هذا المقال ليس مكتوباً في سياق استعطافيّ، ولا يدّعي تقديم طروحات اجتماعية نقدية، بقدر ما هو محاولة للمكاشفة حول أحد آلام النساء مما يكابرن أمام تناوله، حرصاً على الكبرياء والكرامة، أو تجنباً لموجات من العواطف المختلطة غيرِ المحدَّدة ولا مضمونة الأثر.
وددْتُ البدء بالاحتيال على نفسي بمقدمة من مثل: "صباح الخير أيتها المنزلقة نحو عامك الأربعين بأشدّ ما يمكن من ترقّب، المُحْصية لكل شهرٍ تخسرينَه من بضعِ عشراتٍ من الشهور التي ما زالت تلوّح لك ببعضٍ من الأملِ في احتمالِ أن تصبحي أماً.
لا أقول إن غاية العلاقات بين الجنسين هي الأمومة فقط، ولكن بالنسبة لنساءٍ شارفن على إتمام الأربعين، تغدو القضية صراعاً مع الوقت والمشاعر.
ما رأيك ألا تراقبي أرقام ميزانك اليوم؟ ثمّ ما رأيك بتجنّب موجة من الغضب الصباحي الذي بات مبتذلاً حول شَعرك الذي باتت جذوره منغمسة أكثر في فساد البياض، ومحيط عينيك الذي لا يجد إلى إخفاء إرهاقك سبيلاً، فيطالعك كلّ صباح بهالتين كامدتين حزينتين".
لكنني وجدت في هكذا مقدمة سبيلاً جديداً للمواربة والالتفاف على ما أودّ قوله في هذا النص.
حسناً، يبدو أن مؤشرات الحجر الصحي في برلين أخذت بالتراجع، ولكني ما زلت تحت تأثير أيامه الأولى قبل شهرين من اليوم. أنا وحيدة في غرفتي، وباستثناء صديقتي المقربة التي تشاركني السّكن، لا أتقاطع مع أي آدميّ على امتداد عدة كيلومترات سوى بالانتماء إلى الجنس البشري. أستيقظ بشحنة غضب عاصف وسؤال واحد أوجّهه لنفسي كالصفعة: "لماذا أنا وحيدة؟". أحاول إعادة صياغة السؤال لكنه يأتي في صيغة أكثر جلاءً: "لماذا لا أملك أسرة؟ لماذا أستيقظ وحدي وأنام وأعيش تفاصيل حياتي اليومية وحدي؟ لماذا لم تتح الفرصة بعدُ لطفلٍ أحتضنُه وألاعبه، وكذلك أشتكي من وجوده غير أنه يبقى موجوداً؟".
قبل ثماني سنوات، عندما كنت في التاسعة والعشرين، قالت لي إحدى القريبات: "أرجو أن تكفّي عن ممارسة أمومتك مع ابني!". كانت الجملة المكونة من بضع كلمات كفيلةً ببناء حاجزٍ عملاق بيني وبين أيِّ طفل قد أصادفه لاحقاً (وأحبه بالتأكيد نتيجة طاقة الأمومة الهائلة التي تعتمل في داخلي).
حسناً، لا بد أنني لست الوحيدة؛ كثيرات نحن اللواتي نتجنب هذا الجزء من سلسلة مشاريع الحياة لأيّ امرأة، ونتشارك هذا التفصيل على امتداد العالم، لكنني أقصر التناول هنا علينا نحن؛ طيف من السوريات اللواتي غادرن سوريا خلال سنوات الثورة، أنجزن ما أنجزنه مهنياً، دون فرصة للالتفات إلى حقّهنّ ورغبتهنّ في الأمومة، بل وحاجتهنّ إليها.
يفتح الشتاتُ لنا أفقاً متسعاً من خيارات العيش على مستوى الشراكات العاطفية، كما يفتح خيارات للأمومة، لكن الظرف العام للشابات والشباب الذين غادروا سوريا فرادى، عاد على الكثيرات والكثيرين منّا بالاضطراب، عدم الثقة باللحظة والشعور، والتهرّب من الارتباط والمسؤولية، على الأغلب من جهة الرجل. فيما تحارب كثيرات إمّا على جبهة التمسّك بعلاقة في طور المنازعة، في سبيل تجنب خيبة النهايات، أو على جبهة إنهاء علاقة "لا أمل منها"، إن لم يكن إعلانها اجتماعياً، ممكناً، أو جبهة التنازع بين فكرة التبنّي أو عدمه، تربية حيوان أليف، أو الانقلاب على الرغبة المحركة لكلّ ما سبق: الرغبة الفطرية في الأمومة.
حسناً، لا بد أنني لست الوحيدة؛ كثيرات نحن اللواتي نتجنب هذا الجزء من سلسلة مشاريع الحياة لأيّ امرأة، ونتشارك هذا التفصيل على امتداد العالم، لكنني أقصر التناول هنا علينا نحن؛ طيف من السوريات اللواتي غادرن سوريا خلال سنوات الثورة، أنجزن ما أنجزنه مهنياً، دون فرصة للالتفات إلى حقّهنّ ورغبتهنّ في الأمومة، بل وحاجتهنّ إليها
لا أقول إن غاية العلاقات بين الجنسين هي الأمومة فقط، ولكن بالنسبة لنساءٍ شارفن على إتمام الأربعين، تغدو القضية صراعاً مع الوقت والمشاعر.
تُردّد الكثيراتُ من الصديقات: "خلص تجوّزيلِك شي واحد ألماني"، وكأن صفاً من الألمان ينتظرون خلف الباب، أو أن القدرة على بناء أسرة مع شريك من ثقافة مختلفة هي بنفس سهولة النّطق بهذه العبارة أو العبارات؛ "خلص تجوّزيلك…"، أو "أنت ببلد بيتقبّل تكوني أم عازبة"، أو "ليش ما بتتبنّي؟".
أن ترغب إحدنا في الأمومة لا يعني عشوائية هذه الرغبة ولا غرائزيتها، بل سعياً لائقاً نحو حاجة فطرية أو مكون فطري أساسي لذاتها.
حسناً، ماذا لو أصرّت الكثيراتُ منا (أو حتى القليلات) على الارتباط، وبشخص من بيئتهنّ وثقافتهنّ، يعرف لماذا تحبّ كل واحدة منهنّ سماعَ فيروز أو الشيخ إمام أو حتى أحطّ الأغاني الشعبية ذائقةً؟ يشاركها الذاكرة والعادات، واللغة. أجل، اللغة! يستطيع منحها سلاسةَ التفاهم على التفاصيل اليومية.
ثمّ ماذا عن اعتقاد الكثيرات منا بحقِّ الطفل الذي يمكننا إنجابه بدون زواج، في معرفة نسبه، أو العيش في كنفِ والده؟ فضلاً عن أن الدفاع عن خيارِ أن تكون إحدانا أمّاً عازبة لا في سياق أن تكون مطلقة وتربّي أبناءها من زواج سابق، بل أن تنجب من خلال الصناعات الطبية، ليس بالأمر السّهل حين تكون لدينا الرغبة في الحفاظ على علاقتنا بالمحافظين والمحافظات اجتماعياً من آبائنا وأمّهاتنا، والإخوة والأخوات، في الحدّ الأدنى، مع الأخذ بعين الاعتبار النّبذَ شبهَ المؤكّد للفكرة من قبل دوائرنا الاجتماعية الأبعد، استناداً على الكثير من المفاهيم التي أصّلها الانصياع للتقاليد، ولم تهزمها موجة مستحقة واحدة من التعاضد النسائي؟ وبالإضافة إلى ذلك ماذا نفعل بيقيننا بسقوط الدّعم العاطفي من المحيط الاجتماعي الأبعد، واعتبارنا لرفضنا له كذلك، إذ نرفض (وهذا من حقّنا) كلّ ما يمت للتعاطف بصلة؟ وهذا لأننا لسنا في موضع استحقاق للعطف، بل في موضع الحاجة لقلب الطاولة على من يفرزنا عمرياً، ويضعنا في خانة غير الصّالحات للاستخدام، والعبارة هنا تأتي في معرض تشْييئِنا حين ترتبط القضيةُ ببناء أسرة.
ماذا نفعل بيقيننا بسقوط الدّعم العاطفي من المحيط الاجتماعي الأبعد، واعتبارنا لرفضنا له كذلك، إذ نرفض (وهذا من حقّنا) كلّ ما يمت للتعاطف بصلة؟ وهذا لأننا لسنا في موضع استحقاق للعطف، بل في موضع الحاجة لقلب الطاولة على من يفرزنا عمرياً، ويضعنا في خانة غير الصّالحات للاستخدام، والعبارة هنا تأتي في معرض تشْييئِنا حين ترتبط القضيةُ ببناء أسرة
ربما على الكثيرات منا مراجعة حسابات "إصرارنا" في مرحلة ما؛ المرحلة نفسها التي نبدأ فيها بتلقّي بعض العروض التي قد تكون "نادرة" أو "فرصة العمر" من عربيٍّ ستّيني -على الأغلب- تزوّج مرة أو أكثر، لكن ميزانيته، رغبته، وكذلك دينه يسمح بثالثة ورابعة. علينا تقبل التعاطي مع هكذا مواقف بطبيعيةٍ تستدعيها حقيقةُ أننا اقتربنا من الأربعين، وأن فرصَ الشابِّ (الذّكر) من أبناء جيلنا تبقى متاحة مع من يصغرننا بعشر سنوات أو ربما أكثر. وهي الحقيقة التي تعين ستينياً على عدم التحرّج من عرض زواج على امرأة في نهاية ثلاثينياتها!
على جبهة أخرى، تغدو دعوات أفراد العائلة عبر شاشات الهواتف بين القارّات مكررةً، ولكن بنفس القدر من صدق التعاطف أو ربما الشفقة، والتضرع إلى الله بأن "يرزق البنت التي اقتربت من الأربعين" ما رزق إخوتها وأخواتها. يصبح حبّ أبناء الإخوة والأخوات نوعاً من التعذيب الذي علينا أن نعيشه بما استطعنا من تقبُّل، أو نتجرّع مرارة ما يرافقه من أدعية وتعاطف. فتصبح الكثيرات منا رهنَ مدٍّ وجزرٍ داخليين بين التجلّد والتشاغل، وبين النزق والرغبة.
إلى أن تهدأ موجة الغضب الصباحي، ويتوقف فيضان الأسئلة، أداعب أزهاري بلطفٍ. أسقي كلَّ زهرة ماءها، وأكلّمها بشيء من المسّ الأمومي من صباحٍ إلى الذي يليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين