شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الجزائريون لا يعتبرونني جزائرياً صِرْفاً... والفرنسيون لا يعتبرونني فرنسياً أصيلاً

الجزائريون لا يعتبرونني جزائرياً صِرْفاً... والفرنسيون لا يعتبرونني فرنسياً أصيلاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 2 أكتوبر 202112:47 م

 حياكة الكلام


كثيراً ما كنت أستغرب غضَّ الشرطة الطَرف عن المتاجرين بالسموم، فكلما كنت أقطع شوارع مدينة شَارْلُورْوَا، بسيارتي أو راجلاً، لمحت بعض الشبان الأفارقة والعرب ومن جنسيات أخرى، موزعين على جنبات الطرق، أو يقفون في زوايا البنايات، يعرضون بضاعتهم من الكوكايين والهروين، دون أن يتعرض لهم أحد. وبحكم أنني أقضي من يوم إلى ثلاثة أيام من كل أسبوع في قسم الشركة بشارلوروا، حسب ما تقتضيه ظروف العمل، وبقية أيامي موزعة على مشاريع شركتنا في فرنسا أو هولندا أو ألمانيا، لم أكن أجد الكثير من الوقت نهاراً كي أفهم ما يجري هنا.

وقد أخبرني ذات يوم، عمي عُثمان الشَّعْبي، وهو عامل الصيانة عندنا في الشركة، قدم إلى بلجيكا قبل عشرين سنة من نواحي مدينة الصويرة المغربية، لما أخذنا الحديث إلى هذا الموضوع، أن شرطة المدينة، من فترة لأخرى، تكثِّف حملاتها ضد شبكات ترويج المخدرات، لكنّها سرعان ما تتوقف عن ملاحقة هؤلاء الشباب الذين تستخدمهم تلك العصابات.

على كُلٍ، بقي هذا الأمر غامضاً بالنسبة لي، ولم أجد مبرراً واحداً مقنعاً لسلوك الشرطة المتسامح مع هؤلاء، سوى أن يكون هناك تواطؤاً من جهة ما. هل من المعقول أن يكون صمت الشرطة وغضها الطرف عن تجارة هؤلاء الشباب للممنوعات، مقابل توظيفهم في جمع المعلومات واستقصاء الأخبار؟ خصوصاً وأن المدينة مليئة بالمهاجرين المغاربة والأفارقة والأتراك والإيطاليين وغيرهم.

كلما فكرت في هذا الموضوع زاد استغرابي أكثر، واستبدت بي الحيرة. صراحةً لم تشف غليلي إجابات عمي عثمان، حتى عندما أخبرني بأن الشرطة كثيراً ما تضيِّق عليهم الخناق، ما يدفعهم للالتجاء للمراهقين وتجنيد الطلبة الثانويين، خصوصاً الفتيات البلجيكيات، لترويج البضاعة في الأماكن العامة وفي مواقف الحافلات، وذلك لعدم لفت الانتباه.

ولأنّني عجزت عن الامساك بخيوط الحقيقة، وباءت كل محاولاتي الذهنية في فك شِفْرَة هذه القضية بالفشل، تركت التفكير في هذا الموضوع. ومع مرور الوقت تقبلت الأمر، وصار بالنسبة لي مألوفاً وعادياً. لأن هؤلاء الشباب المهاجرين، وهم يتاجرون بالهروين والكوكايين أمام الملأ، أضحوا من ديكور المدينة ومن أهم معالمها المؤثثة لأحيائها وشوارعها.

الليلة عليَّ العودة إلى باريس، وإلا وجدت نور غاضبة مني. فكثيراً ما كنت أنسى عيد زواجنا، وكثيراً ما كانت تؤنبي على إهمالي وغفلتي، وتصر على ألا تكلمني لأيام متتالية، أخاف من تعكر مزاجها، فهذه الحالة لا تنتهي عندها بسهولة، فعندما نتشاجر أو يسود بيننا بعض التوتر، أبذل جهداً كبيراً في إرضائها.

الطريق من شارلوروا إلى باريس يتطلب أكثر من أربع ساعات، وعلى الرغم من أنني متعب من تراكم الأعمال في مكتبي وفي ورشة المشروع، لكن ما باليد حيلة. كلما تَحُلُّ ذكرى زواجنا أنا ونور أتذكر أول يوم تعارفنا فيه.

لما كانت نور بصدد تغيير المسكن المشترك، بعدما سئمت من عادات وسلوكيات الفتيات العربيات والرومانيات والفرنسيات غير المباليات، اللواتي يتقاسمن معها دفع ثمن إيجار الغرفة شهرياً. فمباشرة بعد قبولها في قسم الترجمة في إذاعة مونت كارلو الدولية من قبل المحررة فيوليت خوري، قررت الإقامة بمفردها. أذكر ذلك اليوم جيداً، وكلما أتذكره لا أكاد أتوقف عن الضحك!

تستغرقني الذكريات وتأخذني بعيداً، إلى رائحة أبي، إلى صدى صوته وهو يؤنبني عن أخطائي الصغيرة والكبيرة، إلى ملامح وجهه حينما يغضب أو يفرح، إلى عمق عينيه العسليتين حيث يدفن وجعه الذي مات معه... مجاز في رصيف22

كنت حينها مازلت أشتغل في وكالة عقارية للبناء والكراء تقع في سان ميشال في الدائرة الخامسة في باريس، قرب محطة الميترو. وبينما كنت منهمكاً في مراجعة وتعديل تصاميم مشروع جديد أخذ من وقتي أشهر ولياليَ بأكملها، كي أعرضه على مدير الوكالة في مساء ذلك اليوم، دخلت نور إلى مكتبي، لا أدري من أرسلها حينها أو أن كل الموظفين خرجوا لتناول الغداء.

كنت في صراع مع الزمن، غارقاً في تصاميمي تلك، لم أسمع حديثها، ولم أعرها أدنى اهتمام. فقط أشرت لها بيدي في اتجاه مكتب موظفة الاستقبال في القاعة المقابلة، وبكلمات مقتضبة أفهمتها أن تنتظر ريثما تعود الموظفة كي تهتم بها. كان هذا كافياً كي تستشيط غضباً، وتنفجر في وجهي.

علمت فيما بعد، لما اعتذرت مني، أنها كانت ذلك اليوم جد مرهقة، فقد أمضت أيام الأسبوع الأخير في البحث والتّنقّل من وكالة إلى أخرى للعثور على سكن ملائم لها.

حقيقة، الأمر غريب؛ دوماً ما كنت أسمع عن أناس يتقاربون بعد خصومات أو سوء فهم، وها هو الأمر ذاته يحدث معي. استغربت في البداية اسم نور العائلي كُومَانِيسْكُو! فكيف لمهاجرة من أصول جزائرية أن تحمل لقب غربي؟!

لما توطدت علاقتي مع نور، أخبرتني أنّها من أب روماني وأم جزائرية، رفض والدها مغادرة الجزائر بعد انتهاء عقد عمله، فاضطر للعمل سنوات عديدة في مدارس التكوين الخاصة.

كانت نور متأثرة جداً وهي تحكي لي عن معاناة والدها ألكسندرو كومانيسكو، لا أظن أنّها ذكرته يوماً ما في حضوري ولم تبك. أخبرتني بدموع منهمرة:

استغله أصحاب تلك المدارس الخاصة بطريقة متوحشة وبشعة جداً، بسبب إقامته غير الشرعية. فغالباً ما كان يعود إلى البيت في أوقات متأخرة، يكتفي بتقبيلي على رأسي وأنا أغط في نوم عميق. كان يبذل جهداً مضاعفاً في تلك المدارس مقارنة بعمله السابق في الجامعة، فقد كان يُدرِّس ويُدرّب الموظفين، وبالإضافة إلى ذلك يعدّ دراسات لصالح بعض الشركات.

 بينما كانت تلك المدارس تتقاضى أموالاً كبيرة جراء أتعاب أبي، كانوا يرمون له بالنزر القليل من المال. هذا الفتات لم يكن كافياً لتلبية حاجاتنا الضرورية.

أخيراً استسلم أبي، كان منكسراً وحزيناً جداً عندما أعلمنا بقراره المغادرة إلى بوخارست، على أن نبقى أنا وأمي في بيتنا في قسنطينة. ما جعله يطمئن بعض الشيء علينا، على الرغم من أنّ القرار الذي اتخذه، مكرهاً، كان فوق طاقة احتماله؛ أنّه تركنا بالقرب من أخوالي.

كان أبي يتفرس فيهم ويحدث نفسه: "إنّهم مثلنا. ملامحهم عربية، ويتكلمون بالعربية، لو كانوا فرنسيين لأتوا نهاراً، لقد اعتدنا مضايقات الجنود الفرنسيين في النهار، واليوم نتعرض لمضيقات أخرى ليلا، ومن بني جلدتنا!"... مجاز في رصيف22  

لم تصمد نور بدورها، فبعد سنوات من مغادرة والدها اضطرت للّحاق به، قبل حتى أن تكمل دراستها الجامعية. أخبرتني كذلك أنّها سافرت إلى رومانيا قبل نهاية العام الدراسي الثالث لها في كلية الإعلام بقسنطينة، بسبب المضايقات التي تضاعفت بعد دخولها للجامعة.

فقد باتت مخنوقة من تسلط ومضايقات خالها بلقاسم بولقدام. سلوكيات خالها تغيرت بعد وفاة جدتها الهذبة بن جلول، وأصبح كالرقيب على أنفاسها وحركاتها، يعاتبها عندما تخرج من البيت، يسألها عن سبب خروجها وعن سبب تأخرها، يدقق في برنامجها الزمني في الجامعة، ويؤنبها صباح مساء لعدم ستر جسدها بارتداء الحجاب المفروض شرعاً. أمها المسكينة لا تستطيع أن تحرك ساكناً، وجدتها التي كانت توفر لها الحماية غادرت إلى الدار الأخرى.

أما خالتها دلولة، فكانت كلّما تزورهم في البيت تبحلق فيها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، تمعن النظر فيها جيداً، وتقول لها: "أصبحت عروسة ويجب أن نفرح بك في أقرب الآجال". ثم لا تَتَوَرَّع من التحدث عن تزويجها بابنها لخضر المُجَنَّد في مدينة تندوف الجنوبية. لا تملُّ من الحديث والتخطيط لهذا الزواج غير المتكافئ.

حينما وطأت أقدامها بوخارست، هالها أنّها وجدت والدها على فراش المرض، لم يخبرها بتدهور وضعه الصحي لما كانت تتصل به من قسنطينة كي تطمئن عليه بين الفينة والأخرى. يسهر على راحته بالتناوب كل من عمتيها فلورنتينا وإليزابيتا.

عرفت، فيما بعد؛ أن والدها تزوج من امرأة رومانية تصغره كثيراً، اسمها دينيسيا فيزان، غادرته بعدما اشتد مرضه، ومن حينها لم يظهر لها أيّ أثر، ولم يسمع عنها أيّ خبر. قبل أن تكمل نور دراستها في جامعة بوخارست، توفي والدها ألكسندرو. بقيت في بيت والدها مع عمتها إليزابيتا، حاولت في تلك الفترة أن تجد عملًا يناسبها، لكن الوضع الاقتصادي في رومانيا هش، والعمل غير متوفر للجميع. عانت كثيراً من البطالة والبقاء في البيت طيلة النهار مع عمتها العجوز.

كان انضمام رومانيا للاتحاد الأوروبي بمثابة فرصة لنور للذهاب إلى فرنسا دون الحاجة إلى إجراءات التأشيرة المعقدة. وقد تم قبول طلبها فيما بعد لاستكمال التسجيل في دراسات الماستر في جامعة السوربون العريقة، وكان ذلك بالنسبة لها فرصة كبيرة أخرى لم تكن تتوقع أن يمنحها القدر لها ذات يوم. وقد اضطرت لتوفير مستحقات الدراسة وتسديد مصاريف السكن والمعيشة، للعمل مساء في مطعم لا يبعد كثيراً عن الحي الذي تقيم فيه.

بعد أن استعدت نشاطي بدش ساخن، أغلقت باب المكتب والباب الخارجي، وطفقت خارجاً. فغالباً ما كنت آخر مَن يخرج من المكتب، وفي بعض الأحيان كنت أدخل مكتبي ليلاً بسبب متابعة مشاريع شركتنا الموزعة على ورشات في مدن أوروبية عديدة.

شغَّلت محرك السيارة، وما هي إلّا لحظات حتى انطلقت بالغولف الجديدة. في حقيقة الأمر مذ جلبت لي إدارة الشركة هذه السيارة، تيسرت تنقلاتي وبتُ قادراً على السفر في أي وقت أشاء. كما تتحمل الشركة كذلك تكلفة البنزين، وهو ما أراحني كثيراً.

الطريق شبه خالية، والغولف تنهب الأرض نهباً، وصوت أزنافور العذب يتدفق من راديو السيارة وينفذ إلى أعماقي المظلمة، بشذاه يزيح ستار العتمة عن روحي ويضفي أشعة البهجة على نفسي المتعبة. أستمتع كثيراً في هذا الجو، ولا أشعر إطلاقاً بوطأة الطريق ووعثاء السفر. سرحت في مغامراتي في الجامعة مع صديقَي في كلية الهندسة، إبراهيم التارڤي المالي وأحمد بابا الموريتاني. وقد استمرت صداقتنا لما بعد الجامعة، ففي باريس أصدقائي الجزائريون لا يعتبرونني جزائرياً صِرْفاً، بسبب أمي الفرنسية الأصل وما يتردد عن موقف أبي من الثورة التحريرية، وأصدقائي الفرنسيون لا يعتبرونني فرنسياً أصيلاً بسبب عرق أبي الجزائري الأصل. غالباً ما كنت أجد نفسي أكثر قرباً من أصدقائي من جنسيات عربية أو إفريقية أو لاتينية.

كثيراً ما كنا، أنا وإبراهيم، نتهكم على أحمد بعد أن يصبغ شعره بالأسود القاتم، الذي اشتعل شيباً في سنواتنا الأخيرة في الجامعة، كان يبلغ به الغضب منتهاه من تصرفنا ذاك، ويغادرنا متذمراً وهو يتمم وينعتنا بأشنع النعوت. كما كنّا، أنا وأحمد، نسقط على قفوينا من شدة الضحك على اختفاء إبراهيم الذي كان بمثابة اللغز، بعدما استعار مني مبلغ 35 يورو من أجل اقتناء كتاب عن تاريخ الرجال الزرق، وجده معروضاً على رفوف متاجر الفناك، على أن يرجعه لي في نهاية الأسبوع. مذ ذاك اليوم لم يظهر إبراهيم، ولم يتصل، ولم يُعد لي ثمن الكتاب!

من عادتي التوقف في محطات الاستراحة مرة أو مرتين على الأقل، للتزوّد بالوقود أو الاستراحة وكسر جوع بطني، لكن هذه المرة كنت أسوق دون انقطاع!

تستغرقني الذكريات وتأخذني بعيداً، إلى رائحة أبي، إلى صدى صوته وهو يؤنبني عن أخطائي الصغيرة والكبيرة، إلى ملامح وجهه حينما يغضب أو يفرح، إلى عمق عينيه العسليتين حيث يدفن وجعه الذي مات معه.

أبي الذي عاش فيه وجع بلده بعدما غادره مضطراً مع قوافل الكولون، زاره مرة أو مرتين بعد الاستقلال، شوقه لوطنه اشتعل أكثر بعد اللقاء كما كانت تخبره أمي.

عاش أبي في برد الغربة محروماً من دفء وطنه، ورافقه هذا الشعور إلى حفرة قبره الرطبة. دفع أبي ثمن خيار لم يكن له يد فيه، دفع ثمناً باهظاً كلفه الابتعاد عن الأرض التي لم يحب أرضاً غيرها. كلّما كان أبي يسرد على مسامعي تلك القصة البشعة، كان خيالي يذهب بي بعيداً، إلى إعادة تشكيل تلك المشاهد والصور المفزعة.

تتزاحم مجدداً في ذهني المشوّش الصور والمشاهد، الظلام يلف المكان، القمر في تلك الليلة الظلماء توارى عن الظهور، الطرق على الباب لم يتوقف، الطفل الذي كانه أبي يفتح الباب. تفاجأ برجال مدججين بالأسلحة يطلبون منه أن ينادي على أبيه؛ جدي الحاج بلباي زهري.

أدخلهم جدي إلى دار الضياف، ثم اتجه إلى السَّدَة لجلب صرّة المال، وطلب من جدتي تركية بن قانة تحضير العشاء، أرى صورتها وهي تسابق الزمن بين الطبخ في القِدْرِ وبين طهي خبز الكسرة على طاجين الطين.

منحهم جدي مبلغ الاشتراك غير منقوص، وأحضر لهم صينية الطعام، طلبوا من جدي الخروج للحراسة، وانهمكوا في الأكل بشراهة.

كان أبي مذعوراً ليلتها، وهو يراهم يدخلون إلى حُوشْ الدار وجدي ليس معهم، أدخلوا أبي وإخوته وأخواته إلى غرفة وأغلقوا عليهم الباب، وبقى أربعة منهم معهم يحرسونهم، والخامس بقي خارج الغرفة. كان أبي يتفرس فيهم ويحدث نفسه: "إنّهم مثلنا. ملامحهم عربية، ويتكلمون بالعربية، لو كانوا فرنسيين لأتوا نهاراً، لقد اعتدنا مضايقات الجنود الفرنسيين في النهار، واليوم نتعرض لمضيقات أخرى ليلا، ومن بني جلدتنا!".

بعد لحظات سمع أبي صرخة مدوية من أمه، صرخة قهر وخذلان، صرخة مزقت حشاه الصغير. لما غادر الجنود الدار وابتعدوا في اتجاه الهضبة التي تقود إلى طريق شوكية، تفضي بدورها إلى الحقول والأجمات ومنها إلى الغابة الجبلية، لمح أبي جدي بلباي أمام عتبة الباب وعلى وجهه رضوض  وكدمات، والدماء تندلق من أنفه، والدموع تتدفق من مقلتيه في صمت، وهو منكمش ويديه على رأسه. في حين كانت أمه تركية في غرفتها وڤَنْدُورَتها ممزقة من الأعلى، وشعرها غير منسق ونواحها يخترق القلوب كخنجر صدئ.

لحظة عرف أبي -فيما بعد- هوية هؤلاء الرجال، زاد حقده أكثر. وأصبح ينفر ويشتد حنقه من كلّ شيء يرمز للثورة والكفاح ضد المستعمر، وكان يمتعض ويهيج ساخطاً كلّما سمع جملة "ثوار أحرار" و"مجاهدين أطهار".

وها هي صورة جدي بلباي الذي لم يسبق أن رأيته، تتشكل أمامي مما بقي في ذاكرتي من مخزون روايات والدي، جدي الرجل القوي بقامته الفارعة، ومنكبيه العريضين، ووجنتيه المنتفختين، وبلباسه العربي وشاشه الأبيض كالتاج فوق رأسه. الجميع كان يهابه ويحترمه في الوقت ذاته. جدي الميسور الحال، بأراضيه وممتلكاته، والفلاحين الخَمَّاسَة الذين يشتغلون لصالحه.

لقد كان الجميع يستشيره ويأخذ برأيه، والكل يخاف لحظة غضبه وانقلاب حاله. اعتاد أن يتغلب على كل الصعاب والأزمات الظرفية التي واجهته أو واجهت عائلتنا. يراها تبدأ عظيمة وتنتهي صغيرة، لكن ما حدث تلك الليلة كان مختلفاً جداً، وعظيماً جداً، وبشعاً جداً، وفِعلاً بدون رحمة وتصرفاً يفتقد لأدنى إنسانية. كان فعلاً خسيساً لا يقوى أحد على تحمله، بدأ جرحاً غائراً وهائلاً، وبقي يتسع ويتسع أكثر ويزداد عظمة.

جدي الشامخ الذي تخرّ العيون لنظراته، لم يعد يقوى على لقاء الناس ومواجهة نظراتهم، اختار العزلة واختلى بنفسه في دار الضّياف، نادراً ما كان يخرج منها، مطأطئ الرأس كأنّه مقسوم الظهر، ضاعت ملامح قوته وهيبته، لا يكاد يرفع بصره، هزل جسده وغادر الدم وجهه. كانت عمتي تضع له الطعام على رف النافذة التي تطل على حوش الدار، كانت الصينية ترجع وأغلب صحونها نصف ممتلئة.

بعد ثلاثة عشر يوماً نهض الجميع على صرخة عمتي الكبرى، التي فجعت به يتدلى من غصن شجرة البرتقال، التي وضعت بذرتها أمه حدة بنت علي بن يامينة بجانب الدار ابتهاجاً بلحظة مولده في عام 1889. اختار أن يضع حداً لعار وخذلان الإخوة الأعداء. أن ينتحر شنقاً لأنه لم يقو على الاستمرار أكثر، مات لحظتها في تلك الليلة الظلماء، لحظة طُعنت رجولته وانتهك شرفه. فقط احتاج أقل من أسبوعين كي يعلن عن مغادرته لهذا العالم الذي فقد إنسانيته، هذا العالم الممعن في التوحش.

لحظة عرف أبي -فيما بعد- هوية هؤلاء الرجال، زاد حقده أكثر. وأصبح ينفر ويشتد حنقه من كلّ شيء يرمز للثورة والكفاح ضد المستعمر، وكان يمتعض ويهيج ساخطاً كلّما سمع جملة "ثوار أحرار" و"مجاهدين أطهار"... مجاز في رصيف22

وهرباً من أسئلة الناس الحارقة، ونظراتهم القاتلة، قررت عائلة أبي الانتقال إلى مكان جديد للإقامة به.

على صوت هدير محرك الطائرة، وهي تعبر على الجسر المنصوب أعلى الطريق الذي أقطعه بسيارتي في منظر لا تجد له مثيلاً في مدن أخرى، أفقت من سرحاني، ومن استذكار صور الناس المتتابعة، وصدى أصواتهم، وتلاشت من أمام عيني مشاهد الأماكن المتخيلة التي لم تطأها قدماي من قبل.

بعد أن تجاوزت مطار شارل ديغول، الخيم ذاتها والبيوت العشوائية مكدسة في هضبة على شمالي. كثيراً ما كنت أنفر من رؤية هذا المنظر الذي بات يشوه جمال المدينة، هؤلاء الغجر الذين لا يتورعون عن السكن كيفما شاؤوا، وعلى امتهان التسول حتى في أشد المناطق حساسية، بأم عيني شاهدتهم، مراراً وتكراراً، يتسوّلون داخل مطار أُورْلي الدولي، الذي يذرعه رجال الشرطة والعسكر المدججون بالأسلحة ذهاباً وإياباً، ولا أحد منهم أوقفهم أو منعهم.

وجدت نور في انتظاري، تظاهرت بأن كل شيء عادي وأن لا شيءَ استثنائيّاً هذا اليوم. كانت منفعلة من عدم اهتمامي، لم تتكلم كثيراً، بقدر ما كانت تجس نبضي ويبدو عليها الانفعال من عدم مبالاتي، وأظنّها كانت قاب قوسين أو أدني من أن يكفهر وجهها ويحتدم غيظها. لما أخبرتها بأن تلبس كي نخرج للعشاء، كادت الدنيا لا تسعها من الفرحة التي غمرت قلبها على حين غرة، ثم احتضنتني بشدة، شعرت ببلل دموعها على كتفي. المرأة قد تصنع حروباً دموية بسبب أشياء تافهة، كما قد تعيش أجمل لحظات عمرها سعادة بسبب أشياء بسيطة غير متكلفة.

أخذتها في البداية إلى مطعم راق يعمل فيه أخ صديقي أحمد، كانت مفاجأتها كبيرة بأطباقه التقليدية وفن الطبخ الفاخر، وجو المرح الذي استحضرنا فيه ذكرياتنا الجميلة. أخبرتني نور أن طعم أطباق الأسماك والحساء وثمار البحر وصدفات المحار شهية ولذيذة جداً، كما أنها انبهرت لمذاق الخضار بزيت الزيتون، ولبراعة التتبيل، والتقطيع، والطهو. وأعجبتها مثلجات البندق وصلصة الجوز كثيرا، فكانت تأكل وتردد:

يا إلهي.. يا إلهي لها طعم استثنائي، يا إلهي، الطبخ في باريس هو أسلوب حياة أولاً وقبل كل شيء.

بعد القهوة السادة خرجنا، كانت نور مغتبطة جداً، على وشك أن تقفز من شدة الفرح، وأن تصرخ بأعلى صوتها، وأن تحلق عالياً بأجنحة السعادة. فلم تكن تتوقع أن أتذكر هذا اليوم، وأن أُحَضِّر له، لأنّها معتادة على طيشي وقلة اهتمامي بهكذا مناسبات.

أرادت أن تكتشف أين الوجهة القادمة، لم أخبرها على الرغم من إلحاحها وإصرارها، صممت على الصمت حتى أرفع هرمون شوقها وفضولها إلى أقصى مستوى ممكن.

لم تفهم سبب ذهابنا إلى جسر الفنون، شبكت يدي بيدها وأخذتها نحو السياج المثخن بأقفال العشاق، بصعوبة عثرت على قفلنا وسط ألاف الأقفال، أخبرتها أنّني علقته قبل أيّام ورميت المفتاح في نهر السين. ثم أردفت قائلاً:

مادام هذا النهر يجري متدفقاً فسيبقى حبنا خالداً منهمراً كهذا النهر العظيم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image