سيدة أربعينية تنزل من سيارتها، ترتدي ثياباً أنيقة، وفي يدها هاتف لا يبدو رخيصاً، ترمقها فتاة تفترش الرصيف، وأمامها كومة من عُلب المناديل الورقية، تبدأ في ملاحقتها، تارة تطلب منها خمسة جنيهات بحجة أنها تريد شراء أدوية لوالدها المريض، وتارة تطلب منها شراء علبة مناديل.
في البداية، تتجاهلها السيدة الأربعينية، ثم ترد عليها بلطف: "شكراً يا حبيبتي مش عايزة، شكراً يا بنتي ربنا يسهلك"، تعود الطفلة إلى موقعها على الرصيف، وتدفع السيدة الأنيقة باباً زجاجياً، وتختفي وراء زجاجه المعتم.
موقف اعتادته سحر سمير "اسم مستعار"، موظفة بإحدى شركات السياحة بالقاهرة، لكن الأمر لم يعد عادياً في السنوات الأخيرة، لأنه ليس مقتصراً على بائعة المناديل، تقول: "هناك الديلفري، والسايس، وحارس العقار، وعاملة المنزل، جميع هؤلاء يريدون مني المال، وإن اختلفت تسميتهم له، ما بين بقشيش وشاي وإكرامية وعيدية".
"أريد أن أصرخ"
"الأزمة الحقيقية أن مرتبي لا يكفي لمنتصف الشهر، وغالباً زوجي هو الذي يضع البنزين في سيارتي، وكثيراً ما أذهب لعملي وحافظة نقودي لا يوجد بها سوى بطاقتي الشخصية وبعض الكارنيهات"، تقول سحر.
وتضيف: "هذا الوضع يجعلني في حالة توتر وغضب، فمن يراني أنزل من سيارتي وأنا أرتدي ملابسي الأنيقة، يتوقع أنني ثرية، والأموال ملء حقيبتي، وأشعر برغبة في الصراخ لإخبار السايس وعامل البوفيه وبائعة المناديل أن آخر مرة اشتريت فيها ملابس كانت قبل عامين، وأن حقيبة يدي مهترئة، وأنني تشاجرت بالأمس مع زوجي بسبب تأخرنا في دفع قسط مدرسة ابني".
"من يراني أنزل من سيارتي وأنا أرتدي ملابسي الأنيقة، يتوقع أنني ثرية، والأموال ملء حقيبتي، وأشعر برغبة في الصراخ لإخبار السايس وعامل البوفيه وبائعة المناديل أن آخر مرة اشتريت فيها ملابس كانت قبل عامين"
إنها أزمة اقتصادية أفرزت ظاهرة اجتماعية ونفسية، خلاصتها أن يوحي مظهرك الخارجي وعملك وعنوان سكنك بأنك ميسور الحال، وفي واقع الأمر أنت تعاني مادياً، وراتبك لا يكفي لقضاء نصف متطلباتك الشهرية.
سميرة ليست الوحيدة التي تعيش حالة من التوتر والقلق بسبب الوضع الاجتماعي غير المتسق تماماً مع الوضع الاقتصادي. في رأس القائمة يأتي الأطباء والصحافيون والمدرسون والمحامون، وأغلب موظفي الحكومة وحتى القطاع الخاص، الذي تضرر كثيراً في السنوات الأخيرة، ناهيك تأثيرات الظروف الاقتصادية التي تعيشها مصر، بعد انعكاسات تعويم الجنيه أمام الدولار الأمريكي، كل تلك العوامل أظهرت خللاً اجتماعياً، ضحاياه هم آخر ما تبقى من ملامح الطبقة الوسطى.
الوضع الاجتماعي للمدرس أو الصحافي – رغم وجود استثناءات - قد يمنعهما من امتهان بعض الأعمال التي تزيد من دخلهما، أو الاقتداء بفؤاد المهندس في فيلم "البيه البواب"، للراحل أحمد زكى، والعمل تحت إمرة حارس العقار، الذي تحول إلى رأسمالي، وأصبح سكان العمارة التي يحرسها يبحثون عن نيل ثقته ورضاه.
تقول منة محمد، تعمل مدرسة، لرصيف22: "خطيبي مدرس في نفس المدرسة التي أعمل بها، ويتقاضى كل منا ألف جنيه شهرياً (75 دولار)، وعندما قررنا إجراء بعض الإصلاحات في حمام شقتنا، طلب السباك 900 جنيه مقابل عمل لم يستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وطلب 100 جنيه إكرامية لمساعده، أي أن نصف راتبنا ضاع، ونحن في الأسبوع الأول من الشهر".
وتتساءل: "ما الذي دفع السباك لطلب إكرامية لمساعده، ونحن لا نعرف كيف سنكمل الشهر بما تبقى من راتبنا؟".
علاقات مربكة
تقول سلمي دعبس، موظفة بإحدى الإدارات الحكومية: "أتقاضى 2500 جنيه (160 دولار تقريباً) أجراً ثابتاً، بينما تحصل السيدة التي تأتي أربع مرات شهرياً، لمساعدتي في المهام المنزلية، على 200 جنيه كل مرة، ولأنها سيدة نشيطة، ومرتبة، وأمينة، ومحبوبة، تقريباً تعمل طوال الأسبوع، أي أنها تتقاضى شهرياً نحو ستة آلاف جنيه (390 دولار)، كما أنني ملزمة تجاهها ببعض الأمور، مثل منحها شنطة رمضان، وعيدية العيد، وحلاوة المولد، أو ما يعادل قيمتها المالية، وفي حقيقة الأمر أنا من يستحق المساعدة".
الصحافيون من الفئات التي تعاني مادياً في مصر، بسبب ضآلة الرواتب. يقول رامي (اسم مستعار): "أنا عضو بنقابة الصحافيين، أتقاضى ما يسمى ببدل التدريب والتكنولوجيا من النقابة، نحو ألفَيْ جنيه، ودخلي من الجريدة يزيد قليلاً، وأنا متزوج ولدي طفلان، وأعلم مثلاً أن حارس العقار الذي أسكن فيه، يعمل بالسمسرة، إلي جانب دخله الشهري من العقار، ومساعدات السكان الذين يعيشون نفس ظروفي تقريباً، كما أن زوجته تساعد زوجاتنا في أعمال منزلية، ودخلها بمفردها هو ضعفَا دخلي تقريباً. المثير للدهشة والتساؤل أنه جاء يوماً يطرق بابي، طالباً هاتفاً محمولاً، لأن ابنه الصغير هشم شاشة تليفونه، نظرت إلى هاتفي الذي فقد لونه الأصلي، ولا يعمل بدون توصيله بالشاحن طوال الوقت، لأنه يحتاج لبطارية، وقلت له: "هعدي عليك بكرة وأنا نازل الشغل"، وبالطبع لم أفعل، وكنت أتجنب مقابلته".
خولة محمد (اسم مستعار) ربة منزل، تتقاضى معاش زوجها، الذي كان يعمل في وظيفة مرموقة، تشعر هي الأخرى بارتباك حيال مساعدتها المنزلية، التي تطلب منها مساعدات مالية، بجانب راتبها، تقول: "معاش زوجي أدفع منه ايجار شقتي، بأحد الأحياء الراقية، وتأتي يومياً إحدى السيدات للقيام بأعمال المنزل، وإعداد الطعام، ومرافقتي لبعض الوقت، نظراً لكبر سني، فهي تتقاضى أكثر من ثلثي المعاش، ورغم ذلك تتفنن في طلب مساعدات مالية وعينية إلى جانب راتبها، وهو ما يشعرني في كثير من الأحيان بالضيق، لأنني مضطرة لتلبية طلباتها، رغم المعاناة المادية التي أعيشها".
"نظرة دونية للموظفين"
"عدم اتفاق الوضع الاجتماعي مع الحالة الاقتصادية"، هذا هو التشخيص للحالة المصرية، حسب وصف د. سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهي ظاهرة مرتبطة بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية واضطراباتها.
"هناك مهن أخرى بسيطة، ولكن عائدها المادي أكبر، وأصحابها بلا التزامات تجاه مظهرهم".
وتابع لرصيف22: "هذه الظاهرة ينتج عنها العديد من التشوهات الاجتماعية، فنجد على سبيل المثال، شخصاً حظى بتعليم جيد ومهني، ولكن دخله المالي متواضع، ولا يتناسب مع احتياجاته الاجتماعية، فلا يمكنه تجاهل مظهره الخارجي، وعاداته في الملبس والمشرب تحت أي ظرف اقتصادي يعيشه، كما أن لديه التزامات أخرى لا يمكنه الهروب منها، بسبب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها، فهناك مهن أخرى بسيطة، ولكن عائدها المادي أكبر، وأصحابها بلا التزامات تجاه مظهرهم، بل على العكس من ذلك، في بعض الحالات يستغلون مظهرهم المتواضع للحصول على مكاسب أكبر".
ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور علاء رزق أن "ما نعيشه نتيجة طبيعية لثقافتنا القائمة على تقديس العمل الحكومي، وكما يقول المثل الشعبي "إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه "، وبالتالي توجه قطاع كبير من الشباب للعمل في الجهاز الإداري للدولة، لما يوفره من دخل ثابت بعيد عن أي مخاطرة، وبالتالي حرمانهم من تحسين دخلهم، ومستوى معيشتهم، والاكتفاء بالوظيفة، حتى إن كان دخلها أقل بكثير من القطاع الخاص".
ويضيف: "ثم يعيش الموظف بعد ذلك في سلسلة من الشكاوى التي لا تنتهي، بسبب تدني الأجور، وارتفاع الأسعار، وكلما ازداد الوضع الاقتصادي سوءاً، تزايدت المشكلات الاجتماعية، وظهر الخلل في الطبقات الاجتماعية".
"المثير للدهشة والتساؤل أن بواب عمارتنا جاء يوماً يطرق بابي، طالباً هاتفاً محمولاً، لأن ابنه الصغير هشم شاشة تليفونه، نظرت إلى هاتفي الذي فقد لونه الأصلي، ولا يعمل بدون توصيله بالشاحن، لأنه يحتاج لبطارية، وقلت له: هعدي عليك بكرة"
ويختلف معه مجدي الششتاوي، المستشار الاقتصادي السابق بالولايات المتحدة الأمريكية، ويحمّل الدولة مسؤولية الظاهرة برمتها، والحل بالنسبة له "يتحقق برفع رواتب الموظفين بما يتناسب مع احتياجاتهم الفعلية لعيش حياة كريمة تتسق مع مستواهم الاجتماعي، وفي المقابل احترام أصحاب الحرف، مثلما يحدث في الدول المتقدمة، وعدم النظر إليهم بدونية".
وحذر الششتاوي من استمرار هذا الوضع، لأنه "سيؤدي إلى انقلاب المعايير في المستقبل القريب، وسينظر المجتمع بشكل عام للموظفين وأصحاب الشهادات العلمية نظرة دونية"، ناصحاً الشباب بالخروج من القوالب القديمة، بما يمكنهم من تحسين دخلهم من خلال تعلم الحرف المختلفة، مستنكراً الدور الذي لعبه الإعلام والدراما، في خلق صور ذهنية سلبية عن المهن والحرف اليدوية، الأمر الذي جعل الشباب يعزفون عنها.
وتقول الكتورة هبة العيسوي أستاذة الطب النفسي بجامعة عين شمس، لرصيف22: "إن شخصاً تبدو عليه الوجاهة الاجتماعية، وحسن المظهر، فبالتأكيد يتعرض لضغوط نفسية بسبب الظروف الاقتصادية التي يمر بها، وهذا ما يشعره بالضيق والتوتر الشديدين، وقد يصبح عنيفاً وعصبياً ومستفزاً من أبسط الأشياء، وقد يصاب بحالات قلق أثناء النوم ومخاوف مرضية أخرى".
ونصحت هبة بضرورة التعامل مع هذا الوضع بشكل أكثر توازناً من الناحية النفسية، وأن ندرب أنفسنا على الاعتذار بهدوء عن تقديم المساعدة المالية للسائلين، في حال عدم قدرتنا على ذلك، دون أن نشعر بالذنب، وتابعت: "الإنسان السوي نفسياً لن يشعر بالظلم المجتمعي بسبب مثل هذه الظواهر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...