كانت تلك الفرصة المبكرة لأن أصبح أمّاً في عمرٍ أتطلًّع فيه إلى المغامرة واللهو، بعيداً عن أي التزام منمّط. ولكن، كيف بمولود لعلاقة عابرة هدفها المساكنة، والرفقة الضالة عن كل مستقيم؟
دخلت عيادة الطبيبة، من دون رفقةٍ هذه المرة، أي من دون فضيحة، ومَلامة، أهضم سرّي بأسى، وعزلة، وأتحسس انتفاخ بطني أكثر، كلما اقترب موعد بوحي بأنني لا أريد هذا المخلوق في داخلي، كي لا يدفعني نحو التقيؤ، والنعاس، والخمول. أستعيد لائحة أمي الطويلة بالأمنيات المعقدة أحياناً؛ حفيدٌ يغلب ضجيجه على خواء منزلنا، بعد موت أخي، فأتنبّه إلى حال تلك المرأة، في فترة حدادها، وكيف تريد استعادة بريق أمومتها، من خلال امتلاء جسدي، وأمانة تسعى إلى احتوائها، متجاهلةً مشاعري الجافة بعد دفن أخي.
إذ عاقبتني هذه المدينة من خلال عيوبها التي حرّمت إجهاضي.
"انظري إليه"، أمرتني الطبيبة، مشيرةً نحو شاشة كانت أكبر من حجم تكوينه، وهي تنهيني عن فعلٍ كان لاحقاً خياراً يتيح لي التقرب من جسدي، من دون عازل يمنعني من معرفة ما أريد أن أكون في المستقبل، وما أريد: "امرأة عزبة، وجذابة بوحدتها"، فارغة من الصفات المشبوهة والمتحيزة جميعها، في مجتمعنا، كصفة "الأم". أنّبتني تلك الطبيبة على شجاعتي في التخلي عن تلك "الصفة" التي كانت هي الأخرى تتباهى بها أمامي، كأمهات مثلها ينتظرن في الخارج للاطمئنان على من سيرثهن بصفاتهن التي تلائم محيطهن المهيّأ لعقاب كل فتاة خرجت عن قواعده، ورفضت بساطة سرديته تجاه المرأة، وتحديد هويتها: زوجة، ومربية "صالحة".
طُردت من عيادة تلك الطبيبة، لأنني طالبتها بالتحرر من تلك الصفة فحسب. أبت مشاركتي في النصيحة، والاستشارة، والمساعدة، من امرأة لامرأة، في مدينة نمارس فيها جميعاً نزواتنا سراً، بتردد، على الرغم من التمرد. إذ عاقبتني هذه المدينة من خلال عيوبها التي حرّمت إجهاضي. في عيادة ظلامها هالك، يشبه ألم تلك الوخزة التي تعطي الحق لوجوده في أحشائي، من دون مراعاة رغبتي في التخلص من هذا العبء. وهو كذلك، عبء، في بلد يستعرض عبر الخبر العاجل، قتل النساء واغتصابهن، وفبركة معايير الشرف، حسب رواية "ذكر العائلة".
هل نادينا، كنساء، برغباتنا من دون حذر، أو خجل من أنفسنا، ونحن ننطقها: "رغبة"؟ رغبتي في الجنس، ورغبتي في الإجهاض؟ رغبتي في تعدد العلاقات خارج معادلة الفشل والنجاح، والخطأ والصواب؟
دائماً ما نطالب بحقوقنا كنساء، ولكن هل نادينا برغباتنا من دون حذر، أو خجل من أنفسنا، ونحن ننطقها: "رغبة"؟ رغبتي في الجنس، ورغبتي في الإجهاض؟ رغبتي في تعدد العلاقات خارج معادلة الفشل والنجاح، والخطأ والصواب؟ رغبتي بعيداً عن إقحام نفسي في جدال، كمتهمة تريد تبيان حجتها المقنعة لتجعل من إجهاضها أمراً لا عار فيه؟
هل كان عليّ خوض تلك المواجهة مع امرأة ذاع صيتها، وروّجت لنفسها كطبيبة نسائية "ملهمة"، بسبب ولادة ناجحة، أو أكثر؟ وهل الأخريات في تلك العيادة، يحملن الرحمة داخل أحشائهن، وأنا تلك الفتاة التي اقتحمت نعيم أمومتهن، وأفسدت مزاج طبيبة لم تأتمن على صحتي؟ فكيف وأنا أتحداها عبر رغبتي، ولا أنظر نحو الشاشة، وكلّي يقين بأني "لا أريده".
أنا التي لم أكترث سوى لرغبتي، وهذا عيبي أمام من استحقّ الخضوع. أليست الرغبة في الجنس هي التي دفعتنا لممارسته ضمن حقوقنا غير المشروطة؟ الرغبة التي عزلتني في المنزل أنتظر مخاضي مرتعبة ومكسورة، لأجد نفسي في سيارة أجرة مع رجل أجهل خلفيّته، محاولةً الحفاظ على يقظتي، والسيطرة على ألمي؟ لكن الدماء كانت فاضحة، وبلونها الغامر تغطي مقعد سيارة "عمو" النظيف: "يا عمو ما بعرف زورب بهالمنطقة... شو صاير معك؟". علينا الاستعانة بزواريب المدينة، لكي نصل إلى عنوان عيادة مأجورة، وطبيبة غير تلك التي استبعدتني من جدول مواعيدها اللاحقة، وإنجازاتها التي "لن تلعق الحرام".
طُردت من عيادة تلك الطبيبة، لأنني طالبتها بالتحرر من تلك الصفة فحسب.
علينا الإسراع في الوصول، قبل غيابي عما حولي من دماء، وغربة، وفوضى تسببت فيها رغبتي بعدم الإنجاب. استسلم جسدي إلى تلك الرغبة أخيراً، وفقدت وعيي، لأستفيق بين يدي شاب يحملني بين ذراعيه محاولاً إرباك الموقف أكثر، ليدّعي بأنه زوجي، لعلّه بذلك يستطيع بتطاوله الذكوري، معرفة ما إذا كان لإنقاذي جدوى في تفريغ كبته، وإشباعه عبر الرسائل الإباحية والكريهة، لاحقاً.
رغبتي في الإجهاض، كتلك المعارك التي نتشاركها نحن النساء، أمام عنف السلطة، لما تمثله من قوانين محبطة كادت أن تقتلني في الشارع، لأن في الإجهاض "تحدّياً". هذه السلطة من متحفّظين، لديهم امتياز نص القرار، وصرامة حرماني من رضيعي، مشرّعين انفتاحهم فقط للمحاكم الدينية التي تتفوه بالسفاهة، وترتكب المعاصي، إرضاءً لنظام يتاجر بالأرحام. هذا النظام الذي يلقّح أرحامنا بجراثيمه حتى يستفيض في إذلال رغباتنا وقمعها، ليبتكر بديلاً عنها بافتتاح حضانة للأطفال في قرية معزولة، نساؤها سُخِّرن لخدمة العائلة، والمحيط، والبيئة.
من تفسر إجهاضي، أي تعرّيني من المسؤولية، لتعزّي نفسها، مدعيةً الثقة بالنفس، والحكمة، من خلال الإنجاب، ولا حكمة في الاثنتين. هذه هي الرغبة تماماً، خالية من الحكم والمواعظ. الرغبة التي تمتّعك، وأنت في الأربعين، والرغبة التي تحجب عنك هواجس الوحدة في مجتمع استهلاكي تقوده "انفلونسرز" يستعن بأطفالهن كدعاية مربحة، وترويجاً لهالة غير موجودة في الحقيقة. الرغبة التي لم أفهمها سابقاً، والتي تعاملت معها باستخفاف بسبب حيائي المبالغ فيه.
بعضكم يرى أنني أخفقت في مثابرتي على الإجهاض. فعلتها ثلاث مرات، ولكن هل مناداتي بـ"ماما" ستفرحني أكثر؟ أم أنها كانت صفة أستطيع من خلالها إغواء شركائي، وتوريطي أكثر في علاقات غير سليمة؟
رغبتي في الإجهاض، كتلك المعارك التي نتشاركها نحن النساء، أمام عنف السلطة، لما تمثله من قوانين محبطة كادت أن تقتلني في الشارع، لأن في الإجهاض "تحدّياً"
صديقتي تشفق علي، لأنني أدركت حاجتي إلى تبنّي "كلبة"، وهي لديها صبي "عملتله سنينية"، وأنا في المقابل أساند تلك المرأة التي "حبلت بالغلط"، وتهوّرت، وأنجبت، إرضاءً للذكر، والشريك في بؤسها، ولا شك في أنها اليوم تعاني.
"إذا ما بدك تجيبي ولد، فيكي تساعدي بترباية أولاد أصحابك"، هذه هي الرؤية الكاملة من سعاد، والتوازن بين ما هي عليه، وهي "أم"، وبين ما أنا عليه. أنا واحدة بين أخريات كثيرات لا يردن الإنجاب، ليس خوفاً أو كسلاً. لا عيب في الاعتراف بأنني أستمتع أكثر، من دون رفقة الصغار، وأحب الاهتمام بنفسي حتى موعد انقطاع دورتي الشهرية. أما بعدها، فربما يكون لدي الوقت كله، للتكفير عما حصدته أنانيتي المفرطة. نعم عليّ الاهتمام جيداً بأولاد أصدقائي، وإن شئت أستطيع أن أكون أماً بديلة بدرجة مبهرة، ولكنني أريد أن أكون هذه "المرأة التي أغرتها وحدتها".
لكل فتاة قصدَت يوماً ما واحدة من تلك العيادات المزيفة، وتعرّضت للغش والخطر، ولفتيات تحدّين ظروفاً صعبة، تخفي رغباتهن، وتقيّدها بالمتعارف والمبارك، علينا بالثبات، فنحن إلى جانب بعضنا، ولو كنا نخذل بعضنا في أغلب الأحيان.
إلى المرأة المخطئة في تعجرفها، ومقامها، وأحكامها، عليك أخيراً بمناصرتي، فأنت لديك ولد، وأنا لدي كلبة، ولدينا من المسؤولية ما يكفي، "فلستُ ناقصة عقل"، ولست امرأة فاضلة، فهموم أجسادنا في هذا العالم نتقاسمها لنتبرّج بابتسامة صلبة، عند كل صباح نواجه فيه أي اعتداء، أو حقد، أو غرور ذكوري طبقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...