب".
أغاني نسوية
لا تنتشر المشاريع الفنية التي تعبر عن قضايا نسوية في منطقتنا بشكل كبير، ولكن بعض الأغنيات تتبنى قضايا نسوية، مثل زواج القاصرات التي غنت عنها دينا الوديدي أغنيتها "العرس"، وفيها: "العرس ماردته ولا المكان حبيته.. بس الحليب ح تطق بيه نهودى.. وإن يسألوكم مين أبوه قولو ده خدها غصب.. ده ابني أنا وحدي شكلته فى حشايا... إيده الصغيرة غازلتها وغازلتني وحاربت الموت معايا".
"أستك يا أستك والوابور مفستك، هاتوا ذمتكم البلاستيك"، "بنت سمرا أفريقية.. شفة غامقة وشعر كيرلي"، "مزغونة (اسم ألبوم لفرقة البومة) يعني مزغودة، وهي الست اللي حد بيزغدها ويسكتها"
وتلقى مثل تلك الأغاني انتقادات بسبب جرأتها، وانحيازاتها للمرأة، وكانت أغنية "هاشرب حشيش" من أكثر الأغنيات إثارة للانتقادات، وفيها تغني لوكا: "ستي قالتلي البنات بيلبسوا فساتين.. أمي قالتلي البنات ما يلعبوش ف الطين.. وخالتي قالتلي غني براحتك بس هتروحي النار.. بس أنا أبويا ماقاليش فأنا هعمل الصح، وهشرب حشيش".
تعرضت يسرا الهواري كذلك لانتقادات بسبب أغنيتها "يا أتوبيس"، وتركزت الانتقادات حول استخدامها كلمة "خرة" للتعبير عن المشكلات التي تعترض النساء، وتقول فيها: "يا أتوبيس يا ماشي قدامي وعمال يطلع عليا خرة.. والله لانزل بكرة بدري.. وابقى قدام وانت اللي ورا.. واعيشلي يوم من غير خرة".
أما "مزغونة" فهو ألبوم نسوي خالص، لأصوات رفضت أن تظل في الظلام، حاملة حكايات النساء في قرى صعيد مصر، حيث وطأة العادات والتقاليد والعيب، ولكنها أصرت أن تدوي في قلوب المستمعين/ات قبل آذانهم/هن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...