يُرجع محمد (35 عاماً) من تونس سبب بقائه عاطلاً عن العمل لفترة طويلة إلى كونه لا يحب استخدام "القفة" و"البندير" للتقرب من رؤساء العمل، مثلما يفعل كثيرون حسب قوله.
"القفة"، هي سلة من السعف يستخدمها التونسيون في التسوق، أما "البندير" فهو دف يُقرع في الحفلات الدينية، ولطالما استخدم التونسيون هاتين المفردتين للتعبير عن التملّق.
ويطلق على المتملق "قفاف" أو "بنادري"، أو يقولون "فلان يهز في القفة" أو "فلان يضرب البندير"، أي إنه يتقرب بطريقة مستفزة لشخص ما، عادة ما يكون أعلى منه رتبة أو مكانة اجتماعية، ويستخدم "القفة" أو "البندير" عادة لقضاء مصلحة شخصية.
ويُعرف التملق بأنه فعل إظهار المديح بشكل مُبالغ، وتملق لرئيسه أي تذلل له طمعاً فيه، بحسب اللسان العربي، والهدف منه هو إرضاء النفس المرتبطة بالموضوع، ويستخدم في المحادثات كطريقة لخلق التودد، كما يتخذ شكل أفعال وتصرفات أطلق عليها التونسيون "التبندير" أو"التقفيف".
قفاف وبندار
يتندر التونسيون بمصطلحي "القفاف" أو"البندار" في أماكن العمل، خاصة إذا وجد بين زملائهم من يظهر تودداً لرئيس عمله.
تقول أروى (27 عاماً)، وهي تعمل في شركة خاصة: "بدأت العمل في الشركة منذ 5 سنوات، لكنني إلى اليوم لم أحصل على ترقية، بينما ترقى اثنان من زملائي، وهم أقل مني خبرة ومستوى دراسي، لا لشيء إلا لأنني لا "أضرب البندير" مثلهم لرئيس العمل، ولا أمدحه، ولا أثني عليه".
"أعمل في الشركة منذ 5 سنوات، ولم أحصل على ترقية، لا لشيء إلا لأنني لا "أضرب البندير" مثلهم لرئيس العمل، ولا أمدحه، ولا أثني عليه، بينما ترقى اثنان من زملائي"
وقد ارتبط مصطلح "القفة" بالمطبلين لنظام بن علي، أو بالأحرى "الوشاة" الذين وصل عددهم إلى أكثر من 40 ألف شخص، بحسب ما نشرته وسائل إعلام محلية، مهمتهم الوحيدة التودد والتملق للنظام بنقل أخبار المعارضين، وقد كانوا يتقاضون أجراً مقابل ذلك.
يروي عبد الله (46 عاماً) يعمل تاجراً، كيف خسر وظيفته في شركة عمومية في عهد بن علي بسبب أحد زملائه المتملقين، والذي كان يعمل حارساً للشركة، لكنه أصبح مسؤولاً، وتقلد منصبه بين ليلة وضحاها: "كان ذلك الشخص يضرب البندير ويهز القفة ليل نهار لمدير الشركة، ويتقرب منه بإسداء خدمات له خارج العمل، لدرجة أنه يذهب إلى السوق لشراء الخضر وغيرها من المستلزمات بدلاً منه، والمضحك في الموضوع أنه يحمل كل الأغراض في قفة".
يتسم المتملق بالصبر والتركيز، ويعرف كيف يخطط بشكل ممتاز لدرجة أنه يتحمل الإهانات، ويقبل كل أنواع التعليقات الساخرة، هكذا يتعرف التونسيون على طبائع المتملق.
يرى العم صالح (60 عاماً) أستاذ متقاعد، أن "هزان القفة" في تونس لا يقتصر على الموظف الذي "يتملق مديره بالثناء على كلامه وحركاته وتصرفاته مهما كانت صبيانية وغبية"، ولكنها تمتد إلى نطاقات أخرى، خاصة عندما يكون أحد الطرفين أكثر غنى، وأعلى شأناً، مثل الزوج الذي يتملق زوجته الأكثر ثراءً، في حضورها يكون محباً، ولطيفاً، وظريفاً. يظل يتملقها إلى أن يكسب ثقتها، والزوجة التي عادة ما تتملق زوجها في حالات محددة، عندما تريد شراء شيء باهظ الثمن، فتثني عليه لمدة شهر كامل، وتعامله بكل لطافة، وتستقبله بابتسامة عريضة.
ويرى العم صالح أن جذور التملق تعرف عليها في المدرسة، حيث يتعلم بعض التلاميذ أساليب التملق، التي تبدأ مع المعلم بالإسراع في مسح السبورة، وحمل الحقيبة بدلاً عنه، وهدف التملق الأول الحصول على درجات عالية في المادة الدراسية.
ولكن، هل ينصح العم صالح الجميع بالتملق، لنيل الدرجات العليا في الدراسة، والمكانة الاجتماعية بعد التخرج؟
يجيب ضاحكاً: "ضرب البندير يفيد أحياناً، لكنه يجعل الانسان يتخلى عن كرامته، وكثير من مبادئه للوصول إلى مبتغاه، وأحياناً ينقذ البعض من مواقف محرجة جداً. قد يفيد التملق على المدى القصير لكنه حتماً ولا بد أن يضرنا على المدى البعيد".
أصل الكلمة
يرجع البعض أصل دلالة "هزان القفة" إلى مرحلة البايات، إذ كان الأعيان يترفّعون عن حمل "القفاف" السلال عند التسوق، فجندوا أفراداً ليحملوها لهم، ثم سرعان ما أصبحت هذه الوظيفة ممارسة اجتماعية، يمارسها البعض تودداً وتقرباً ممن هم أعلى منهم مرتبة اجتماعية أو سياسية، ودافعها الحصول على مكافأة مادية أو الظفر بوظيفة، وأحياناً دافعها الخوف والتملق فقط.
يختلف مع تلك الفكرة الشائعة، المؤرخ عبد الستار عمامو، يقول لرصيف22: "حمل القفة قديماً كانت مهنة شريفة، والحمال يعمل في السوق بمقابل مادي، خاصة أنه كان من العيب في عادات التونسيين قديماً أن تحمل المرأة القفة لثقلها".
"أما بالنسبة لمصطلح 'هزان القفة'، الدال على التملق، فحسب تخميني يعود إلى كون بعض الأشخاص يحملون قفافاً مليئة بالمأكولات أو الخضر أو غيرها لرؤسائهم في العمل، من باب الطمع والتودد".
للتملق في تونس مفردات خاصة، وصور عديدة تبدأ بحسب من تحدثوا لرصيف22 في فصول المدرسة، إذ يسارع الشخص إلى مسح السبورة، وحمل الحقيبة عن معلمه، ولا تنتهي بشراء الخضروات للمدير، أو التجسس على المواطنين
أما "البندير" (الدف) فهو آلة موسيقية قديمة، استخدمت من قبل بربر شمال إفريقيا، كوسيلة لإرسال رسالة إلى الآلهة التي تأتي إلى المغارة أعلى أو أسفل الجبال، ثم أصبح آلة موسيقية تستخدم في الحضرة والأناشيد الدينية الإسلامية، وتحولت دلالة الكلمة من اسم لآلة موسيقية روحانية إلى كلمة تطلق على المتملقين، وعلى الذين يبالغون في مديح رؤسائهم في العمل، قصد جلبهم في صفهم، والتقرب منهم.
ويعرف المختص في علم الاجتماع، نجيب بوطالب، التملق بالنفاق الاجتماعي الذي له "أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، وهي ظاهرة تنتشر في المجتمعات حسب مقدار انتشار مرض الأنوميا الاجتماعية، أي اضطراب المعايير واختلالها".
ويربط نجيب بو طالب بين انتشار التملق والأزمات، ففي أوقات الشدة "ينتشر النفاق والمراوغة والكذب والوصولية على حساب قيم الحق والثقة والصدق والأمانة والشفافية، وبالتوازي تنتشر سلوكيات مناقضة للقيم والأخلاق السليمة للمجتمع".
ويشير بوطالب إلى أن عدم مقاومة المجتمع لتلك الظاهرة، واعتياده لها، تصل به مع مرور الوقت إلى مرحلة "التطبع" مع أخلاقيات النفاق والكذب، وسيادة المظاهر على حساب الجوهر، وحينها يعيش المجتمع في حالة فوضى وتوتر، فينتشر الفساد وانتهاك القانون، وتتدهور المؤسسات، وتتفشى التبعية، ويضعف الإنتاج، وقد تحدث ابن خلدون عن ذلك في مقدمته الشهيرة، في باب خراب العمران وانهيار الدول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...