شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
MAIN_

أجسادنا التي يمنع عنها المجتمع أمومتها

MAIN_

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 22 مارس 201905:57 م
قبل أسبوع من الآن، كنت أقول: "لا أصنّف نفسي شيئًا، أنا نغم فقط، وشاءت الصدفة الجينية أن أولد امرأة. بناءً على ذلك، ورثت عادات اجتماعية وأخرى بيولوجية. أحاول قدر الإمكان ألّا أخضع وأعيش كما أريد وارتاح". كنت قد نسيت حربي الخاصة التي دامت لسنوات مع بيئة ذكورية، وظننت أنّني لن أصادف مواقف أكثر سوءًا، أعترف: كنت حمقاء، وسخّفت حقيقة أنّني امرأة، لكنّي تذكّرت، وعن كلّ ما ظننته سابقّا أعتذر.

تدور في رأسي أصوات كل الفتيات اللواتي سمعتهن يتحدثن بسرعة، دون الغوص في الألم، عن تجاربهن مع الإجهاض، والتي عجزن بعدها عن استيعاب ما حدث، فسردن القصة من الخارج كأنها لا تخصّهن. كانت الأصوات تأتي وتذهب، أمّا اليوم فما عدت قادرة على إسكاتها، وأحد الأسباب كان صورة حمقاء صادفتها، يمتد الحبل فيها من عنق المرأة وصولا إلى رحمها، حيث يُشنق الجنين "الأحمر"، مع تعليقٍ لرجلٍ عليها يقول فيه: "معاً لتطبيق القانون بتجريم الإجهاض". يريد الرجل الغوص من الناحية القانونية داخل "أرحام النساء" بحق ووجع يجهله.

هل تفهم ما يعني أن يتحوّل الجنس إلى احتمال حبل؟

سئمت من النقاشات التافهة التي يتم تداولها بسطحية دون أن يظهر صوت النساء، وهنا لا أتحدث فقط عن النساء "المحظوظات" اللواتي بامكانهن الإجهاض في اليوم نفسه من اكتشاف الحمل. بل أيضًا عن اللواتي يخفين حملهن ويضعن أطفالهن على أبواب الميتم أو في القمامة، أو اللواتي يخسرن أرواحهن. ولذلك سأسمح لنفسي بالقليل والكثير الذي أعرفه، أن أروي بصوتي عن كل الأصوات التي تعاني بالسر من وجع لا لغة واضحة له، قصص فتيات سمح لهن أن يكنّ احتمال أمهات لأسابيع، في مجتمع قرر عنهنّ أن الموت مباح داخل الأرحام أكثر من الحياة.

أصوات خسرت أرواحها

يحكي الصوت الجميل: "كل الرجال الذين أحببتهم نزفت منهم، دمًا أحمرًا له رائحة وشكل بقعة محدّدة، على الأرض، كنزة أو فوطة صحية، رميتها كلها بيدي في سلة المهملات. في اليوم التالي استيقظت، خرجت من المنزل، ابتعت قهوتي بابتسامة، وجلست وراء مكتبي أتحدث عن كل شيء إلّا ما يوجد في داخلي. نسيت مع الوقت مسار الوجع، فقدت القدرة على التقاطه، وصرته دون أيّ دليل يُلحظ من الخارج. يكف النزيف عن كونه ملموسًا، البقع الداخلية، تكرّر: "خسارتك محسومة، أنت بكل سذاجتك ووهمك بأنّ العطاء يشفي المعطوبين لم تفهمي بعد أن لغتك كامرأة لا أحرف لها أو مبرر في المجتمع. اصمتي وحاولي أن تختبئي قليلًا، ضعي حدودًا للتمدد الذي يزوره الغرباء كيفما شاؤوا من دون أن يفهموا أنّهم يدوسون على وجع، فيخلفون وراءهم مسارًا ملطَخًا، وحدك ستركعين لتنظفيه".

يحكي صوت آخر: "سألني الرجل: لماذا رفضتي أن تنامي معي؟ أعطيته إجابة تروّض حس الرَفض الذي شعره. الحقيقة التي لا قدرة له على استيعابها هي التالي: قبل أكثر من عام نزفت لمدة اسبوع احتمال طفل، لففته في قطعة محرمة بيضاء ورميته. في اليوم التالي ذهبت لأبحث عنه في النفايات ولم أجده، أدركت للحظة أن ما صنعته لمدة 5 أسابيع يستحق أن أدفنه في النبتة قرب السمكة التي ماتت الشهر الماضي، لكنّي وبسبب الوجع نسيت، أو تناسيت، كي أتخلص بسرعة مما رأيت".

تدور في رأسي أصوات كل الفتيات اللواتي سمعتهن يتحدثن بسرعة، دون الغوص في الألم، عن تجاربهن مع الإجهاض، والتي عجزن بعدها عن استيعاب ما حدث، فسردن القصة من الخارج كأنها لا تخصّهن. 

لا أتحدث فقط عن النساء "المحظوظات" اللواتي بامكانهن الإجهاض في اليوم نفسه من اكتشاف الحمل. بل أيضًا عن اللواتي يخفين حملهن ويضعن أطفالهن على أبواب الميتم أو في القمامة.

تتحمل أجسادنا رجالًا لا يمانعون ممارسة الجنس يوميًا لكن يخافون الجلوس بجانبنا حين نجهض أطفالهم، لأن "الوضع أكثر مما يحتملون" لأنهم أجبن مما يعرفون. 

قبل أكثر من عام فهمت ما تقوله نساء القرية: "حين تدخل امرأة في المخاض، تُفتح لها أبواب السماء". حين تناولت الحبوب التي أدخلتني في مخاض اصطناعي، شعرت أن جسدي على الأرض ورأسي في السماء، وأن لا جسد باستطاعته احتمال كل هذا الوجع ولا مانع لدي أن أموت وأنتهي، خاصةً أنني سأحظى بخلايا ميّتة. أترى عادة هذا الوجع مرادفه ولادة طفل ينسينا كل ما مررنا به، ما حصل معي لا نتيجة له سوى تخبئة حبلي عن المجتمع كي يتم السماح لي بالعيش. رفضي لك مرتبط بوجع شخصي وليس بك. هل تفهم ما يعني أن يتحوّل الجنس إلى احتمال حبل، فتخاف ان تلمس كي لا تتألم مجددًا؟ ، هل باستطاعتك أن تفهم جسد غير قادر على العطاء وأن أبواب السماء تُفتح أمام المرأة التي تجهض أيضًا".

يحكي الصوت: "ننزف احتمالات أطفال، ربما أردناهم أو لم نردهم، ننزف ونذهب إلى العمل، ننزف ونجلس مع آبائنا وأمهاتنا مبتسمات، وفي الواقع كل ما نريد نطقه هو: لا يمكنني التعبير عمّا أشعر به، من غير المسموح أن أقول شيئاً، أريد حقي بالبكاء فقط دون الشعور بالذل لأنّي فهمت حرفيًا معنى أن الدولة والمجتمع قابضان على جسدي من كل النواحي".

يواصل الصوت: "في العادة حين نتعامل مع أوجاعنا يكون لدينا صورة، شكل، رائحة، في الإجهاض الوجع داخلي، لا يمكن إسقاطه إلى الخارج، لا أعرف لون العيون أو البشرة. وجعي لا شكل له، وله كل الأشكال. احتمالات لا تنتهي. كان بامكاني أن أكون أماً، أو ألّا أكون، لن أعرف أبدًا الجواب، وهنا أزمتي. لو كان لدي خيار ما القرار الذي كنت سأتّخذه بكامل حريتي؟".

قانون مبني على الغشاء

في الإجهاض تختبر المرأة الموت في داخلها، فيتحول العضو، الذي تصنع فيه يد ورأس وقلب، إلى مقبرة تنزف منها قرارات مجتمع حقير.

"تستفيد من عذر مخفف المرأة التي تطرح نفسها محافظة على شرفها وكذلك يستفيد من العذر نفسه من ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين الـ542 والـ543 للمحافظة على شرف إحدى فروعه أو قريباته حتى الدرجة الثانية. بحسب المادة 545 من قانون العقوبات".

يوجد مادة في القانون اللبناني قائمة في صلبها على غشاء موجود داخل عضو المرأة التناسلي. إن المرأة تحمل من الناحية الاجتماعية مبدأ "الشرف" وفي حال مارست الجنس، حبلت عانت من إجهاض ، ماتت أو ساعدها قريب حتى الدرجة الثانية بهدف الحفاظ على سيط العائلة لا تتم المعاقبة. شكرًا قانون عم تستر علينا!

أجساد قادرة على تحمّل كل شيء

قبل أسبوع اكتشفت حقيقة أن أجسادنا كنساء قادرة على تحمّل كل شيء، النظرات في الشارع، يد تلمسنا في المواصلات العامّة، كلمات تخترقنا في لحظة غضب، ملاحظات حول ما نرتدي، أمثالٌ شعبيةٌ تشبهنا بعيدان الكبريت، شارع معتم نحرك فيه أرجلنا بسرعة بعد منتصف الليل متأبطات حقائبنا، جسد يرغبنا في المساء، وفي الصباح أن يتفوه فمنا بـ: حاضر، معك حق، لا رأي لي بقراراتك، انا أصلًا لم اطلب منك شيئًا.

تتحمل أجسادنا رجالًا لا يمانعون ممارسة الجنس يوميًا لكن يخافون الجلوس بجانبنا حين نجهض أطفالهم، لأن "الوضع أكثر مما يحتملون" لأنهم أجبن مما يعرفون. أشخاصًا لا يفهمون معنى أن يثق جسد امرأة بمنزل ظنّت بسذاجة أنّها تستطيع دخوله بسلام.

أجساد النساء تفهم حدود السرير، وأنه حين ندوس بأقدامنا على الأرض، من الأفضل ألّا نناقش مشاعرنا كي لا نخسر امتيازاتنا كمتحررات. فتكمل الحياة، دون أن ندرك نحن حتى أهمية ما لا نقول، بسبب الخجل، الخوف، النبذ،القوة أو المحاسبة... فنعيش مع تباعيات تترك بداخلنا فراغًا هائلا ندور فيه، لأنه حين وجب علينا معالجتها فضلنا النجاة على الانكسار اليومي الممنوع في مجتمعنا.

حاولت في عيد الأم أن أكتب فليلًا من اللغة الغائبة، لكل امراة تملك أو لا تملك فرديًا، القدرة الجماعية والمبهرة على استضافة وإطلاق أرواحًا من داخلها، للتي لا تعلم بعد في ظل القوانين العرفية والمكتوبة ماذا كان سيكون خيارها، فخضعت، وتعيش حاليًا في دائرة الاحتمالات.

لكل فتاة أحبّت وخسرت، ظنّت أنها قد تموت من قلب مكسور ومن ثم عادت ووثقت. للمتزمتات والمتحررات، النحيفات والبدينات، لربة المنزل والعاملة، للخاضعات والمتمردات، لتلك التي تعد أطيب الماكولات وللتي لا تصدق أنه السر إلى القلب، لكل امرأة خافت واكتشفت أنها أقوى من جلّادها.

لأمّي التي خسرت ثديها الأيسر وشعرها ووقفت كل صباح أمام المرآة تراقب جسدها بحسرة، واجهضت قبل ولادتي طفلًا، لأختي التي بكت للسبب نفسه، لصديقاتي اللواتي لا يكترثن واللواتي يغيرن ملابسهن حين يزرن عائلاتهن، لوجوه ضربت بأياد قذرة ولا تزال تبتسم. لجدتي التسعينية التي صنعت رجالًا حقيقيين. لخالتي "هنا" التي حُرمت من أمومتها، لعمتي "زهراء التي أوصدت الباب بجسدها كي لا يأخدوا أطفالها منها. لأرواح خسرت، وأخرى خُذلت وحاربت. ولي، لأني لم أفقد قدرتي على التنفس، والمواجهة كل صباح، قبل الجميع، نفسي، لكل امرأة أنجبت أو أجهضت بالغصب، كل عام وأجسادنا قادرة على تحمًل الواقع.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image