شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
“عندما انتهت بطالتي بدأ القهر“... عن المشاعر السلبية والعمل

“عندما انتهت بطالتي بدأ القهر“... عن المشاعر السلبية والعمل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 5 ديسمبر 202005:08 م

وأنا أكتب هذا المقال في مقهى دمشقي، لاحظتُ أنّ النادل الذي أتى لي بفنجان القهوة، كان عابساً، فقلتُ له مازحة:

"روق روق، نص الألف خمسمية"

أجاب ساخراً: "طبعاً أريد أن أروق، عندما أتعرض لمضايقات من الزبائن، فهذا من يرفع صوته علي، وهذا من لا يعجبه العجب، مع أنه هو من طلب طلبه، وهذا من يطلب طلبه بطريقة وكأنني موظف لديه، إضافة إلى الأجر الزهيد الذي أناله قياساً بالجهد الذي أبذله"

قلتُ له: "لماذا لا تترك هذا العمل لأجل كرامتك؟"

أجاب: "وهل أنا في بلاد أوروبية كي أجد عملاً فور تركي لعملي هذا؟ في عالمنا العربي كثيراً ما نشعر بالذل ونحن نبحث عن عمل، وحينما نجده تبدأ رحلة القهر".

تذكرت عبارة أثرت فيّ لزميل في عملي، قال وهو يشكو عدم إنصافه: "منذ عشرين عاماً أعمل كمدرّس، ماذا جنيتُ؟ أنا مقبور في مكاني ولا أتقدم، الأمر أشبه بالضياع حين تجدين نفسك في مكان لا يناسب قدراتك"

تبدأ الأحاسيس السلبية المرتبطة بالعمل، كما لاحظتها، بعدم تقدير الذات وعدم تقدير الآخرين للجهد المبذول، وصولاً لحالات الاكتئاب، إذ تشير معظم الدراسات المتعلقة بمتلازمة الاحتراق النفسي المهني إلى مراحل مختلفة من هذا الاحتراق أو ما قبله عندما تبدأ بمرحلة انخراط نشطة بل مفرطة، تليها مرحلة تراجع تنتهي بإرهاق شديد واكتئاب وفقدان الحماسة للعمل.

وكثيراً ما يتذمر عمال وموظفون في مجالات عدة من عدم تقدير مديرهم لهم، أو تقدير آخرين على حسابهم، ويشعرون كذلك بالإحباط من ضغط ساعات العمل، التي غالباً لا تناسب أجورهم، وهذا ما عبّر عنه الطبيب النفسي الأمريكي الألماني المولد، هربرت فرويدنبرغَر، واصفاً هذه المشاعر كلها بمصطلح "الاحتراق النفسي المهني"، وهو أول من جاء بهذا المصطلح حينما لاحظ على بعض زملائه في العمل حالة نفسية متعبة لهم، وصفها بأنها "حالة من الإرهاق الذهني والبدني الناجمة عن الحياة المهنية للشخص" وكان ذلك عام 1974.

"في عالمنا العربي كثيراً ما نشعر بالذل ونحن نبحث عن عمل، وحينما نجده تبدأ رحلة القهر"

ومنذ ذلك الحين بدأت الدراسات والبحوث حول "متلازمة الاحتراق النفسي المهني" في جميع أنحاء العالم.

"أعيش مثل شخص تعرض لحادث سيارة أو فقد عزيزاً للتو ولم يعد يستطيع النوم، مضى على عملي ست سنواتٍ قدّمتُ فيها كل جهدي، وكانت النتيجة أنني اليوم لا أنال قسطاً كافياً من النوم بسبب الإجهاد النفسي والتفكير المتواصل بتهديدات مديري بخسارة عملي إن لم أبذل جهداً أكثر"، يقول أحمد (30 عاماً) اسم مستعار، ويعمل في مشفى حكومي في دمشق.

أخبرني أحمد أنه يضع كل طاقته في العمل، وقد ابتعد عن الكثير من أصدقائه، وبات العمل يشعره بوحدة قاتلة.

الاحتراق النفسي المهني

الاحتراق النفسي هو "مصطلح عام يشير إلى حالة يمر بها الموظف إذ يشعر فيها بالضغط النفسي والإنهاك والتعب بسبب العمل".

يصعب على الموظف في البداية اكتشاف ما يتعرض له من احتراق نفسي، ففي المراحل الأولى يعزو هذه الأعراض إلى ضغوط العمل، ومع تفاقم الوضع وعدم معرفة الأسباب او جدية التعامل معها غالباً ما يصاب بالاكتئاب، وفي حالات سيئة يصل الوضع إلى درجة التفكير بالانتحار.

ويفسر الدكتور ياسر جاموس، المختص بالمقاييس النفسية والتربوية في جامعة دمشق، الاحتراق النفسي الوظيفي بأنه: "كل ما يشعر به المرء من إحباطات متتالية وإنهاك نفسي واضطرابات جسدية في مكان عمله، بسبب الإجهاد المزمن أو بسبب تعارض قيمه مع قيم المؤسسة التي يعمل بها، ما يؤدي إلى شعوره بالإجهاد وكرهه لهذه المؤسسة لأن عمله لا يتناسب مع توقعاته".

النفس بين الضغط والاحتراق

يشترك الاحتراق النفسي والضغط النفسي بأنهما "حالة من الإنهاك النفسي والجسدي"، ويختلفان في أنّ الفرد المضغوط نفسياً يشعر بالتحسن حينما تزول أسباب ذلك الضغط، بينما "المحترق نفسياً" يفقد الأمل في التغيير الإيجابي، وفي زوال أسباب هذا الاحتراق النفسي، إضافة إلى معاناته من الوحدة، والشعور بالفراغ، وقلة الحماسة للعمل.

كثيراً ما نعاني ضغوطاً في العمل لكننا لا نعي أنها قد تتحول إلى احتراق نفسي.

"إرضاء الذات غاية كل شخص".

عن أسباب الشعور بهذا الاحتراق، يعلق جاموس: "إرضاء الذات غاية كل شخص، فعندما يعمل الفرد في مكان عدد ساعات العمل فيه لا يتناسب مع جهده سيشعر بالإنهاك النفسي، إضافة إلى حرصه على تحقيق النجاح في مؤسسة لا يعنيها نجاحه بقدر ما يعنيها ما تجنيه من قيمة مادية من هذا النجاح، فيفقد بذلك حصته من المكافآت والحوافز، وهذا ما يؤدي إلى شعوره بالإحباط المتكرر الذي قد يصل إلى إصابته بالاكتئاب، إضافة إلى وضع مدير للعمل غير مؤهل للإدارة من ناحية الخبرة أو التعليم، ما يؤدي إلى تخبط العامل وعدم شعوره بتقدير المدير له، فيفضي ذلك إلى عدم إرضاء الذات التي هي غاية كل شخص".

أسباب أخرى

غالباً ما تؤدي بنا توقعاتنا المبالغة فيها إلى الشعور بالإحباط، هذا ما يحصل مع الموظف الذي يقوده التعب المتعلق بالعمل إلى فقدان السيطرة عليه إضافة إلى عدم تقدير مديره له وعدم اعترافه بجهده والمكافأة التي يستحقها.

روتين العمل يؤدي أيضاً إلى الاحتراق النفسي، كل يوم أنت ستعمل الشيء ذاته، لا يوجد تجديد ولا أمل بالتغيير.

بيئة العمل الفوضوية تؤدي أيضاً إلى الشعور بألم نفسي يصعب تفسيره، خاصة إذا كان الموظف منظماً.

 "منذ عشرين عاماً أعمل كمدرّس، ماذا جنيتُ؟ أنا مقبور في مكاني ولا أتقدم، الأمر أشبه بالضياع حين تجدين نفسك في مكان لا يناسب قدراتك"

المدير "الصارم الذي لا يرحم" ولا يعطي فترات استراحة طالباً العمل المتواصل لإنجاز المطلوب من دون استرخاء، يدفع إلى قلق متواصل في النهار لإنجاز المهمة، يمتد هذا القلق لساعات الليل، وهذا ما يؤدي إلى عدم حصول قسط كافٍ من النوم.

هنا ينصح الدكتور جاموس أي شخص "بأن يكون واقعياً قبل اختيار المهنة أو المكان المناسب لقدراته وطاقاته وخبراته وإلاّ فسيتحول حماسه للعمل في بداية مشواره المهني إلى إنهاك نفسي في منتصف هذا المشوار، فكل منا لديه التزامات عائلية واجتماعية إن لم نختر العمل المناسب فستتم التزاماتنا المهنية على حساب التزاماتنا الاجتماعية والعائلية، والعكس صحيح".

العلاج

بعض الدراسات النفسية تشير إلى أن علاج الاحتراق المهني النفسي يكون على ثلاث خطوات:

الخطوة الأولى هي البحث عن أسباب التباين بين قدرات الفرد وبين تقييمه لواجباته.

الخطوة الثانية هي التشجيع من قبل المديرين، وتقديم الحوافز للعاملين في بيئة عملهم، وتحسين هذه البيئة ببعض متطلبات الاستراحة، فبيئة العمل قد تكون سبباً رئيسياً للاحتراق المهني أو الوظيفي.

الخطوة الثالثة هي اختيار الموظف بيئة عمل قيمها تناسب قيمه وهذه الخطوة ضرورية جداً كي لا يشعر الموظف بتعارض هذه القيم، ويضطر إلى العمل من أجل كسب المال ومن ثم يُصاب بالإحباط.

فيلم "الاحتراق النفسي"

قليلة هي الأفلام العربية التي رصدت تلك الظاهرة، وأبرزها فيلم "بيرن آوت" أو "الاحتراق النفسي"، وهو فيلم مغربي أنتج عام 2018، يحكي قصة شخصية جاد، الذي أدى دوره الفنان المغربي أنس الباز، الشخصية الدرامية تنتمي إلى فئة اجتماعية ميسورة، وبالرغم من ذلك فهو غير سعيد في حياته الزوجية مع شريكته إيناس، التي أدت دورها الفنانة مرجانة علوي.

جاد موظف فاشل في مهنته وفي علاقاته الاجتماعية مع محيطه الثري، بسبب الصراع الذي يعيشه مع ما كان يريد أن يكونه "بطلاً في مسابقات السيارات السريعة"، وما أراده له والده بأن يستمر في مواصلة إرث العائلة بإدارة أعمالها التجارية الكبرى، فيصاب بإحباطات متتالية بسبب ذلك، إضافة إلى شعوره بما يشوب عالمه الثري من فساد.

واستعرض الفيلم أيضاً شخصية عايدة، وهي طالبة جامعية تدرس الطب البشري، قدمت من الريف، ولتلبية متطلبات حياتها ورفاهيتها عمدت إلى إقامة علاقات مع رجال أعمال أثرياء، على الرغم من تناقض ذلك مع ما تؤمن به من قيم.

الفيلم يوضح المعاناة التي يشعر بها جاد بسبب تناقضات الطبقة الثرية. كذلك يعاني أيوب من ضغوطات الطبقة الفقيرة. معاناة الاثنين مردها إلى طبيعة العمل الذي لا يرغبان فيه، والتناقضات الاجتماعية التي دفعت كلاً منهماً إليه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image