بعد فراغ حكومي تجاوز الشهرين، كلّف رئيس الجمهورية قيس سعيّد نجلاء بودن حرم رمضان بتشكيل الحكومة، عملاً بأحكام الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية التي اتخذها، واقتراح فريق حكومي في الساعات أو الأيام القليلة القادمة، "لأننا أضعنا الكثير من الوقت"، على حد تعبيره في مقطع فيديو نُشر على صفحة رئاسة الجمهورية.
واعتبر سعيّد أن تنصيب نجلاء بودن لحظة تاريخية باعتبارها أول امرأة في تونس تتولى مهمة تشكيل حكومة، واصفاً الأمر بـ"الشرف لتونس" وبأنه "تكريم للمرأة التونسية القادرة على القيادة بنفس القدر من النجاح والرؤيا الواضحة كالرجل تماماً"، وداعياً إياها إلى العمل بسرعة على تكوين فريق متجانس يعمل على مقاومة الفساد كعملية أساسية والاستجابة لمطالب التونسيين والتونسيات وتوفير حقوقهم الطبيعية في التعليم والصحة والنقل وحياة كريمة.
نجلاء بودن حرم رمضان، من مواليد 1958، هي مختصّة في علوم الجيولوجيا وأستاذة تعليم عالٍ في المدرسة الوطنية للمهندسين. وكانت تشغل قبل تكليفها مهمة متابعة تنفيذ برامج البنك الدولي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. كما عُيّنت سابقاً مديرة عامة مكلفة بالجودة في وزارة التعليم العالي سنة 2011 وشغلت منصب رئيسة وحدة تصرف حسب الأهداف في الوزارة ذاتها، وكُلّفت بمهمة في ديوان وزير التعليم العالي السابق شهاب بودن سنة 2015.
تبديد المخاوف على مدنية الدولة؟
نال تكليف امرأة بتشكيل الحكومة استحساناً شعبياً واسعاً، خاصة من قبل المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية التي لطالما طالبت بحق المرأة في تولي مراكز ريادية في البلاد. وإنْ اعتبرت هذه الجهات الخطوة إيجابية وغير مسبوقة، فإنها لم تكن تتوقعها، خاصة وأن مواقف سعيّد بشأن الحريات الفردية والمساواة بين الجنسين لطالما أثارت جدلاً وقلقاً في أوساط "الحداثيين"، لا سيّما بعد إعلانه رفض مسألة المساواة في الميراث.
تؤكد عضو الهيئة المديرة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات صبرية فريخة أنها تؤمن بأن التوجهات تتغيّر، لكنها لا تتوقع تغييراً في مواقف ومرجعيات سعيّد بين ليلة وضحاها، لذلك "فإن الجمعية تراهن على بودن وعلى الخيارات الكبرى التي ستتبناها"، خاصة أن "سيرتها الذاتية توضح أنها امرأة تقدمية".
وتشير فريخة إلى أن الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات لا تتبنى مقاربات سلبية تعتبر أن رئيس الجمهورية يحمل أفكاراً رجعية، بل تطالب بالتناصف حتى إنْ عُيّنت حكومة من أقصى اليمين، إيماناً منها بأن "المرأة بإمكانها تحسين وضعية المرأة والمجتمع، حتى أن الإحصائيات تبيّن أنها أقل فساداً".
وتضيف لرصيف22 أن رئيس الجمهورية كان قد استقبل عدداً من رؤساء المنظمات الحقوقية، من بينهم رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وعند مطالبتها بالتناصف في مواقع القرار أجابها بأنه بإمكانه تعيين حكومة كلها نساء لكنها لا تحقق المطالب النسوية لأنه يعرف جيداً أنه "ليس كل النساء تدافعن على حقوق المرأة".
من جانبها، تقول رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة راضية الجريبي لرصيف22 إن تعيين امرأة على رأس الحكومة في دولة مسلمة ولأول مرة في دولة عربية "لا يصدر من شخص لا يؤمن بحقوق المرأة".
وترى أن تنصيب بودن مكسب هام للمرأة التونسية "لأنه اعتراف لها بكفاءتها وقدرتها على تسيير دواليب الدولة ويكرّس مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص المنصوص عليه في الدستور، كما أنه تتويج للاستثمار الذي قامت به تونس في المرأة التونسية منذ الاستقلال واستجابة لمطالب الحقوقيات ونضالهن من أجل المساواة بين الجنسين".
تعتبر الجريبي أن هذا التعيين مفخرة لتونس والتونسيين ويعطي "صورة طيّبة" لتونس في الخارج كما أنه "ضربة موجعة لكل مَن يدّعي أن المرأة التونسية غير قادرة على التسيير وتقلد مناصب هامة".
وتضيف أن تعيين امرأة في هذا الظرف الاستثنائي لا يضعف من المكسب وأنه "ليس تعييناً صورياً كما يروج البعض، بل من شأنه أن يضع حداً لكل مَن يعتبر أن التدابير الاستثنائية انقلاب وتكريس للدكتاتورية وتراجع على الحقوق والحريات".
مكسب جديد للمرأة التونسية
تتسم المرحلة الراهنة التي تمرّ بها تونس بالتنافر بين مختلف التوجهات السياسية والمدنية، وغذّت الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها سعيّد يوم 25 تموز/ يوليو الماضي التناقضات، وأثارت انقساماً بين مؤيدي ومعارضي قراراته. وأتى تعيين امرأة على رأس الحكومة بمثابة حدث نال استحسان معظم الفرقاء ومثّل نقطة اتفاق مشتركة يمكن أن تؤسس لمرحلة جديدة.
تقول رئيسة مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام، وهو مركز حكومي، نجلاء العلاني لرصيف22 إن تعيين امرأة في مركز قيادي مكسب مهم للمرأة وخطوة إيجابية خاصة أن تعيينها مبني على أساس الكفاءة والاستحقاق وجاء نتيجة سياقات تاريخية واجتماعية ومكاسب حقوقية ومن شأنه أن يحفّز المرأة التونسية على خوض تجارب في الحياة العامة والسياسية ويعزز تمثيل النساء في مواقع القرار و"كسر الحاجز البلّوري".
عندما استقبل الرئيس التونسي قيس سعيّد عدداً من رؤساء المنظمات الحقوقية، وعند مطالبته بالتناصف في مواقع القرار بين الرجال والنساء، قال إن بإمكانه تعيين حكومة كلها نساء لكنها لا تحقق المطالب النسوية
وتلفت إلى أن "الرهان كبير في ظل هذا الوضع الاستثنائي"، ما يستوجب تضافر جهود جميع الأطراف للسير بتونس نحو مستقبل أفضل، منوّهة إلى أن مركز البحوث أنشأ أكاديمية سياسية لتحفيز المرأة التونسية على الحضور في المواقع والمناصب الهامة.
من جانبها، تشيد صبرية فريخة بوصول امرأة تونسية إلى منصب بهذا الحجم معتبرة أنه مكسب للمرأة ولتونس على الصعيد العالمي كانت قد طالبت به الجمعية في أكثر من مناسبة للخروج بالمرأة من الصورة النمطية التي توليها فقط وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن.
وتعرب عن سعادتها بهذا التكليف وسط حذر واجب وتساؤلات حول تشكيل الحكومة وبرامجها ورؤيتها ومدى اهتمامها بحل القضايا الحساسة والملفات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة، ما يستوجب، وفق تقديرها التريّث، وتعتبر أن "هذه الخطوة مناورة ذكية من رئيس الجمهورية وخطوة إيجابية".
وتتابع: "نحن كجمعية نؤمن بالإنجازات والتشاركية، وتخوّفنا كبير من الحكم الفردي. وبما أن تعيين الحكومة سيشرف عليه رئيس الجمهورية فلن نخرج من الحكم الفردي، ولذا وجب على الحكومة أن تنفتح على المنظمات وتأخذ بعين الاعتبار مطالب القوى التقدمية ومطالب الثورة"، مؤكدة أن "التعيين بمفرده إيجابي لكنه غير كاف".
تكليف في مرحلة حرجة
تزامناً مع الاحتفاء بخطوة تعيين امرأة في رئاسة الحكومة، تنامت مخاوف حول إمكانية إضعاف هذا المكسب في ظل ظرف استثنائي تم خلاله تجميع كل السلطات بيد طرف واحد هو رئيس الجمهورية والحديث عن عودة الدكتاتورية والحكم الفردي، ما يستوجب تعيين شخص "مطيع".
ترى رئيسة جمعية تونسيات منية مزيد أن تنصيب امرأة لتشكيل الحكومة مكسب للمرأة التونسية بغضّ النظر عن الظرف السياسي الذي تمر به البلاد، خاصة وأنها اختيرت من ضمن العديد من المرشحين الرجال، وهو أمر يُحسَب لها، ويمكن أن تكون خطوة ناجحة نحو حلحلة الأزمة الراهنة.
"المرأة بحكمتها وقدرتها على تسيير الأمور بإمكانها إطفاء لهيب الأزمة في الحكم، كما أنها بقدرتها التواصلية أقدر من الرجل على تحسين الظروف في القنوات التواصلية بين الفرقاء السياسيين والمنظمات والدولة"
وتضيف لرصيف22 أن المرأة بحكمتها وقدرتها على تسيير الأمور بإمكانها إطفاء لهيب الأزمة في الحكم، كما أنها بقدرتها التواصلية أقدر من الرجل على تحسين الظروف في القنوات التواصلية بين الفرقاء السياسيين والمنظمات والدولة، ووجودها فيه خير للبلاد.
وبخصوص مجيء الخطوة في خضم سجال حول الشرعية والمشروعية، تعتبر مزيد أن الوضع الحالي من شأنه إضعاف المكسب لأن البعض اعتبره "جندرة للانقلاب" مضيفة: "لن أخوض في نوايا مَن رشحها، فربما عُيّنت لأن المجتمع المدني والدولي مع مناصرة المرأة وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، لكن الأهم أن هذه فرصة للمرأة لتثبت كفاءتها، خاصة وأنها المرة الأولى التي تتولى فيها منصباً بهذا الحجم في تونس وفي العالم العربي".
وحول إمكانية تشكيل فريق حكومي نسوي بامتياز، تشير مزيد إلى أن السائد والمعمول به لدى النساء اللواتي يتولين مناصب مهمة هو تكوين فريق نسوي يقصى فيه الرجل في غالب الأحيان، لكنها تعتبر أن هذا الأمر خاطئ لأن التعيين يجب أن يكون على أساس الكفاءة والنزاهة ونظافة اليد، مذكّرة بأن الدفع نحو تمكين المرأة من مناصب هامة أساسه الكفاءة وقيمتها المعرفية والأكاديمية وهذا يجب أن يكون المقياس الحقيقي والوحيد.
وفي سياق متصل، تقول مزيد إن المؤلم في هذا التعيين هو أن البلاد في ظرف صعب والحكومة لن تنال ثقة مجلس نواب الشعب وعُيّنت نجلاء بودن بإجراءات استثنائية، معربةً عن تمنياتها بعرض الحكومة على البرلمان لنيل الثقة "لكي لا يؤوَّل تنصيبها على رأس الحكومة على أنها امرأة وتقبل التعيين بهذا الشكل".
ترحيب حذر
معظم الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية أعربت عن تثمينها لمبادرة رئيس الجمهورية بتكليف امرأة بتشكيل الحكومة، إلا أن المخاوف من ضبابية المستقبل في تونس ومن استمرار الإجراءات الاستثنائية بات يؤرق الجميع.
وثمنت جمعية "أصوات نساء" في بيان لها قيام رئيس الجمهورية بتعيين رئيسة حكومة لأول مرة في تاريخ تونس، معربةً عن أملها في أن يتواصل هذا النَفَس المناصر لتكليف النساء التونسيات بمناصب قيادية داخل الدولة التونسية عبر ضمان التناصف التام بين أعضاء وعضوات الحكومة الجديدة.
وفي المقابل، عبّرت الجمعية عن "انشغالها بما آلت إليه الأوضاع القانونية في البلاد التونسية من جمع للسلط بيد رئيس الجمهورية وإلغاء أية إمكانية للطعن في مراسيم رئاسة الجمهورية، في تعارض تام مع مبادئ الجمهورية ودولة القانون، خاصة مع عدم وجود تسقيف زمني لهذه الإجراءات".
بدوره، اعتبر "حزب الأمل" في بيان أن تولّي سيدة تونسية رئاسة الحكومة يُعَد فخراً لكل التونسيين وأمراً يعزز ويتوج المسيرة التحررية للمرأة التونسية، "غير أن هذا الاختيار لا يجب أن يحجب مقياسيْ الكفاءة والمقدرة القيادية اللذين يتقدمان كل المقاييس الأخرى في الميدان السياسي".
كما نبه الحزب إلى أنه "لا يحق لرئيس الدولة دستورياً، لا أن يعزل رئيس الوزراء ولا أن يعيّن خلفاً له، وأن الأمر عدد 117 الذي منح بموجبه الرئيس قيس سعيد لنفسه مثل هذه السلطات باطل قانوناً، وما ينبني على الباطل فهو باطل".
من جهته، ثمّن حزب "حركة تونس إلى الأمام" تعيين امرأة على رأس الحكومة معتبراً أن "تعيين امرأة على رأس الحكومة يُسقط كل حملات التشكيك في مصير الحريات الفردية والعامة التي من أسسها حرية المرأة، وكذلك في آفاق التعامل مع مجلة الأحوال الشخصية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...